الحصول على هذه المادة بهيئة ملف PDF
ارتفعت وتيرة استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بشكل غير مسبوق، حيث صرح مسؤولون في البنتاغون أن ما لا يقل عن 74 هجومًا على القوات الأمريكية في العراق وسوريا خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، وأصيب العشرات من الجنود الأمريكان نتيجة لتلك الهجمات، وتفاوتت الإصابات بين إصابات مؤلمة في الدماغ أو إصابات طفيفة.
وردّت الولايات المتحدة على هذه الهجمات بشن غارات جوية على أهداف مرتبطة بالميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق. وقال البنتاغون أن الولايات المتحدة نجحت في ردع أي أعمال تصعيدية من شأنها توسيع الصراع خارج إسرائيل وغزة على الرغم من الهجمات المستمرة على القوات الأميركية.
وبينما تتوالى الأخبار حول الهجمات على الأميركية في سوريا والعراق، بادر السيناتور الأمريكي عن الحزب الجمهوري “راند بول” إلى تقديم مشروع قانون للكونغرس يطالب بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، ومن المتوقع أن يتم التصويت على المشروع في وقت مبكر من الأسبوع القادم (ديسمبر 2023) وفي حال اعتماده سيُلزم إدارة بايدن بسحب القوات الأمريكية من سوريا في غضون 30 يوماً.
فما مدى تأثير أو ارتباط هذه العمليات فعلياً بأحداث غزة -7 أكتوبر-، وما هي التبعات الفعلية لهذا التصعيد ؟
– لا يسمح الدستور الأمريكي بإعلان الحرب إلا بعد موافقة الكونغرس؛ لكن الإدارات الأمريكية في العديد من الحالات، تتدخل وتنشر قواتها وتشن الحروب في البلدان الأخرى دون إعلان الحرب ودون أخذ موافقة الكونغرس، ويحدث ذلك في سياقات مختلفة، مثل الهجمات الاستباقية لمواجهة التهديدات المحتملة على الأمن القومي.
– منذ احتلال العراق وما صاحب ذلك وترتب عليه من تطورات سلبية على مستوى الشرق الأوسط والعالم، هناك نقاش مستمر في الولايات المتحدة حول التحرك العسكري للولايات المتحدة خارج حدودها وطبيعة التحركات العسكرية الأمريكية بشكل عام.
– تتمتع الولايات المتحدة الأميركية بحضور عسكري معتبر في سوريا يشمل قواعد ذات طبيعة ارتكازية ونقاط عسكرية متقدمة لدعم المعارك والمواجهات العسكرية ضد تنظيم داعش ومساندة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
التواجد الرسمي للقوات الأمريكية على الأرض السورية ابتدء في أكتوبر 2015، بعدد محدود من الجنود (حوالي 50 جندياً)، وتصاعد تدريجياً ليصل إلى حوالي 2000 جندي، ثم تم تخفيضه لاحقاً إلى حوالي 900 جندي أمريكي، ومنذ أن وطئت أقدام الجنود الأمريكان الأرض السورية، وهناك انقسام داخلي على مستوى الكونغرس والإدارة الأمريكية والمؤسسة العسكرية حول جدوى وتبعات تواجد جنود أمريكان في سوريا.
– الوجود الأمريكي العسكري الرسمي في سوريا جاء في البداية في إطار محاربة داعش -ومن في حكمها-، لاحقاً -منذ 2018 وما بعدها- تم تلخيص الغاية من الوجود الأمريكي في سوريا بثلاث نقاط (فشلت الإدارة الأمريكية في تحقيقها جميعاً):
– مواجهة النفوذ الإيراني ومنعها من إقامة ممرها البري الذي يربط بين ايران ولبنان.
– منع عودة ظهور تنظيمات متطرفة مثل الدولة الإسلامية والقاعدة.
– الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تنهي حكم عائلة الأسد.
– الهدف الفعلي الوحيد الذي تحرز الولايات المتحدة تقدماً فيه من خلال تواجدها في سوريا وتحديداً في شرق سوريا، هو “دعم قوات سوريا الديمقراطية”، وحمايتها وضمان استمرار سيطرتها على الموارد الاقتصادية، وتمكين “الإدارة الذاتية” من ترسيخ أقدامها على الأرض، كطرف ثالث إلى جانب النظام والمعارضة، في سوريا.
– كان من المفترض أن يمثل الانسحاب الأمريكي من سوريا محطة تطوير للعلاقات الطبيعية بين الولايات المتحدة وتركيا، ولكنه بشكل ما تحول إلى أزمة بين الولايات المتحدة والعديد من دول المنطقة ومنها تركيا، إذ يحاول كل طرف تعويض الوجود الأمريكي على طريقته الخاصة، بينما تصر الولايات المتحدة على إنفاذ أجندتها.
– رغم الاختلافات الكبيرة في طبيعة وأجندات الدول والجهات المتنفذة في الشأن السوري، إلا أن مسألة الانسحاب من سوريا أحد النقاط القليلة وربما الوحيدة التي تتوافق عليها معظم هذه الأطراف وخصوصاً (روسيا وتركيا وإيران)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل طرف دوافعه ورؤيته الخاصة حول عملية الانسحاب الأمريكي هذه.
– يمكن القول أن هذه الأطراف ومنذ اليوم الأول لتواجد الولايات المتحدة على الأرض السورية لم تكن مرتاحة ابتداء لهذه الخطوة ولاحقاً لم تعد راضية عن استمرار هذا الوجود ولا ينفك كل طرف منها “يشاغب” على الوجود الأمريكي كل بطريقته الخاصة، إذ تمارس روسيا ما تسميه الولايات المتحدة بالاحتكاك اللامهني بقطعاتها العسكرية، بينما توسع تركيا باستمرار من دائرة عملياتها الخاصة في شرق سوريا مستهدفة حزب العمال الكردستاني والتنظيمات والتشكيلات والشخصيات المرتبطة به، كما تمارس ضغطاً سياسياً مستمراً لدفع الولايات المتحدة للانسحاب وإسناد كل أو جزء من الدور الذي تلعبه قواتها في سوريا الى الجيش التركي، بينما تعمد إيران عبر الميليشيات المرتبطة بها إلى اعتراض عمل القوات الأمريكية المتواجدة في سوريا والعراق، وتقصف القواعد والنقاط العسكرية الأمريكية بالصواريخ دون إيقاع خسائر فعلية في الغالب.
– هناك انطباع أو قناعة بأن الأوساط التشريعية والسياسية في الولايات المتحدة لا تدعم فكرة الانتشار الأمريكي في الشرق الأوسط عموماً بالشكل الذي عليه الوضع الآن، كما أن فكرة استمرار الوجود الأمريكي في سوريا لا تحظى بالكثير من الدعم، ولكن جهات ومسؤولين متنفذين في الإدارة الأميركية وفي الجيش والأمن يصرون على بقاء هذه القوات ويرون في انسحابها تقويضاً لجهود الولايات المتحدة في فرض الأمن والاستقرار، وتخلياً عن الحلفاء -قسد-.
– تبعاً لهذا، تتصاعد حدة التحركات ضد الوجود الامريكي في سوريا من قبل مختلف الأطراف كلما توفرت الظروف والعوامل المساعدة، وخصوصاً عمليات القصف التي تمارسها الميليشيات المرتبطة بإيران في سوريا، ولكنها تأتي في سياق المشاغبة على الوجود الأمريكي وليس محاولة إيقاع الخسائر في صفوفه، إذ تدرك إيران أن إيقاع خسائر فعلية في صفوف القوات الأمريكية ستترتب عليه ردة فعل أمريكية قاسية.
– بالمقابل فإن توجيه الضربات للمصالح الأمريكية بدون إيقاع خسائر، يترتب عليه رد أمريكي محدود على المستوى العسكري، ولكن أصداؤه في الأوساط الأمريكية ليست بالهينة إذ يتسبب بإعادة فتح النقاش حول جدوى وتبعات التواجد الأمريكي في سوريا ويرجح بشكل أو بآخر المقترحات الداعية للانسحاب الأمريكي.
– وبالتالي فإن المقترح الذي تقدم به السيناتور “راند بول” مؤخراً حول انسحاب القوات الأمريكية من سوريا على وقع الهجمات على القوات الأميركية، ليس الأول من نوعه، والحقيقة أن انسحاب القوات الأميركية من سوريا -والعراق أيضاً- بات أمراً متكرر الطرح، وليس فقط فيما يخص الوجود العسكري في العراق وسوريا، بل وفي الشرق الأوسط، إذ تقترح العديد من الجهات في الولايات المتحدة إعادة النظر بطبيعة وأعداد القوات المنتشرة في الشرق الأوسط وتقييم دورها.
– هناك ثلاث مناسبات عادة ما يناقش فيها انسحاب القوات الأميركية من سوريا:
– لدى تغيير الإدارة الأمريكية، فمنذ عهد أوباما أصبح السؤال المتعلق بمصير القوات الأميركية في سوريا ودورها أحد الأمور التي تحتاج الإدارة الجديدة لبيان موقفها بخصوصه.
– لدى تعرض هذه القوات أو القواعد/النقاط الأميركية لهجوم من نوع ما، حيث دائماً ما تتسبب هذه الهجمات بإثارة سؤال الدوافع والدور المنوط بهذه القوات والحاجة إلى بقائها من عدمه.
– لدى إقرار ومناقشة الميزانيات العسكرية، حيث تتضمن هذه المناقشات عادة الميزانيات التي تخصصها الولايات المتحدة لمساعدة حلفائها في سوريا وأيضاً ميزانية القوات الأمريكية المتواجدة هناك وطبيعة الدور المنوط بها.
باختصار: فإن الحرب الدائرة في غزة والتوتر العسكري وحاجة الولايات المتحدة وإسرائيل إلى التركيز على الجبهة الفلسطينية الداخلية، كل هذا يشكل بالنسبة للميليشيات المرتبطة بإيران، فرصة ملائمة لتصعيد وتيرة عملياتها ضد المصالح الأمريكية في سوريا والعراق، ولكن ليس بهدف إيقاع الخسائر أو تدمير هذه القواعد والنقاط العسكرية، وإنما بهدف إثارة النقاش في الأوساط الأمريكية (الكونغرس، الإدارة الأمريكية… الخ) حول جدوى وتبعات استمرار الوجود الأمريكي في مقابل المخاطر المترتبة على هذا التواجد في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة لتوجيه الموارد العسكرية للتركيز على تحديات أوسع في مناطق أخرى.