***توبا هيلرشتاين(Toba Hellerstein): هي محلل شؤون الشرق الأوسط في ستراتفور. وتشمل مجالات خبرتها السياسية والاقتصادية والأمنية في مناطق بلاد الشام وشمال أفريقيا والخليج…
لا يختلف تعقيد المشهد في سوريا كثيرًا عما كان عليه الحال إبان ولادة سوريا الحديثة من أنقاض الدولة العثمانية. فخلال حكم السلاطين العثمانيين، تعايشت الثقافات والأعراق المختلفة بسلام منتج، لكن القوى الأوروبية التي ورثت سوريا بعد الحرب العالمية الأولى كانت غير مهتمة بما يكفي لحماية تميز سوريا وفرادتها في إيجاد تعددية ناجحة ومسالمة. وهو ما تسبب مباشرة في خلق عقود طويلة من الاستبداد في سوريا، والآن وصلت الفصائل المتحاربة في سوريا إلى مرحلة لم تعد تتحدث فيها عن سوريا متماسكة من جديد. ومع هذا، تبقى الدروس المستفادة من الدولة العثمانية الأفضل للمضي قدمًا في أمل التحول من دولة محبطة وفاشلة إلى دولة واحدة ومتنوعة من جديد.
بعد قرون من الحكم العثماني، خرجت سوريا من الحرب العالمية الأولى في شكل جديد تمامًا لم تعهده من قبل. فتحت حكم العثمانيين كانت المنطقة التي تعرف بسوريا الآن عبارة عن مجموعة من الولايات أو المحافظات، وفي بعض الأحيان شملت هذه الولايات مما بات يعرف الآن بلبنان أو “إسرائيل” حتى. لم يكن سكان الولايات هؤلاء متجانسين، وكذلك كانت ولايات العثمانيين تتألف من مجموعة كبيرة من الأعراق والهويات الثقافية والهياكل الاقتصادية. وبعد مرور 400 عام على الحكم العثماني ترسخت خصوصيات معينة في النظام العام بهذه المناطق. في العصر الحديث، وقبل اندلاع الحرب الاهلية الحالية، كانت الأحياء والمدن مقسمة بناء على تمايز ثقافي، فحي قد يسكنه الأرمن وآخر يقطن فيه الأشوريين. أذكر شخصيًا الأحياء والأسواق الكردية الشعبية حيث يأتي الباعة مرتدين ألوانًا زاهية لبيع الفواكه والخضروات من الريف.
في الواقع، إن الطريقة التي حكمت بها سوريا عززت استقلالية هذه الطوائف العرقية والدينية المتميزة. فرض العثمانيون سابقًا سياسة تعددية بهدف إسترضاء العرقيات المختلفة. وعملوا على محاربة الحركات القومية وصعودها التي كان المسلمون والمسيحيون واليهود يسعون إلى تأكيد هوياتهم الخاصة، وبالتالي لم يكن هناك حاجة للتنافس على السلطة. فكل جماعة دينية والتي عرفت باسم “الدخن” حظيت بممثل لها في اسطنبول وسمح لها كذلك بتنظيم شؤونها الخاصة بما في ذلك التعليم والخدمات والأعمال الخيرية والاجتماعية حتى أن هذه الحرية شملت قدرتهم على تحديد بعض المعايير القانونية التي كانوا يعيشون ضمنها. “الدخن” هذه سيطرت على كل الخلافات الداخلية كالزواج والطلاق والميراث بالإضافة إلى تحصيل وتوزيع الضرائب. وفي سوريا الحديثة، ظلت بقايا هذا النظام في بعض التفاصيل المعينة، فالجميع يعرف أنه عليه التوجه إلى الحي الأرمني للحصول على الفضة.
إبان انتهاء الحرب العالمية الأولى، قسمت الدول الأوروبية المنتصرة الأرض العثمانية مرة واحدة. بكل تأكيد، عمل الأوروبيون على التسلل بشكل تدريجي إلى الشرق الأوسط، حيث تمتع الأوروبيون بإعفاءات ضريبية ومستوى أمني عالٍ مكول بموجب اتفاقات الإذعان التي فرضها الأوروبيون على العثمانيين. ولكن بعد الحرب، تفاوضت القوى الأوروبية على تقسيم المنطقة بشكل واضح مبني على تحديد مناطق النفوذ. والناتج كان اتفاقًا سريًا وقع عليه ( مارك سايكس وفرانسو جورج بيكو) في ربيع 1916. شمل الاتفاق الموقع حدودًا مرسومة لم تحترم تاريخ المنطقة أو المخاوف السياسية للجماعات داخلها. وبدلًا من ذلك، ركز الاتفاق على تقسيم الشرق الأوسط بين الفرنسيين والبريطانيين.
وبلا شك، فإن الطريقة التي نتجت عن هذا الاتفاق أوصلت الشرق الأوسط إلى عدد من الصراعات الكبيرة فيما بعد الحرب العالمية الأولى. فرنسا سعت عبر هذا الاتفاق كي تبقى قوة محورية في الشرق الأوسط، وذلك عبر فرض سيطرتها على مناطق جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان، وهو ما دفع سكان “سوريا الكبيرة” للتشرد والتشتت نتيجة الخضوع لتقسيم مصطنع.
إبان الانتداب الفرنسي، تغيرت الحياة في سوريا بشكل دراماتيكي، فالحكم الذاتي الذي تحقق للجماعات في سوريا إبان حكم العثمانيين تقلص إلى حد كبير في ظل الحكومة الفرنسية المركزية وحظرت الأنشطة السياسية والصحف الرسمية. عدا عن اعتماد فرنسا على سياسة ” فرق تسد” والتي ساهمت في إعطاء ميزات جديدة لبعض الطوائف الصغيرة مقابل حرمان الآخرين منها. وشكلت طائفة المسيحين الموارنة الطائفة المفضلة للفرنسيين وذلك بدعوى حمايتهم من الأغلبية السنية. وعلى الرغم من إعلان سوريا استقلالها في عام 1944 إلا أن الحكومة الجديدة تبنت المنهج السابق الذي اتبعه الفرنسيين، فقام الحكام الجدد بتهميش عدد من الأقليات السورية كالشيعة والأكراد والأشوريين والدروز والأرمن. وباتت المخابرات العامة هي الصبغة الأبرز في حياة السوريين منذ ذلك الحين.
حقائق معاصرة
الآن، وبعد خمس سنوات من الحرب الأهلية في سوريا، كثير من التحديات التاريخية لا تزال قائمة في المنطقة. فلا تزال سوريا حتى اللحظة الساحة التي تخوض فيها القوى العالمية معركتها من أجل النفوذ مستغلة تواجد عدد كبير من الطوائف الدينية والعرقية هناك.
قبل الحرب، كان التراث الثقافي المتنوع في سوريا مصدر فخر وطني كبير، أما الآن فقد أصبح مصدرًا للعنف. وعندما ينتهي الصراع في سوريا إلى تشكيل نظام سياسي ستتحول هذه المجموعات نحو تنافس جديد داخل سياسي داخل النظام الجديد وهو ما يشبه إلى حد ما الحكم الاستعماري الفرنسي السابق بحيث يعتمد على المركز والقهر الكبير. ولكن يبقى هناك خيار آخر، حيث يمكن للحكومة السورية الجديدة بدلًا من من هذا أن تأخذ العظة من حكام سوريا فيما قبل الحرب العالمية الأولى من خلال تمكين المجتمعات المتباينة عبر الحكم الذاتي وربما حتى عبر التقسيم.
الأسد نفسه، تجسد فيه بعض الاحترام العثماني للأقليات، فتحت حكم الأسد تم موازنة التقسيم التعسفي للجماعات العرقية والدينية ضمن الدول الحديثة بما يلبي حاجات المجتمع. فأنا رأيت بنفسي في دمشق صديقًا لي كان يعمل في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة كان قد رافق بعض الطلاب الدروز من سوريا إلى إسرائيل كل صيف بهدف زيارة عائلاتهم وراء الحدود. كما سمح الأسد للجالية اليهودية الصغيرة التي بقيت في سوريا بزيارة عائلاتهم في إسرائيل.
للمضي قدمًا، يجب على سوريا الجديدة أن تتبنى نفس البراغماتية. فعلى قادتها استيعاب الجماعات العرقية والدينية المتنوعة التي وجدت قبل ظهور الدولة الحديثة بفترة طويلة، والتي تدعي ملكيتها للأرض وفق التراث الثقافي والحق القانوني. ويبدو أن الحدود التي نشأت بناءً على اتفاق سايكس – بيكو ورسمت قبل قرن من الزمن عاشت أكثر بكثير من فائدتها، هذا إن كانت مفيدة في لحظة من اللحظات. وهذا يحتم على الجميع إعادة النظر في هذه الحدود في ضوء الواقع الاجتماعي والسياسي بشكل عميق بما يشكل بداية لحل فعال دائم للحرب في سوريا.