وفقاً لمعايير الانقلابات العسكرية، بدا الأمر حقيقياً لبعض الساعات: حظر للتجول والطائرات والمروحيات والدبابات والتلفزيون والبنى التحتية تحت سيطرة الجيش. ثم كان ظهور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر برنامج فيس تايم على قناة تلفزيونية خاصة بثبات تعلوه بعض الدهشة داعياً الشعب التركي إلى التوجه إلى مطار أتاتورك في إسطنبول ومنتجاً تحركاً شعبياً تقليدياً. وفي الوقت الذي بدأ الناس فيه بالتظاهر والانتشار، كانت قوات الشرطة والأمن الموالية لأردوغان تخوض اشتباكات ضد قوات الجيش المنقلبة وبدأت بنزع سلاح الجنود.
لاحقاً، هب الرئيس الأمريكي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) ينس شتولتنبرج، وحتى أحزاب المعارضة التركية الرئيسية الثلاثة وأجمعوا جميعاً على ضرورة احترام الجميع للحكومة التركية المنتخبة ديمقراطياً. وسرعان ما بات واضحاً أن الانقلاب استخدم وسائل محدودة إلى درجة ما، ولم يحظَ بدعم عال على مستوى هيئة الأركان العامة التركية. لم ينجح المنقلبون في إقناع القوات المسلحة الرئيسية بالوقوف إلى جانبهم، وفشلوا بذلك بالسيطرة على البلاد، فيما كان رئيس الوزراء قادراً على إصدار بيان يؤكد فيه سيطرة السلطات الكاملة على البلاد.
ومع قرابة ٢٦٠ قتيلاً وما يزيد على ١٤٠٠ جريح واعتقال ما يصل إلى ٣٠٠٠ جندي – حتى لحظة كتابة المقال، بدأت تركيا في الدخول في مرحلة صعبة من تاريخها. التغيير هنا ليس فقط على صعيد التقاليد القديمة المتعلقة بالانقلابات العسكرية – والتي تشير نتائج استطلاعات الرأي إلى رفض أي انقلاب عسكري بنسبة ٨٠٪ وهي نسبة أكبر من تأييد حزب العدالة والتنمية الحاكم ٥٠٪ – وهو ما قد يعود على تركيا بنفع كثير، لكن الأمر قد ينطوي أيضاً على فقدان هيبة كبيرة.
جاء الانقلاب بعد أيام معدودة من قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتي تعهدت بدعم قوي لتركيا لمواجهة داعش. اقتصادياً، ستتجاوز الخسائر قطاع السياحة ومكانة إسطنبول كمركز جوي عالمي – إنجازات هامة تحسب لأردوغان – والتي اهتزت فعلاً بسبب الإرهاب وبالتأكيد ستتسبب محاولة الانقلاب هذه في مزيد من الإخلال بهما.
داخلياً، ستكون العواقب شديدة للغاية فيما يتعلق بسيادة القانون والاستقطاب في البلاد. حيث من المتوقع أن تجري محاكمات كبيرة لعدد كبير من الضباط المتهمين بالتخطيط لمحاولة الانقلاب هذه وسبق لرئيس الوزراء بن علي يلدريم أن لمح إلى احتمال إعادة عقوبة الإعدام لمحاكمة المتورطين. هذه لوحدها ستأخذ تركيا بعيداً عن معايير الاتحاد الأوروبي ويمكن أن تعني عملياً تعليق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (على الأرجح هذا آخر اهتمامات القيادة التركية حالياً). الأكثر تدميراً سيكون متعلقاً بمطاردة أتباع وأنصار رجل الدين التركي المنفي فتح الله غولن.
دولياً، صوت الغرب لصالح أردوغان خلال الأيام الماضية وهو ما يعود لأسباب بسيطة جداً، فالولايات المتحدة تملك أصولاً عسكرية متمركزة بشكل دائم في قاعدة سلاح الجو أنجرليك في تركيا التي يستخدمها التحالف الدولي لعملياته اليومية في مكافحة داعش في شمال سوريا. وفي الوقت الذي تعاني فيه داعش تحت ضغط الهجمات الدولية في مناطق منبج والرقة فلا يمكن اعتبار أن هذا هو الوقت المناسب لتعطيل العمليات العسكرية في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات تنسيقية بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا.
والأهم من هذا هو ما كان متوقعاً من أنقرة كخطوات حاسمة ضد داعش على الرغم من خطر الانتقام الذي تواجهه تركيا بشكل مستمر. فالحركة الإرهابية هذه تملك خط شريان واحد وواحد فقط يمتد على طول الحدود السورية التركية بين نهر الفرات والمنطقة الغربية ذات الأكثرية الكردية في عفرين.
وعلى الرغم من الانخفاض الكبير في أرقام الجهاديين والذخائر عمليات تهريب النفط إلا أن داعش ما زالت على قادرة على التحرك في أنحاء مختلفة حول العالم. ونظراً لمرونة داعش وهجماتها التي قادتها في فرنسا وبلجيكا والهجوم الأخير المنسوب إليها في نيس الفرنسية، كانت القوى الغربية تخطط للضغط بكامل قوتها ضد داعش. وتركيا لم تكن صاحبة موقف مختلف على الرغم من محاولاتها لسنوات لإدارة العلاقة مع داعش، وما زلنا نبحث في مدى تأثير الانقلاب الفاشل على تحركات أنقرة لمحاربة داعش!
وبالمثل تسببت العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في جنوب غرب تركيا بخسائر فادحة في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء، وأدت إلى تدمير أحياء كاملة في مدن مثل سيزر ونصيبين. يتفق جميع المحللين على ضرورة استئناف علمية السلام مع الأكراد والتي كانت قد انطلقت قبل بضعة أعوام فقط وتوقفت في يوليو ٢٠١٥. لكن هل ستكون القيادة مستعدة وقادرة على التحول إلى عملية تسوية سلمية بعد محاولة الانقلاب الفاشل؟ هذا سؤال آخر أيضاً يحتاج إلى إجابة.
أخيراً، سيبرز سؤال يتعلق بمصير الديمقراطية التركية غير الليبرالية فيما بعد محاولة الانقلاب؟ وبشكل حتمي، فإن هذه الحلقة من زعزعة الاستقرار – وإن كانت قصيرة جداً- لا بد أن تدفع الرئيس التركي تجاه حملة أكثر قوة لتحقيق حلمه بالرئاسة التنفيذية. النداءات الغربية للديمقراطية وحكم القانون لن يكون لها أثر يذكر وسوف يساهم الخوف في دعم تواجد الطرف الأقوى على رأس الدولة. وستكون الديمقراطية التركية الضحية الرئيسية للانقلاب الفاشل.
مارك بيريني: أستاذ زائر في جامعة كارنيجي بأوروبا، وسبق أن عمل كسفير للاتحاد الأوروبي في تركيا بين أعوام ٢٠٠٦ و ٢٠١١.