هذه المادة مترجمة من موقع الواشنطن بوست
بقلم: مارسين الشمري – صفوان الأمين
اتخذت الاحتجاجات الأخيرة في مدينة البصرة الساحلية بالعراق منعرجاً حرجا. وتزعم التقارير الصحفية أنه تمت مهاجمة العديد من المكاتب الحكومية، فضلاً عن مقتل حوالي 15 شخصا خلال تصادمهم مع القوى الأمنية. وعموما، يجب على الرأي العام أن يتفطن لواقع أن هذا الإحباط العام والشلل السياسي يعتبر دليلاً على شيء أكثر عمقا من السياسة اليومية، حيث يجب أن يُنظر إليها على أنها نتاج لعملية بناء الدولة المرقعة، التي تسببت في ترك العراق بمجتمع قوي ودولة ضعيفة. وفي الواقع، لا تكتسي احتجاجات البصرة أي بعد سياسي واضح المعالم حتى تتم مساءلتها.
مظالم اقتصادية وليست سياسية
تتمحور احتجاجات البصرة حول المظالم الاقتصادية أكثر من كونها متعلقة بالسياسة. وعلى الرغم من أن الكثير من العراقيين يرزحون تحت وطأة هذه المظالم، إلا أن سكان البصرة هم أكثر من يشعر بقسوة تأثيراتها. ويرجع سبب ذلك بالأساس إلى التباين بين مساهمة البصرة في ثروة العراق وعدم وجود استثمار مناسب لهذه المساهمة على مستوى البنية التحتية العامة.
يشكل النفط حوالي 99٪ من صادرات العراق وحوالي 90٪ من إيرادات حكومته. ومع أن معظم هذا النفط يتم إنتاجه في البصرة، إلا أنها لا تزال إحدى أكثر المحافظات التي تعاني من نقص الخدمات في العراق.
إن الأسباب التي أدت لاندلاع هذه الاحتجاجات هو تراكم المشاكل لبعض الوقت. ففي مرحلة ما بعد القضاء على تهديد تنظيم الدولة، شعر العراقيون أن تضحياتهم المبذولة ليس معترفا بها لدى النخبة السياسية، وأسيئ استغلالها في بعض الأحيان. وقد واجه أقارب الجنود العراقيين المنكوبين، الذين كان الكثير منهم أصيلي مدينة البصرة، مؤسسات يشوبها الفساد عملت بدورها على جعل حصولهم على الدعم الحكومي الذي يستحقونه أمراً صعبا.
تطورت مطالب المتظاهرين ودرجة غضبهم منذ بدء الاحتجاجات في شهر تموز/ يوليو الماضي، لكن الدعوة لتحسين الخدمات العامة ظلت ثابتة. وقد عانت مدينة البصرة من البنية التحتية الضعيفة وأزمة النفايات وانقطاع الكهرباء وارتفاع نسبة الملوحة في إمدادات المياه، وهو ما أدى إلى ظهور مشاكل صحية عامة. ومن جهتهم، دعا بعض المتظاهرين إلى الحصول على “البترو- دولار”، أي مد مقاطعتهم بأموال إضافية مقابل كل برميل نفط يتم إنتاجه.
ويندرج مطلب خلق مواطن شغل للشباب ضمن المطالب الشائعة الأخرى للمتظاهرين، خاصة أن معدل البطالة في البصرة أعلى من المعدل الوطني. وبلغت نسبة البطالة بين الشباب 25.5 بالمائة سنة 2016، وهو ما يعتبر أعلى من المعدل الوطني الذي لا يتجاوز 20.4 بالمائة. ولكن هذا الأمر مثير للقلق بشكل خاص، لأنه من المعلوم أن المظالم الاقتصادية للشباب تؤدي إلى حدوث اضطرابات سياسية.
تتأرجح الحكومة والدستور بين دعم اقتصاد السوق والتركيز على توفير “الحق في العمل” لجميع المواطنين. وسبق للحكومة أن حاولت التقليص في عدد الوظائف في القطاع العام، لكن غياب بديل ناجع سمح لبقايا النظام الاشتراكي الأبوي بالاستمرار. وقد دفع الغموض الذي يكتنف الدولة العراقية العراقيين للبحث عن وظيفة في القطاع العمومي وشعورهم بأنهم يستحقونها، حتى عندما تبدو الدولة عديمة الجدوى بشكل ميؤوس منه ولا تمتلك تأثيراً على حياتهم.
لا يبدو فهم احتجاجات البصرة من خلال النظر إليها من العدسة الطائفية الرائجة لدى المراقبين الخارجيين أمراً منطقيا. ففي واقع الأمر، اندلعت هذه الاحتجاجات بسبب الطريقة المتبعة في الحكم، فضلا عن الكوارث البيئية والفشل الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، انحسرت الولاءَات الطائفية الرائجة في العراق.
من يقدر على تلبية المطالب؟
لا توجد جهة واضحة يمكن للعراقيين التوجه إليها من أجل تحقيق مطالبهم، فقد أصبحوا معتادين على معالجة مشاكلهم خارج نطاق الدولة. وكنتيجة مباشرة للعمل بالنظام الانتخابي وعدم وجود تعداد سكاني في السنوات الأخيرة، لا يمثل أعضاء البرلمان العراقي دائرة انتخابية واحدة، ناهيك عن أنهم يخضعون لمساءلة مباشرة ضئيلة من قبل منتخبيهم. وفي حين لا يعرف المواطن العراقي العادي ممثله أو ممثلته داخل البرلمان، أو ما إذا كان يتوجب عليه التوجه بندائه للحكومة المحلية أو الفدرالية، تعد الشبكات القبلية التي يقودها رجال الدين واضحة ومتجاوبة.
من بين المؤشرات الأخرى التي تدل على عدم الانسجام والبناء الضعيف للدولة، التنفيذ غير المكتمل لعملية نقل السلطة إلى المقاطعات والمناطق الفيدرالية. وعلى الرغم من بنود دستور 2005، الذي اعتمد مبدأ تداول السلطة والحد من السلطة المركزية، فضلاً عن تواجد قانون المحافظات الذي تم تمريره سنة 2008 لإنشاء حكومات محلية وتسليمها مقاليد سلطاتها الدستورية، إلا أن المواطنين والمسؤولين الحكوميين لا يزالون عاجزين عن تصور حدود السلطة وتحديد الأطراف التي يجب محاسبتها، حتى بعد مرور 10 سنوات.
الحلول التي تقدمها الدولة والأطراف الفاعلة غير الحكومية
ردا الرد على الموجة الأولى من الاحتجاجات التي اندلعت خلال شهر تموز/ يوليو من سنة 2018، وعد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بتخصيص مبلغ ثلاثة مليارات دولار لتمويل مشاريع الخدمات العامة في البصرة. وقد دأبت الحكومة على الإدلاء بتصريحات تعد فيها بضخ البعض من مخصصات الميزانية الطارئة، كما قدمت وعوداً بإحداث محطات لتحلية المياه ومحطات توليد طاقة كهربائية وتوفير 10 آلاف موطن شغل.
في الوقت الذي بدأت تتضح فيه معالم بعض هذه الخطط، تعطل معظمها بسبب العراقيل السياسية. وفي المقام الأول، صرفت عملية تشكيل الحكومة الجارية في الوقت الحالي انتباه النخب السياسية عن مسؤولياتها. وبدلاً من معالجة هذه القضايا، اعتمد السياسيون أزمة البصرة كوسيلة لتشويه سمعة المنافسين السياسيين. كما اتسع نطاق لعبة إلقاء اللوم ليشمل نظريات المؤامرة المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية والادعاءات بمحاولة تخريب القبائل.
لقد أدت مثل هذه الأمور إلى تدخل المؤسسة الدينية في العملية السياسية من جديد، التي شعرت بغضب المتظاهرين هي الأخرى. خلال الأسبوع الماضي، أرسل علي الحسيني السيستاني بعثة بقيادة أحد ممثليه، أحمد الصافي، لمعالجة أزمة المياه. ووعد الصافي وفريقه المكون من العديد من الخبراء بأن المؤسسة الدينية ستعمل على تمويل عمليات إعادة ترميم محطات ضخ المياه، مشيرين إلى أن الأوضاع في المدينة ستشهد عدة تطورات في المستقبل.
عمل ناشطو المجتمع المدني من مناطق أخرى من العراق بدورهم على الاستجابة لأزمة البصرة من خلال إرسال المياه المعبأة إلى متساكنيها. ولكن هذه المجهودات لا تمثل سوى حلولا قصيرة الأمد وضرورية لكسب ود المتظاهرين، بيد أنها لا تلغي الأسباب الجذرية لهذه المظالم.
يبين تحليلنا أن المشاكل الأساسية التي تعاني منها السياسة العراقية لا يمكن حلها حتى تقوم الدولة بتطوير استراتيجية لبناء القدرة التي تمكنها من إضفاء الشرعية على الدولة، وإضعاف الفاعلين الخارجيين في مؤسسات الدولة الحالية. فعلى سبيل المثال، يمكن لإصلاح النظام الانتخابي أن ينشأ نظاما يتيح إمكانية المساءلة بصفة مباشرة أكثر بين الناخب وممثليه المنتخبين. وعلى الصعيد العملي، قد يستلزم تطبيق ذلك اتباع شروط دستورية مسبقة في تنفيذ التعداد الانتخابي وإنشاء دوائر انتخابية، حتى يتسنى للناخبين انتخاب ممثليهم في البرلمان بشكل مباشر. ويمكن تعريف العلاقة بين الحكومة المركزية والمقاطعات بشكل أكثر دقة باعتماد طرق تعزز مبدأ المساءلة.
– مارسين الشمري: طالبة في مرحلة الدكتوراه في مجال العلوم السياسية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
– صفوان الأمين: محامي دولي ومتخرج من كلية كينيدي بجامعة هارفارد.