ترجمة: آمال وشنان
تقترب الحرب السورية من عامها السابع، هي حربٌ بالوكالة. إن المعارضة المجزأة، التي تدعمها القوى الخارجية تواصل محاربة نظام الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تدعمه إيران وروسيا وحزب الله. تركيا -حليفة الناتو- لا تدعم فقط فصائل المتمردين، بل غزت مؤخراً جزءً من شمال غربي سوريا للحصول على مدينة عفرين وإنهاء السيطرة الكردية. الأكراد -أكثر القوات موثوقية في معركة داعش- تدعمهم الولايات المتحدة. في 10 شباط / فبراير، أسقطت القوات السورية طائرة إسرائيلية من طراز F-16 بعد أن اخترقت طائرة استطلاع إيرانية المجال الجوي الإسرائيلي. وعلى الرغم من المحاولات المتعددة للتفاوض على إنهاء الأعمال القتالية، إلا أن مستوى التدخل الأجنبي في سوريا يعني أن الحرب لن تتوقف حتى تقرر الجهات الخارجية ضرورة فعل ذلك.
بالرغم من تعقد الحرب الأهلية السورية على وجه الخصوص، فهي مثال على الاتجاه العام القائل بأن الحروب الأهلية تستمر لفترة أطول، ومن المرجح أن تنتهي بنصرٍ من جانبٍ واحدٍ بدلاً من التوصل إلى تسوية تفاوضية. حدث ذلك بعد فترة وجيزة من سقوط جدار برلين حتى هجمات 11 أيلول / سبتمبر، عندما انتهت معظم الحروب الأهلية بمفاوضات، ولأول مرة في التاريخ. ما التغير الذي طرأ على هذا الاتجاه؟
المبادىء والبيئة الدولية:
يتأثر مسار الحروب الأهلية بالبيئة السياسية الدولية. ولكل بيئة معينة معايير محددة أو توقعات للسلوك المناسب تؤثر على قرارات صانعي السياسات. وينطبق ذلك أيضاً على حل النزاعات: ففي فترات مختلفة، يكون لدى صناع السياسات معتقدات مختلفة حول كيفية إنهاء النزاعات – بما في ذلك الحروب الأهلية – ما يؤثر بدوره على كيفية إنهائها.
لقد كانت هناك ثلاث بيئات سياسية دولية متميزة في التاريخ الحديث. الأولى، الحرب الباردة، استمرت من 1946 إلى 1989، واتسمت بالثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. إن سقوط جدار برلين في عام 1989 يشير إلى بداية البيئة الثانية – أي الأحادية القطية الديمقراطية الليبرالية والهيمنة الأمريكية-. لقد نشأت البيئة الدولية الثالثة والحالية مع هجمات 11 أيلول / سبتمبر وبداية الحرب على الإرهاب، وتميزت بالسلطوية المتصاعدة، والتركيز المتجدد على الأمن، وزيادة التعددية القطبية.
تشكل البيئة السياسية الدولية المعايير المتعلقة بالحروب الأهلية. خلال الحرب الباردة، تنظر كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للحروب الأهلية على أنها مسابقات صفرية حيث يجب على الجانب المفضل لديهم تحقيق النصر التام. وبالفعل، كان لهذه الرؤية نتائج في العالم الحقيقي. وفي حين استمر التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لم يكن من المعقول أن تنتهي الحروب الأهلية في كمبوديا أو السلفادور أو موزامبيق -على سبيل المثال- بالمفاوضات، نظراً لاستثمار القوى العظمى في دعم الوكلاء المحليين لهزيمة الطرف الآخر. خلال الحرب الباردة، انتهت خمس حروب أهلية على الأقل عن طريق الانتصار وليس الاتفاق.
مع نهاية الثنائية القطبية للحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة لبناء نظام دولي ليبرالي على أساس الديمقراطية والأسواق المفتوحة. وقد فتحت معايير الحرب الصفرية التي تم التوصل إليها من قبل الفائزين في الحرب الباردة الطريق للبحث عن حلول إجمالية في سياق الحروب الأهلية، على الرغم من أن الولايات المتحدة وحلفائها يمكن أن يضمنوا النصر للجانب المفضل لديهم، لكن سعوا بدلاً من ذلك للتوسط في تسويات تفاوضية كطريق نحو الديمقراطية بعد انتهاء الصراع.
وكنتيجة لذلك، العديد من الحروب التي كان يمكن أن تنتهي بانتصارٍ من جانب واحد لم تحدث خلال هذه الحقبة. مثلاً الصراع في البوسنة في صيف عام 1995، كانت قوات صرب البوسنة على وشك الهزيمة من قبل جيش الاتحاد الكرواتي المسلم المدعوم من حلف شمال الأطلسي. الحلفاء التاريخيين للصرب، روسيا، كانوا يتعافون من انهيار الاتحاد السوفياتي ولم يكونوا مستعدين أو قادرين على معارضة الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي. ولكن بدلاً من السماح بهزيمة الصرب البوسنيين، رفضت واشنطن تقدم حلفائها ودفعت بدلاً من ذلك باتجاه حل توفيقي في دايتون. كما أن معظم الحروب الأهلية في هذه الفترة انتهت بنوع من المفاوضات.
غير أنه بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر، تغيرت البيئة مرة أخرى، شأنها في ذلك شأن المعايير السائدة. لقد واجهت الولايات المتحدة فجأة تهديد الإرهاب الدولي والتحديات التي تواجه هيمنتها من قبل الصين الصاعدة، ومؤخراً روسيا. وعلى الرغم من أن قاعدة التفاوض لم تتوقف، فقد نشأت قواعد تعويضية حول عدم التفاوض مع الإرهابيين، وهزيمة المنظمات الإرهابية عسكرياً، وإعطاء الأولوية لتحقيق الاستقرار عن طريق الديمقراطية، حتى لو كان ذلك عن طريق دعم الحكم الاستبدادي.
في جميع أنحاء ساحات المعارك اليوم – في جمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وليبيا ومالي وميانمار والفلبين وجنوب السودان واليمن – الجهات الفاعلة الخارجية تؤجج مرة أخرى جوانب مختلفة من الحروب الأهلية بهدف مساعدة أحد الجانبين ليفوز صراحةً. وتصف الحكومات المتمردين بالإرهابيين في محاولة لإضفاء الشرعية على سعيهم لتحقيق النصر الكامل، والتماس الدعم من القوى الخارجية. ومثل هذه الاستراتيجيات لم تكن مقبولة على نطاق واسع خلال فترة 1990-2001 من التحول الديمقراطي. لكن في مناطق النزاع والحروب الأهلية، أصبح من المشروع الآن محاولة هزيمة الجماعات التي وصفت بأنها إرهابية وتعزيز الحكم الاستبدادي باسم الاستقرار.
الحرب السورية الطويلة…
وبالتالي فإن الحرب الأهلية السورية هي مثالٌ نموذجي -وإن كان غير مألوف- على حرب أهلية معاصرة. وقد لقي أكثر من 400 ألف شخص مصرعهم، و 5.5 مليون شخص فروا من البلاد، و 6 ملايين من المشردين داخلياً. وتقدر الأمم المتحدة أن ما لا يقل عن 13 مليون سوري يحتاجون حالياً إلى مساعدات إنسانية، أي أكثر من نصف عدد سكان ما قبل الحرب البالغ 22 مليون نسمة.
وقد اشتعل جزءٌ كبيرٌ من الحرب بسبب أطرافٍ خارجية، وكثير منهم ملتزمون بتحقيق النصر الصفري في إطار صراع إقليمي على القوة. عندما اندلع القتال في أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012 رداً على قمع الحكومة العنيف للاحتجاجات، سارع معارضو نظام الأسد، مثل دول الخليج وتركيا، إلى توفير الأسلحة للمتمردين، على الرغم من أنها سقطت بسرعة فيما بينها، ما ساهم في كسر المعارضة. وقد اعتبرت الولايات المتحدة التدخل المسلح في سوريا مدعوماً بتدخل قوات التحالف في عام 2011 في ليبيا. وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما اقترب من شن ضربة عسكرية في أغسطس / آب 2013، إلا أن إدارته اختارت بدلاً من ذلك تقديم المساعدة والتدريب لمجموعات المعارضة. (تدخلت واشنطن أخيراً في خريف عام 2014، عندما بدأت في شن ضربات جوية، ولكنها ظلت تركز على داعش مع تجنب أهداف النظام).
كما تحركت إيران في وقت مبكر من الصراع لتقديم الدعم إلى الأسد، أهم حليف لها في المنطقة. ونشرت طهران عدة آلاف من جنودها في سوريا، للانضمام إلى قوات من حزبها الإقليمي، حزب الله، وساعدت النظام على تجميع الميليشيات من عشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة الأجانب. وساعدت روسيا أيضاً نظام الأسد، بما في ذلك منذ أيلول / سبتمبر 2015، من خلال التدخل العسكري المباشر. وقد أدى هذا الدعم الخارجي إلى إطالة أمد الحرب من خلال دعم النظام في كل مرة كان على استعداد للانهيار. ونتيجة لذلك، عززت الحكومة السورية اليوم سيطرتها على الأراضي الواقعة غرب نهر الفرات. إذا استمر الصراع على طول مساره الحالي، فمن المرجح أن حكومة الأسد ستعيد السيطرة على معظم البلاد.
وقد دعت الولايات المتحدة رسمياً إلى التوصل إلى تسوية تفاوضية للنزاع، ولكن صعود تنظيم داعش في عام 2014، وتزايد بروز الجماعات الجهادية داخل المعارضة السورية، دفع واشنطن إلى قبول ضمني بحكم الأمر الواقع لنظام الأسد السلطوي. واليوم، تهتم الولايات المتحدة وحلفاؤها في المقام الأول بالهدف المحدود المتمثل في تدمير الشبكات الإرهابية. لقد حلت لغة الاستقرار ومكافحة الإرهاب محل لغة الديمقراطية. ففي كانون الثاني / يناير، على سبيل المثال، أكد وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون على أهمية ضمان أن “لا تتشكل أبداً مرة أخرى منصة أو ملاذٌ آمنٌ للإرهابيين”.
تواصل المفاوضات:
فتحت إيران وروسيا وتركيا مساراً للمحادثات الدولية التي تتماشى مع عملية الأمم المتحدة التي تدعمها الولايات المتحدة في جنيف، وفي يناير استضافت روسيا محادثات السلام في سوتشي بهدف صياغة دستور سوري جديد. ولكن حتى الآن، لم تتمكن الجهات الفاعلة الخارجية إلا من ضمان هزيمة داعش شبه الإقليمية، والوساطة في وقف إطلاق النار بين الفصائل المتحاربة الأخرى، ووضع تدابير قصيرة الأجل لتحقيق الاستقرار في الصراع وتقديم بعض الدعم الإنساني للمدنيين. والواقع أن القوى الخارجية أطالت دون شك الحرب من خلال دعم الأطراف المتعارضة والفشل في الالتفاف حول هدف التوصل إلى تسوية تفاوضية تفضي إلى تغيير النظام وإرساء الديمقراطية، كما قد تكون عليه في العقد الذي أعقب الحرب الباردة. وبدلاً من ذلك، فإنهم يتوقعون انتصاراً من جانب واحد للأسد، مما يجعل هذه النتيجة أكثر احتمالاً.
لا مفاجآت …
إن الحرب الأهلية التي لا نهاية لها في سوريا توضح معايير عمل البيئة الدولية الحالية: تراجع الولايات المتحدة الليبرالية وحلفائها الذين لم يعد لديهم مصلحة في الدفع من خلال تسوية تفاوضية، والتركيز على مكافحة الإرهاب الذي دفع القوى الخارجية إلى إعطاء الأولوية لمحاربة داعش، وتركيز جديد على الاستقرار الذي دفع الولايات المتحدة وغيرها إلى قبول ضمني نظام الأسد السلطوي (أو خلفه) كمنتصر وضامن للأمن. تميل الحروب الأهلية إلى إنهاء الطريقة التي تتصورها الجهات الخارجية حول إنهاء الصراعات. وكما هو الحال مع معظم الحروب الأهلية، فإن الحرب في سوريا ستنتهي وفقاً للأفكار المعيارية للجهات الفاعلة الخارجية في البيئة الحالية، وهذا ربما يعني النصر للأسد.
المصدر: فورين أفيرز
الكاتب: ليزي مورجي هوارد وألكسندرا ستارك