إن أردنا ان نبحث عن أفضل تمثيل لجنون النهج الأمريكي في الشرق الأوسط فلن نجد مثالاً أكثر وضوحاً من العراق، وهو البلد الذي ما زال يغرق في مستنقع من الدمار منذ أكثر من 14 عاماً بعد الاطاحة بنظام صدام حسين. والمثال الآخر سيكون بكل تأكيد الحرب الأهلية السورية، حيث تنشط العديد من الفصائل هناك مستغلة دعم الأسلحة المقدم من الولايات المتحدة بما في ذلك فصائل امتلكت امتياز تنظيم القاعدة سابقاً او حتى حزب الله.
لكن على صعيد الأموال، فإن أفضل طريقة لتوضيح حماقة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي ليبيا. حيث تندلع حرب أهلية تزداد عمقاً بين الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة وجنرال سابق مدعوم أمريكياً. الطرف الأول هنا هو الحكومة المؤقتة التي تقرها وتعترف بها الأمم المتحدة (GNA)، والتي تم توجيهها من تونس إلى ليبيا في الربيع الماضي. ولكن الحكومة المؤقتة فشلت منذ ذلك الحين في بسط سيطرتها حتى على العاصمة الليبية طرابلس. الطرف الآخر هنا هو خليفة حفتر، الحليف السابق لمعمر القذافي والذي سبق له أن انشق وقاد محاولة لإسقاط النظام الليبي القائم بينما كان يعيش في ولاية فرجينيا الأمريكية. رفض كثير من الليبيين الحكومة المؤقتة على اعتبار انها مجرد دمية بيد الغرب، وأشيع عن حفتر أنه عميل لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. هذا بالإضافة إلى التلميحات الواسعة النطاق التي تنتشر بشكل كبير وتدعي أن الولايات المتحدة هي من أنشأت داعش العدو المشترك للحكومة الليبية وحفتر.
وهكذا فإن معركة الولايات المتحدة في مجال القلوب والعقول لا تزال قائمة على قدم وساق.
حفتر والحكومة التي يؤيدها – مجلس النواب- تتخذ من مدينة طبرق شرقي ليبيا مركزاً لها. وكانت المدينة قد صمدت ضد هجمات المحور خلال الحرب العالمية الثاني لتكسر شوكة الجنرال الألماني الشهير روميل. واليوم، أضحت طبرق محيرة للغرب. فمجلس النواب – طبرق رفض تأييد الحكومة المؤقتة لتندلع مشاجرات مستمرة بين الحكومتين وتحبط جميع المحاولات الدبلوماسية للتوحيد. نحى الجانبان خلافاتهم لفترة من الزمن لطرد داعش من مدينة سرت أواخر العام الماضي، لكن التصارع فيما بينهما لم يتوقف منذ ذلك الحين لتتصاعد التوترات مرة أخرى. تستمد كلا الحكومتين قوتها العسكرية من قوة الفصائل التابعة لها او المتحالفة معها، لا سيما الحكومة المؤقتة التي تعتمد على مليشيات مدينة مصراته، وهكذا أضحت ليبيا مجزأة مرة أخرى بعد خلع القذافي من الحكم وصارت لعبة للميليشيات التي ستقرر في النهاية مصير البلد سياسياً.
في الأعوام قبل 1963، قسمت ليبيا إلى ثلاث مقاطعات الأولى هي طرابلس (باتت مركزاً للحكومة المؤقتة حالياً) وبرقة (باتت مركزاً لمجلس النواب الليبي) وفزان. وفي تلك المرحلة، حكم البلد بشكل ضعيف الملك إدريس السنوسي. تعاظمت الهويات القبلية والإقليمية بقوة وغالباً ما كانت تعلو الولاء الوطني. وفي أمل التوصل إلى ليبيا أكثر توحداً، قام الملك بإلغاء تقسيم المحافظات هذا في نهاية المطاف. وإثر الإطاحة بإدريس من الحكم عام 1969، جاء القذافي ببرنامج وطني وطبقه في ليبيا لينتج البلاد التي نعرفها اليوم بهذا الشكل. إنها اعتراف قاس، لكن وبشكل صريح لم تكن ليبيا لتتوحد لولا نظام القذافي. وهكذا، ارتكبت الولايات المتحدة نفس الخطأ الفادح الذي وقعت به في العراق. حيث فشلت في فهم أن الدولة هناك كانت مصطنعة، ولم تكلف نفسها عناء دراسة الانقسامات العديدة التي تتقاطع في أعماق المجتمع نفسه. وعبر محاولاتها لخلق ديمقراطية وطنية لتحل مكان الدكتاتورية لم تنتج إلا الفوضى فقط.
أفضل ما يمكن قوله عن ليبيا أنها تشهد الآن حرب أهلية أقل دموية من تلك التي تحدث في سوريا. ومع ذلك، هناك تشابه يتشكل بصورة متصاعدة بين الحربين هاتين. روسيا التي دعمت نظام الأسد طويلاً في سوريا، حصلت أخيراً على مساهمة في ليبيا عبر دعم مجلس النواب الليبي وحكومته. ومؤخراً، تم تكريم حفتر من قبل الأدميرال كوزنيتسوف قائد حاملة الطائرات الوحيدة التابعة لموسكو، حيث تواجد هناك من أجل توقيع اتفاق مع الروس.
ويأمل فلاديمير بوتين في تسجل انتصار هام في العلاقات العامة سواء على الصعيد الفكري او العسكري، أولاً من خلال توفير دعم قوي لحفتر، بينما تعيش الحكومة المؤقتة حالة من التعثر – وهي المرتبطة بالغرب بشكل أو بآخر. وثانياُ، عبر الاستمرار في اتخاذ حجة محاربة الإرهاب للتوغل في المنطقة ( حفتر يحتقر الإسلاميين وكانت له مساهمة واضحة في تطهير بنغازي من الجهاديين سابقاً). وتسعى روسيا لتعزيز وجودها في البحر المتوسط عبر الانخراط في الحالة الليبية، وفعلياً شهدت الفترة الماضية توقيع اتفاق بين حفتر وروسيا يسمح للأخيرة ببناء قاعدتين جديدتين في مناطق شرق ليبيا.
حفتر نفسه لا يحظى بدعم روسيا فحسب، بل إنه يحظى بدعم كبير من السعودية والإمارات ومصر، حيث ينظر إليه على أنه الأكثر التزاماً لمكافحة الإرهاب أكثر من الحكومة المؤقتة في طرابلس. وكثيرون في طبرق يتوقعون الحصول على دفعة من ترامب، الذي يفضل حل الإشكالات عبر القوة القسرية عوضاً عن التغيير الديمقراطي وهو ما يتوافق كثيراً مع أهداف حفتر.
اما بالنسبة لحليف أمريكا على الأرض، فإن الحكومة المؤقتة اهتزت في وقف سابق من هذا الشهر عندما استقال نائب رئيس المجلس الرئاسي “موسى الكوني” من مهامه فيها. وقال في مؤتمر صحفي في طرابلس أنه اختار الاستقالة لأن مجلس الرئاسة في الحكومة المؤقتة “يتحمل المسؤولية عن القتل والخطف والاغتصاب الذي حدث في ليبيا خلال العام الماضي، وظل عاجزاً عن التصدي لهذه الخروقات”. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الحكومة المؤقتة من هجمة تشنها عليها حكومة ثالثة تنشط في ليبيا، والتي بدأت مع مجموعة الإنقاذ الوطني في طرابلس والتي تخلت عن السلطة عام 2016 لكن المسلحين عادوا للقتال مجدداً.
يراقب حفتر الأمور عن كثب، وأعلن بالفعل في وقت سابق من هذا العام انه لا يملك أي مخططات لعقد مفاوضات مستقبلية مع الحكومة المؤقتة. وإن كان يعتقد أن بإمكانه السيطرة على البلاد عبر ربط كتائب الزنتان الموالية له في الجنوب الغربي من طرابلس، وربما قد يتحرك لضم العاصمة طرابلس لسيطرته أيضاً، حتى لو قامت كتائب مصراته القوية بمواجهته. ولعل الإنجاز النهائي للتدخل الغربي في ليبيا يأتي في مبادلة حليف بحليف آخر مدعوم من روسيا. تلك هي النتيجة الدامغة حتى الآن ومن المؤكد أننا بتنا معتادين عليها حتى الآن.
هذه المادة مترجمة من موقع ناشيونال انترست، للإطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا