خمسة سنوات من المشاركة التركية في الحرب السورية لم تنتج سوى الكثير من الإحباط، مع عدم تحقيق أي من الأهداف القريبة للإدراك. فالأسد لا يزال في منصبه على رأس السلطة في دمشق،.و التعديل الجديد في وزارة الخارجية التركية بالإضافة إلى التمدد الكردي قرب الحدود الجنوبية لتركيا، كل هذه دفعت الكثير من المحللين السياسيين بل حتى بعض المقربين من الرئيس التركي أردوغان إلى الإيمان بضرورة إحداث تغيير ما، وهو ما قد يحمل بين طياته تأثيراً كبيراً على مسار الصراع المستقبلي في سوريا، ولهذا السبب دعونا أربعة خبراء أتراك لشرح مستقبل العمل السياسي التركي في سوريا.
تلمح بعض التقارير إلى إعادة تقييم تركيا لسياستها الخارجية وترد بعض الشائعات عن تقارب محدود مع الأسد خاصة فيما يتعلق بالمسائل الكردية، وعلى الرغم من محافظة تركيا على تقديم دعم لوجستي واقتصادي للمتمردين السنة في شمال سوريا، بقي جيشها على الهامش دون أي تدخل. الرأي العام التركي منقسم بخصوص أي تدخل عسكري مباشر في تركيا وبشكل عام لا يحبذ التدخل المباشر.
في الوقت نفسه يركز الرأي العام كما الحكومة التركية على التهديد الذي تشكله الميليشيات الكردية الصديقة لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل ضد الجيش التركي منذ الثمانينات. ورغم اتفاق الطرفين سابقاً على وقف لإطلاق النار ودخولهم محادثات للسلام إلا أنهم يخوضون الآن اشتباكات عنيفة بشكل مستمر.
وفي التالي يقدم أربعة خبراء بارزين في الصحافة التركية آراءهم فيما يتعلق بالسياسة التركية إزاء سوريا وطبيعة التغيير أو الثبات المحتمل حدوثه مستقبلاً.
سنان أولجن: تحول في حسابات أنقرة
السياسة التركية في سوريا آخذة بالتغيير، فرحيل رئيس الوزراء السابق “أحمد داود أوغلو” عن منصبه والذي كان ينظر إليه على أنه المهندس الرئيسي لسياسة أنقرة الغير مدروسة والطموحة أكثر من اللازم في سوريا، سهل هذا التحول. ومع ذلك تبقى الدوافع الحقيقية لهذا التغيير مختلفة.
تريد تركيا أن تتكيف مع الحقائق على الأرض، حيث نجح الأسد في البقاء بالسلطة على الرغم من كم الجهود الحثيثة التي بذلت من أجل الإطاحة به. هذا بالإضافة إلى تحول محور اهتمام حلفاء تركيا الغربيين نحو الاهتمام بداعش والقضاء عليها بدل الاهتمام بتغيير النظام السوري. وهكذا وجدت تركيا نفسها في عزلة متزايدة في طريقها لتحقيق هذا الهدف الذي أثبت في النهاية عدم جدواه في ظل الدعم اللامحدود للنظام السوري من حلفائه الروس والإيرانيين.
السبب الثاني جاء مع الوقت، حيث أن إدارة القضية الكردية في سوريا أًبحت أكثر أهمية بالنسبة للحكومة التركية. فالأكراد السوريون وممثليهم من حزب الاتحاد الديمقراطي نالوا الاعتراف الدولي وحصلوا على دعم كبير مقابل قتالهم ضد داعش.
وحدات حماية الشعب الكردي استغلت هذا الأمر وقامت بتوسيع انتشارها في شمال سوريا، ولعمق العلاقة بين الأكراد الأتراك والسوريين تحولت اولوية الحكومة التركية نحو احتواء الأحزاب الكردية وهو ما تشترك فيه مع النظام السوري ومن هنا كان التحول في حسابات أنقرة في الشأن السوري.
سنان أولجن: دبلوماسي تركي سابق، مدير لمؤسسة “إيدام” البحثية ومقرها اسطنبول وهو أستاذ زائر في جامعة كارنيجي في بروكسل.
أوزير فيردا: حوافز قوية لتركيا للتوقف عن معارضة الأسد
تواجه تركيا منعطفاً استراتيجياً وهو ما يفرض على أنقرة إجراء مناورة استراتيجية فيما يتعلق بسياستها المباشرة في سوريا، وعلى تركيا مراعاة جوانب ثلاثة لضمان التوازن.
الجانب الأول هيكلي بدرجة أساسية، فيبدو أننا سنشهد تغييراً في السياسة الخارجية التركية بشكل عام وليس فقط بالسياسة الخارجية التركية تجاه سوريا، وعليه فإن هذا التحول سيحوي تغييراً شاملاً وهيكلياً للسياسة الخارجية التركية بما يشمل سوريا كذلك.
ساهم إنشاء الحكومة التركية الجديدة في أنقرة بهذا التحول وأتاح النقاش حول السياسة الخارجية التركية، فرئيس الوزراء التركي “بين علي يلدريم” أعطى إشارة في أول اجتماع للمجلس الوزاري حين قال” سنعمل على زيادة أصدقائنا وسنقلل من أعدائنا”. في حين أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هذا التحول ووصفه بأنه تحول شامل خلال مأدبة إفطار حضرها في ١٨ يونيو الجاري واستضاف بها عدداً من السفراء الأجانب، وأضاف أردوغان في ذلك الإفطار أن تركيا لا ترى السياسة الخارجية كلعبة محصلها صفر بل على العكس من ذلك، يمكن تحقيق التوازن والفوز على أساس المصالح المشتركة. وفي أول تطبيق لهذا التوجه أرسل أردوغان رسالة تهنئة إلى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لتهنئته بالعيد الوطني الروسي معرباً في رسالته عن أمله في أن تعود العلاقة الثنائية بين البلدين قريباً إلى “المكانة التي تستحقها”.
أوضحت هذه الرسالة الجانب الثاني من السياسة التركية الجديدة تجاه سوريا، فالتطبيع مع روسيا سيخلق حافزاً قوياً لأنقرة للتخلي عن المعارضة العلنية لبشار الأسد والذي حاز على دعم قوي من الكرملين.
الجانب الثالث هو الأقوى في هذا التحول والأمر متعلق بمحاولات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي تأسيس كيان له في شمال سوريا وهي المحاولات التي باتت تأخذ طابعاً أكثر واقعية الآن، وهو ما خلق هاجساً أمنياً كبيراً لأنقرة.
يحظى الأكراد بدعم كبير من الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية وهو ما زاد شرعيتهم دولياً، وازدياد قدرة وسيطرة وحدات حماية الشعب الكردي باتت تشكل تهديداً لكل من النظام السوري وتركيا، ومن المرجح أن تنخرط أنقرة في تنسيق غير مباشر وحوار مع دمشق لمجابهة ما يرى فيه النظامان “تهديداً وجودياً”.
أوزير فيردا: كاتب عمود في صحيفة حريت ويعمل كزميل لصندوق مارشال الألماني وباحث في مركز اسطنبول السياسي.
أمبريين زمان: تركيا تحافظ على رهاناتها
منذ أوائل عام ١٩٨٠ عندما انفجرت الاشتباكات الدموية مع حزب العمال الكردستاني، تركز السياسة الخارجية التركية بشكل كبير على قمع وتضييق حقوق الأكراد. شراكة أردوغان الحديثة مع الجيش والتي كانت القوة الدافعة وراء هذه السياسة تعني أن التفكير الاستراتيجي في سوريا سيتم إدارته بهدف الحد من المكاسب الكردية هناك، وتشير أحدث مبادرات القنوات الخلفية إلى أن تركيا تبدو يائسة على نحو متزايد من مواجهة تحالف الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب الكردي في سوريا.
لكن من السابق لأوانه أن نفترض أن تركيا مستعدة لابتلاع كبريائها ومصافحة الأسد. وبدلاً من ذلك فإنها تسعى للمحافظة على رهاناتها وتأمينها كذلك. فالصراع السوري قد يستمر لسنوات أخرى ، وروسيا والولايات المتحدة ستستمران في لعبتهما السياسية هناك، أما تركيا فمن المرجح أن تستمر في دعم المتمردين للوقفو بوجه وحدات حماية الشعب الكردي.
أمبرين زمان: صحفي تركي وزميل في مركز ويلسون للسياسة العامة.
بيرم بالجي: التراجع في سوريا لن يكون كافياً
أضحت تركيا معزولة تماماً ليس في الشرق الأوسط فقط بل في المجال الدولي الأوسع، كما أكدت المعارضة التركية واعترف به على الأقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وباستثناء أذربيجان تفتقر تركيا الآن لاصدقاء وحلفاء حقيقيين في المنطقة يمكن الاعتماد عليهم، عدا عن الطريقة التي جرى التعامل بها مع أردوغان في جنازة محمد علي كلاي وما تدلل على ما تعانيه صورة تركيا الدولية حالياً.
وكما كان داود أوغلو مهندساً للسياسة الخارجية التركية منذ عام ٢٠٠٩ وقبل ذلك حينما عمل كمستشار لاردوغان، قد تكون لحظة الاطاحة به مرتبطة بالجمود الذي حاط بالسياسة الخارجية التركية، ومن شأن ذلك أن يسهل التقارب مع إسرائيل وربما روسيا التي لا غنى لتركيا عنها لكسر وحدتها على الأقل فيما يتعلق بالأزمة السورية.
ومع ذلك، فإن لن يكون من السهل التوصل إلى سلام مع روسيا طالما لم تتمكن الرئاسة من تحقيق السيطرة الكاملة على السياسة الخارجية التركية بدلاً من وزارة الخارجية، بالإضافة إلى ذلك، فإن تطبيع العلاقات سيحسن الاقتصاد بشكل أو بآخر لكن ضلوع روسيا ومشاركتها بالأزمة السورية سيحمل في طياته الكثير من الآثار السلبية على تركيا.
بالنسبة للسياسة الجديدة المحتملة تجاه سوريا، فلا يوجد مؤشرات تدل على حدوث ذلك. واذا كانت أنقرة في طريقها لتغيير سياستها هناك ووقف مساعدتها ودعمها للفصائل المعارضة فإن القضية الكردية ستكون هي الدافع الأساسي في الموضوع، لكني لست متأكداً أنه سيكون محركاً كافياً للأمر. وشهدت العلاقة التركية – السورية إشكاليات عديدة حتى عام ١٩٩٨ وذلك بسبب القضايا الكردية لتتحسن بعدها العلاقة بسبب اتفاق متبادل بين دمشق وأنقرة ضد المطامع الكردية.
عززت الحرب السورية الكثير من الخلافات بين سوريا وتركيا، والأهم من ذلك فقد أنشأت تعاطفاً مع الأكراد في المجال الدولي. ولذلك فإنه من غير الواضح أن التراجع التركي من المستنقع السوري أو إصلاح العلاقة مع بشار الأسد – وهو أمر مستحيل- سيكون كافياً لكبح المطامع الكردية في تركيا. وبدلاً من ذلك من المرجح أن تزداد الثورات الانفصالية تحت تأثير ردة فعل تركيا لحرب الشوارع التي يقودها حزب العمال الكردستاني في مدن سيزر وصور ونصبيين وغيرها.
بيرم بالجي: باحث في مركز البحوث الدولية في معهد العلوم السياسية بباريس