slot dana slot toto toto 4d slot pulsa slot gopay slot ovo slot bet 200 slot bet 100 situs bet 200 situs bet 100 situs slot dana situs slot toto jagung77
نوفمبر 23, 2024

قراءة في كتاب: “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”

العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية 
تأليف: أحمد داود أوغلو
ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل
مراجعة: بشير نافع وبرهان كوروغلو
الناشر: الدار العربية للعلوم – بيروت، مركز الجزيرة للدراسات – قطر
الطبعة: الأولى – 2010
645 صفحة

مقدمة:

    لقد لعبت الأفكار عبر تاريخ البشر دورا رائدا في التأسيس للدول وتطور المجتمعات، بل وتوجيه المصير الإنساني بأكمله في لحظات حاسمة من التاريخ، حتّى لا نكاد نجد مظهرا من مظاهر الحياة لا يخلُ من خلفيات فكرية ساهمت في إيجاده والتأسيس له، ويطرح حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية اشكالا ذا صلة يرتبط بحدود دور الباحثين والأكاديميين في التأثير على قرارات رجال السياسة، توجيه سياسات الدول أو التنظير لها بالأساس.. يٌعّدُ البروفيسور داوود أوغلو وكتابه “العمق الإستراتيجي” أحد أحسن الأمثلة عن ذلك نظرا لما قدمت أفكاره وكتاباته من تأسيس نظري وشروحات تفصيلية عن المسار الذّي ينبغي أن تأخذه تركيا مع مطلع القرن الحادي والعشرين.. يحاول هذا المقال أن يُقدّم قراءة شاملة مع ملاحظات نقدية لهذا الكتاب باعتباره أحد أهم الكتب المعبّرة عن المسار الذّي أخذته تركيا في سياستها الخارجية في مطلع القرن الحادي والعشرين متسائلا في ذات الوقت عن حدود تأثير أفكار داوود أوغلو على تركيا الحديثة.

  1. التعريف بالكاتب:

   أحمد داود أوغلو: سياسي تركي، خبير في علاقات الدولية، أكاديمي ووزير، ولد داود أوغلو في مدينة طشقند التابعة لولاية قونيا بتاريخ 26 شباط/ فبراير 1959، متزوج ولديه 4 أطفال, يتحدث الانكليزية والألمانية والعربية والمالاي.. أكمل داود أوغلو دراسته الثانوية باسطنبول, وفي عام 1983- 1984 نجح بامتحان القبول الجامعي ودخل جامعة” البوسفور”- قسم الاقتصاد والعلوم السياسية, ليتخرج منها بشهادتين هما العلاقات الدولية والاقتصاد. فيما بعد حصل داود أوغلو على درجة الماجستير والدكتورة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من نفس الجامعة.

    بدء داود أوغلو عمله كمدرس بالجامعة الاسلامية في ماليزيا عام 1990، ثمّ أسس كلية العلوم السياسية في نفس الجامعة ليترأسها حتّى عام 1993. وانتقل بعدها للعمل بجامعة مرمرة – قسم العلاقات الدولية بين أعوام 1995 – 1999. وخلال تلك الفترة كتب داود أوغلو أكثر من 200 مقالة في صحيفة يني شفق التركية.

   وفي أعوام 1998 – 2002 درّس داود أوغلو في أكاديمية القوات المسلحة وكلية الحرب التابعتين لهيئة الأركان التركية، وفي أعوام 1999- 2004 اختير داود أوغلو لعضوية الادارة في جامعة “بيل كنت” وانتخب عضوا في مجلس سيناتور الجامعة ورئيسا لقسم العلاقات الدولية فيها, ودرّس في الفترة ذاتها بجامعة مرمرة.

   بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 2003 عين داود أوغلو وزيرا للدولة بموافقة رئيس الجمهورية آنذاك أحمد نجدت سيزر ورئيس الوزراء عبدالله غل، وفي 1 أيار/ مايو عام 2009 عيّن وزيرا للخارجية من قبل رجب طيب أردوغان، وكان قبل ذلك المستشار الأول لرئيس الوزراء الأسبق رجب طيب أردوغان وسلفه عبدالله غل، ثمّ انتخب نائبا بالبرلمان التركي في دورته الـ 24 ، ترأس بعدها حزب العدالة والتنمية بعد السيد رجب طيب أردوغان ليصير أخيرا رئيسا لوزراء تركيا سنة 2014.

   اختارته مجلة “فورين بوليسي” في العام 2010 ضمن أهم مائة مفكر في العالم، باعتباره أحد أهم العقول التّي تقف وراء نهضة تركيا الحديثة، وفي العام 2011، اختارته المجلة أيضاً هو وأردوغان ضمن القائمة لدورهما في التفكير في دور جديد لتركيا في العالم والعمل على تحقيقه.

أشهر مؤلفته:

  • العمق الاستراتيجي.
  • الأزمة العالمية.
  • العالم الإسلامي والتحولات الحضارية.
  • السياسة الخارجية التركية بين النظرية والتطبيق.
  1. نبذة عن الكتاب:

  يأتي كتاب:العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية  ليعبّر بشكل مفصّل عن رؤية البروفيسور داوود أوغلو عن المكانة المؤثرة التّي ينبغي أن تضطلع بها تركيا على الساحة الإقليمية والدولية الجديدة الأمر الذّي يتطلب من المجتمع التركي والدولة قبل كل شيء أن يعيد تفسير التاريخ والجغرافيا وفق وعي ذاتي بالوجود واضح المعالم يُدرك نفسيا تميّز العنصر التركي والأهمية التّي منحها له التاريخ وكذا تميّز الجغرافيا التّي يعمّر عليها، لذا  لا يتوقف الكتاب هنا في البحث فقط عن السبل المثلى لتأمين الأمن القومي التركي وإنّما أيضا عن كيفية توظيف تركيا لموروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية لبلوغ المكانة الإقليمية والدولية اللائقة بها، وقد حاول المؤلف استعمال مصطلح “العمق الإستراتيجي” في تحديد علاقات تركيا الدولية، وذلك سعيًا منه إلى إخراج تركيا من دورها الهامشي أثناء الحرب الباردة ونقلها إلى بلد محوري ومؤثر دوليًا.

   يعّد الكتاب أيضا بمثابة نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة، وهي خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة. يتميز بتفرده وتجاوزه للأطر النظرية المجردة، بحيث يتّم صياغة رؤية استراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية. هذه الرؤية وضعها المؤلف أحمد داود أوغلو قبل خمس عشرة سنة أي عام 2001 ، أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، وقبل سنوات من تولي أوغلو لمنصب وزير الخارجية ثم رئاسة الوزراء، وتمثّل هذه النظرية كما قلنا الخطوط الرئيسة والإستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الحكومة، بل تجسّدت واقعاً حياً ملموساً لكل متابع لتطورات الأحداث التركية داخل تركيا وخارجها، حيث توافر لداود أوغلو منذ توليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيراً للخارجية العام 2009 ثمّ رئيسا للوزراء، السبل لكي يعمل على تنفيذ هذه الرؤية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ داوود أوغلو أضاف إلى كتابه في ترجمته العربية فصلاً جديداً لم يكن موجوداً في طبعته التركية، يتناول أهم التطورات التي جرت منذ نشر الكتاب في العام 2001 وحتى يوليو 2010، ويتعلق الفصل بقراءة توجهات السياسة الخارجية التركية خلال هذه السنوات، ومكانة ووضعية تركيا الحالية في السياسة الإقليمية والعالمية.

  1. محاور الكتاب:

   صدرت طبعة الكتاب التركية الأولى عام 2001، وبلغت عدد طبعاته أكثر من 44 طبعة، منها أربعة عشر طبعة خلال العام الذّي تولى فيه داود أوغلو وزارة الخارجية التركية. ويعد الكتاب مرجعا لكل المشتغلين بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية في تركيا ولاسيما في فترة حكومة العدالة والتنمية. 

  صدرت الطبعة العربية الأولى سنة 2010، وقام بنشره الدار العربية للعلوم ومركز الجزيرة للدراسات ثمّ تمّ اعادة طبعه الطبعة الثانية عام ٢٠١١.

يقع الكتاب في 600 صفحة وفق الطبعة التركية، و 646 صفحة وفق الطبعة العربية، ويتكون من ثلاث أجزاء:

  • الجزء الأول: الإطار المفاهيمي والتاريخي.
  • الجزء الثاني: الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية.
  • الجزء الثالث: مجالات التطبيق، الوسائل الإستراتيجية والسياسات الإقليمية.

كل جزء مقسم إلى فصول وكل فصل مقسم إلى مباحث وعناوين..

    يحمل الجزء الأول عنوان “الإطار المفاهيمي والتاريخي” ويشتمل على ثلاثة فصول يتناول الأول منها مقاييس القوة والتخطيط الإستراتيجي، وشرحا لمعادلة القوة وعناصرها الثابتة والمتغيرة، والعنصر البشري وتأثيره البالغ في صنع الإستراتيجية، ويقدم الفصل الثاني إعادة تحليل لعناصر القوة التركية، وبيانا لأوجه قصور النظرية الإستراتيجية التركية والنتائج المترتبة عليها، أما الفصل الأخير فيعرض للإرث التاريخي والبنية التحتية للثقافة السياسية التركية، وتطوراتها بعد انتهاء الحرب الباردة. 

   ووضع أوغلو للجزء الثاني عنوان “الإطار النظري: الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية “، وجعله في أربعة فصول لشرح نظرية العمق الاستراتيجي وعناصرها، مع التركيز على العمق الاستراتيجي التركي في المناطق ذات الارتباطات الجغرافية معها.  

  وتناول بالدراسة في الفصل الأول النظريات الجيوسياسية والإستراتيجيات العالمية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وأهمية استيعاب العامل المكاني، والمحددات الجغرافية في ملأ ساحات الفراغ الجيوسياسي. وفي الفصول الثلاثة الأخرى حلّل الضرورات التاريخية وعناصر الاستراتيجيات البرية والبحرية بالنسبة لتركيا فيما يتعلق بالمناطق البرية القريبة: البلقان و الشرق الأوسط والقوقاز، والأحواض البحرية القريبة: البحر الأسود، وشرق المتوسط، والخليج، وبحر قزوين، والمناطق القارّية القريبة: أوروبا، وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا، ووسط و شرق آسيا. كما تناول أيضا الفصل الأخير من هذا الباب العناصر التركية الأساسية المحدّدة لعمق تركيا الأسيوي، والأفريقي.

   أما الجزء الأخير فيمثل القسم الأكبر من الكتاب، ويشتمل على الوسائل الاستراتيجية والسياسات الإقليمية التي رأى أوغلو أنها ستحقق لتركيا مكانتها المرموقة في الساحة الدولية. ويضم هذا الجزء خمسة فصول يحدّد فيها أوغلو الاتجاهات الجغرافية التّي ينبغي على تركيا أن تتحرك فيها سواء عبر المنظمات الإقتصادية والثقافية الإقليمية الفاعلة في هذه الأقاليم أو عبر الأحلاف العسكرية والاتفاقيات السياسية مع تلك المناطق الإقليمية المحيطة بتركيا من كل الاتجاهات، ويولي فيه أهمية قصوى لمنطقة الشرق الأوسط، البلقان وآسيا الوسطى أي مناطق نفوذ الأجداد العثمانيين قبل قرن من الزمن ونيف ويشرح توازناتها بدقة شديدة من دون أن يتخلى في كتابه هذا عن التعبير عن رغبة تركيا في أن تكون جزءً من الإتحاد الأوروبي الغربي لذا فقد أورد لتلك الرغبة أدوات وميكانيزمات مناسبة شرحها في الفصل الخامس من هذا الجزء.

  1. الأفكار الأساسية للكتاب:

  بإعتباره أستاذا للعلاقات الدولية يشرح داوود أوغلو في بداية كتابه هذا مجموعة من الأطر التّي تُصنَّف على أساسها البحوث المُقدمة في العلاقات الدولية، وهذه الأطر هي: الوصف، التوضيح، الفهم، التفسير، التوجيه، فالدراسات المقدمة في هذا الحقل تتفاوتُ مقصدا وقدرةً، بين الوصف كأدنى متطلب إلى المقدرة على التنبأ، بناء وتوجيه السياسات والعلاقات بين الدول كحدّ أقصى، أمّا الكتاب الذّي بين أيدينا فيحاول صاحبه أن يصل إلى المقصد الأخير ليقدّم وصاياه السياسية  والإستراتيجية لمن يحكم تركيا مستقبلا بعد أن يبني تحليلات متراكبة لبيئة تركيا المحلية، الإقليمية والدولية.

   بناءً على ذلك ينطلق أحمد داوود أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي” من اعتبار أنّ قيمة الدولة في العلاقات الدولية تتحدّد بشكل رئيسي من موقعها الجيواستراتيجي ومن عمقها التاريخي، وعليه فإنّ تركيا ذات الهوية المركبة من هوية شرق أوسطية وبلقانية وآسيوية عليها أن تنهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم استقرار داخلي وإقليمي، لأنّه بواسطتهما يتحقّق الأمن القومي التركي، الأمر الذّي يترتّب عليه ضرورة أن تُوظِّف تركيا- بشكل جيد- موروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية. ويرى أنّ تشكّل الثقة بالذات الحضارية مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر.

   يحاجج الكتاب أيضا بأنّ تركيا تصرفت خلال العقود الثمانية من تاريخ الجمهورية الكمالية في القرن العشرين المنصرم بأقل ممّا تسمح لها مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها، في سياساتها الإقليمية والدولية، وتعود أسباب هذا التراجع إلى سياسة القطيعة التّي انتهجتها الدولة الأتاتوركية مع جوارها، كي تفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، وغلّبت فيها الأمن على الحرية، الأمر الذّي أحدث أزمة هوية طاحنة في أوساط النخب التركية، وأفضى إلى تعميق الانقسام بين التيارات العلمانية والجماعات الإسلامية.

   فقد كانت تركيا كانت خلال الحرب الباردة إحدى أهم ركائز حلف الناتو، بوصفها إحدى دول الحلف التّي تمكنت من احتواء الشيوعية، لذلك كانت موضع ثقة الغرب، وكان الولاء للغرب – ذو الطابع العسكري- يتماشى مع تطلعات النخب الأتاتوركية الحاكمة، الذّين حولوا تركيا إلى حارس للمنطقة الجنوبية الشرقية لأوروبا من خطر التمدد الشيوعي، وحين تحرّرت تركيا من مواجهات الصراع الجغرافي السياسي للحرب الباردة بين الشرق والغرب، بدأت في العمل على إثبات وجودها، إذ لم يعد بالإمكان اعتبار تركيا بلداً ظرفياً في إستراتيجية الغرب، بل دولة مركزية لها عمقها الإستراتيجي، وذلك بالاستناد إلى العلاقة الوثيقة ما بين الموقع الجغرافي للدولة وبين مستقبل قوتها ودورها السياسي.

   لذلك فقد كان الكتاب موجِّها حقيقيا ومهندسا لسياسة تركيا الخارجية مع مجيء حزب العدالة والتنمية إذ تمكنت تركيا من الاستفادة من التحولات العميقة التّي طرأت على الخارطة السياسية الدولية ومن ثمّة لعب دور هام على المستويين الإقليمي والدولي، وعاد الأتراك مع مطلع القرن الحادي والعشرين ليجدوا بقوة موطأ قدم لهم في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، وعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذّي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، وخصوصاً بعد أن اكتشفوا أنّهم تحملوا أعباءً كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا بالمقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية من دون التخلي عن الوجهات الأخرى، والطموح التركي بالانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي.

أمّا عن المبادئ العملية التّي يبنغي للسياسة الخارجية التركية أن تسترشد بها فيُقدم لها البروفيسرو داوود أوغلو شرحا مختصرا في مقالة له على مجلة السياسة الخارجية ماي 2010 في خمسة مبادئ أساسية توضيحا لما جاء في الكتاب:

  المبدأ الأول هو التوازن بين الأمن والديموقراطية، فشرعية أيّ نظام سياسي تأتي من قدرته على تأمين الأمن والحرية على السواء لمواطنيه. وهذا الأمن يجب ألا يأتي على حساب الحريات وحقوق الإنسان في البلاد. منذ 2002، حاولت تركيا الترويج للحريات المدنية دون التفريط بالأمن. هذا هدف طموح لكنّه قيّم، وخصوصاً في بيئة ما بعد 11 أيلول، تحت تهديد الإرهاب، ما أدّى إلى توجه عام جرى بموجبه تقييد الحريات من أجل الأمن.

قامت تركيا بخطوات عظيمة لحماية الحريات المدنية، رغم التحديات السياسية المحلية الجدية لهذه الحريات، خلال الأعوام السبعة الماضية. تطلّب ذلك الاضطلاع بحيوية بالنضال ضدّ الإرهاب دون تضييق هامش الحريات المدنية، وهو تحدٍّ تخطّته تركيا بنجاح. خلال هذا المسار، اكتشفنا أنّ قوة تركيا الناعمة زادت، في الوقت الذّي نضجت فيه ديموقراطيتنا.

ثانياً، طُبّق بنجاح مبدأ «صفر مشاكل» مع الجيران في الأعوام السبعة الماضية، إذ تتبع علاقات تركيا مع جيرانها اليوم مساراً أكثر تعاوناً، هناك اعتماد اقتصادي متبادل ينمو بين تركيا وجيرانها. في 2009، على سبيل المثال، حققنا تقدّماً دبلوماسياً كبيراً مع أرمينيا التّي تبقى العلاقة معها في كل الأحوال الأكثر إشكالية في سياسة تركيا الإقليمية.

لقد وصلت العلاقات التركية الأميركية إلى نقطة تستطيع تحقيق تعاون ثنائي والعمل من أجل الاستقرار العالمي، إجازات تركيا المهمة في علاقاتها الإقليمية دفعت صنّاع القرار إلى أخذ هذا المبدأ خطوة أبعد، سعياً وراء تعاون كامل مع جيراننا. منذ منتصف 2009، أسّست تركيا لقاءات لجان استراتيجية على مستوى عال مع العراق، سوريا، اليونان وروسيا. هناك لقاءات حكومية مشتركة تناقش في تفاصيل القضايا الثنائية السياسية، الاقتصادية والأمنية. كذلك هناك إعداد لتأسيس آليات مماثلة مع بلغاريا، آذربيجان، أوكرانيا ودول أخرى مجاورة. وقد ألغت تركيا تأشيرات الدخول مع سوريا، طاجيكستان، ألبانيا، لبنان، الأردن، ليبيا، وروسيا وغيرها. كذلك زادت تجارة تركيا مع جيرانها والمناطق المجاورة زيادة كبيرة في الأعوام الماضية.

المبدأ العملي الثالث هو دبلوماسية سلام استباقية ووقائية تهدف إلى اتخاذ خطوات قبل بروز الأزمات وتصاعدها إلى مستوى خطير. تعتمد سياسة تركيا الإقليمية على الأمن للجميع، وحوار سياسي على مستوى مرتفع، واندماج اقتصادي وتداخل وتعايش الثقافات المتعددة. فكِّروا في وساطة تركيا بين إسرائيل وسوريا، وهو دور لم يُعطه لتركيا أيّ طرف خارجي. أمثلة أخرى على الدبلوماسية الوقائية تتضمن جهود تركيا لتحقيق المصالحة السنّية – الشيعية في العراق، وجهود المصالحة في لبنان وفلسطين، ومصالحة صربيا والبوسنة في البلقان، والحوار بين أفغانستان وباكستان، وإعادة الإعمار في دارفور والصومال.

المبدأ الرابع هو الالتزام بسياسة خارجية متعددة الأبعاد: تهدف علاقات تركيا مع فاعلين عالميين آخرين إلى أن تكون تكاملية، لا تنافسية. هذه السياسة تنظر إلى علاقة تركيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة عبر الروابط الاستراتيجية الثنائية بين البلدين وعبر الناتو. ترى مسار انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، سياسة الجوار الجيدة مع روسيا، وسياسة التزامن في أوراسيا أجزاءً أساسية من سياسة متماكسة من أجل التكامل بين الأطراف. هذا يعني أنّ علاقات جيدة مع روسيا ليست بديلاً عن علاقاتها مع الاتحاد الأوروربي. كذلك فإنّ الشراكة النموذجية مع الولايات المتحدة ليست شراكة منافسة ضد روسيا.

المبدأ الخامس في هذا الإطار هو الدبلوماسية المتناغمة التي تسعى لتحقيق دور أكثر فاعلية لتركيا في العلاقات الدولية. هذا المبدأ يعني التزاماً فاعلاً في كلّ المنظمات الدولية وفي كلّ القضايا ذات الأهمية العالمية والدولية. أصبحت تركيا عضواً غير دائم في مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وهي تشارك في ثلاث لجان مهمة تتعلق بأفغانستان، كوريا الشمالية والحرب على الإرهاب. وأصبحت تركيا رئيسة «عملية التعاون في جنوب شرق أوروبا»، وهو منتدى للحوار بين دول البلقان وجيرانها المباشرين، في 2009 و2010. كذلك فإنّ تركيا عضو في مجموعة العشرين، وهي عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، ولديها آلية حوار استراتيجي مع مجلس التعاون الخليجي، وتشارك بفعالية في جامعة الدول العربية. وقد أطلقت تركيا مبادرات دبلوماسية جديدة عبر فتح 15 سفارة في أفريقيا واثنتين في أميركا الجنوبية، وهي عضو موقّع على بروتوكول كيوتو. هذه التطورات تظهر وجهة نظر جديدة لتركيا، تعتمد على الرؤية، القوة الناعمة، لغة كونية، وتطبيق سياسات خارجية متماسكة في مناطق مختلفة من العالم.

  1. نقاط نقدية للعمق الاستراتيجي:

   قبل أن نسترسل في تسجيل بعض النقاط والملاحظات النقدية المتتالية، أردنا أولا أن نلفت إنتباه القراء إلى بعض الملاحظات الجيوبوليتيكية التّي سجلناها خلال إطلاعنا على الكتاب، فقد لاحظنا تأثرا واضحا لداوود أوغلو في كتابه هذا بأطروحات بعض المدارس الجيوبوليتيكية الأكثر تأثيرا، ففكرة العمق الإستراتيجي بالطريقة التّي صاغها نجد لها أثرا في كتابات الفيلسوف والجيوبوليتيكي الألماني كارل شميدت الذّي طرح نظرية المجال الكبير ” Grossraum ونظر فيها إلى عملية تطوّر الدولة على أنّها الطموح إلى اختيار الحجم المكاني الأوسع مدى، ومبدأ التكامل الإمبراطوري هو التعبير المنطقي والطبيعي عن الطموح الإنساني إلى التركيب، وعلى هذا يرى شميدت أنّ مراحل التوسع المكاني للدولة تتطابق مع مراحل تحرك الروح الإنسانية نحو الشمولية، هذا القانون الجيوبوليتيكي ينسحب أيضا على المجالات التقنية والاقتصادية، حيث يبيّن شميدت أنّه بدءً من لحظة معينة يأخذ التطور التقني والاقتصادي للدولة بمطالبتها بتضخيم سياستها كمّا ونوعا، والحديث هنا لا يدور بالضرورة حول الاستعمار والظلم والاختراق العسكري، فإقرار الـ “Grossraum” يمكن أن يجري وفق قوانين أخرى أيضا، على أساس اتخاذ عدّة دول أو شعوب صيغة دينية أو ثقافية موحدة. فهذه الصيغة تتشابه مع ما يطمح إليه كتاب العمق الإستراتيجي حينما يسعى لتجاوز الإشكاليات العرقية بين ترك، عرب وأكراد وما شابه إلى صيغة ثقافية أكثر شمولا تستند إلى إرث التاريخ المشترك والديانة الواحدة والمصير الأوحد، لذا فأطروحته تختلف عن الباتوروركية مثلا التّي تركز في صيغتها التوحيدية على العرق الأوحد، عرق الأتراك المنتشر ما بين بحر الإدرياتيك في الغرب إلى حدود الصين في الشرق. لن يكون في نظرنا أمرا غريبا هذا التشابه الحاصل بين الصيغتين بين كارل شميدت وداوود أوغلو حينما نُدرك سلفا تأثر الأخير بالنظام التعليمي الأماني وإتقانه لغة الألمان.

   كما نجد تشابها جيوبوليتيكيا آخر بين داوود أوغلو ورائد المدرسة الجيوبوليتيكية الفرنسية الأستاذ فيدال دي لابلانش صاحب نظرية “البوسيبيليزم” من كلمة “Possibleوتعني الممكن، وهي صيغة تصحيحية للمدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية التّي تبالغ في نظر دي لابلانش بشكل واضح في تقييم العامل الطبيعي إذ تعتبره عاملا محدّدا، ذلك أنّ الإنسان في رأي دي لا بلانش يعّد بدوره عاملا جغرافيا مهما يتميّز –فوق ذلك- بالمبادرة فهو ليس جزءً من الديكور، بل هو الممثل الأهم في المسرحية. لذلك يرى دي لابلانش أنّ للتاريخ السياسي أفقان، مكاني “جغرافي” وزماني “تاريخي”، وينعكس العامل الجغرافي في الوسط المحيط أمّا التاريخي فينعكس في الإنسان نفسه “صاحب المبادرة”، فالألمان –في رأيه- أخطئوا في اعتبار السطح الأرضي عاملا حاسما في سلوك الدولة “التوسعي” نحو الخارج، أمّا هو فيقترح النظر إلى الوضع المكاني الجغرافي على أنّه “احتمال” أو “إمكانية”، يمكن أن تُفعّل لتغذوا عاملا سياسيا حقيقيا، ويمكن أن لا تُفعّل، وهذا ما يرتبط إلى حد بعيد بالعامل الذاتي، بالإنسان، ساكن ذلك المكان، لذلك فالعامل الجغرافي للدولة لا يكفي بمفرده لتفسير سلوكها الخارجي، إنّما يجب أن ينضاف إليه دور الإنسان –صانع القرار- الذّي يجعل من العامل الجغرافي فعّالا أو غير ذلك. 

   لاشّك في أنّ هذه الصيغة تذّكرنا بإصرار داوود أوغلو في كتابه هذا على ضرورة أن يُفعّل قادة تركيا الجدد الموقع الجيوستراتيجي المهم الذّي بقي مُعطّلا منذ نشوء الدولة التركية بل ومستغلا من طرف الغرب تحت مسميات التحالف والصداقة من دون أن يحقّق لتركيا الكثير، بل وكان عبئا عليها في كثير من الأحيان حتّى سمّها الباحث الأمريكي صاموئيل هنثنغتون في كتابه “صدام الحصارات” بالدولة الممزقة أو المشتّتة التّي لا تعرف لنفسها هوية واضحة ترسم توجاهاتها الإستراتيجية الكبرى بوضوح، إذن فبإمكاننا النظر إلى العمق الإستراتيجي أيضا على أنّه دعوة جيوبوليتيكية لتفعيل الجغرافيا من قِبل الإنسان صانع القرار على طريقة البوسيبيليزم والمدرسة الجيوبوليتيكية الفرنسية.

   رغم الأهمية الأكاديمية التوجيهية التّي يطرحها هذا الكتاب إلاّ أنّه من الصعب جدّا أن يوفّق صنّاع القرار في الأخذ بها حرفيا أو على الأقل تكييف البيئتين الإقليمية والدولية مع ما يُقدّمه الكتاب من أفكار أو العكس، لذلك نسجّل جملة من هذه الصعوبات التّي تغافل صاحب الكتاب أو لنقل اعتقد بإمكانية إيجاد صيغ مرنة للتعامل معها وتجاوزها:

  • العلاقات الوثيقة مع اسرائيل تثير حساسية شعوب المنطقة وبعض دولها.
  • الارث التاريخي للدولة العثمانية خاصة في المشرق يحول دون تطوير علاقات ثقة مع دوله.
  • العلاقات الوثيقة مع حلف الناتو والولايات المتحدة تجعل تركيا في نظر شعوب العالم الاسلامي مجرد أداة لتنفيذ خطط أمريكا والناتو الاستراتيجية.
  • العلاقات المتوترة مع ايران وروسيا ولجوء بعض دول المنطقة للتحالف معها خلق حالة من الاستقطاب الاقليمي وعدم الاستقرار السياسي في المنطقة ساهمت علاقات تركيا الوثيقة مع الغرب في تعزيزها.
  • دعم تركيا لتيار الاخوان المسلمين في العالم العربي جعلها في حالة صدام مباشر مع دول محورية في المنطقة على غرار مصر والسعودية، وربّما الجزائر مستقبلا.
  • جاءت نظرية أوغلو بمقاربة تصفيرا لمشاكل مع دول الجوار في حين تُثبت تعقيدات المنطقة استحالة تحقيقها على أرض الواقع.
  • لا تكفي نيّة تركيا الحميدة وحدها في انهاء ملف الكردي طالما تعجز في الوقت ذاته عن تعزيز علاقتها السياسية مع دول الجوار، لذا يبقى الملف الكردي -على سبيل المثال لا الحصر- ملف مساومة لدى الغرب والجيران في توجيه الارادة السياسية لتركيا حسب ما تقتضيه مصالحه السياسية والاستراتيجية، بل وإضعاف هذه الإرادة.
  • أثبتت ملفات “الشرق الأوسط” أنّ رهان تركيا على الدعم الغربي والأمريكي يبقى مرهونا دوما بما تتطلبه مصالح الأخير وأنّ تركيا فشلت في خلق علاقات متوازنة في خياراتها الاستراتيجية بين إلتزاماتها الاستراتيجية في علاقتها بالغرب والناتو من جهة وبين تطوير علاقات جيدّة مع روسيا و حلفاء شانغهاي مثلا من جهة أخرى.

خاتمة:

   بالرغم من قوة الأفكار التّي يُقدّمها الكتاب ووضوح تحليلاته إلاّ أنّه من المستحيل على صانع القرار أن يلتزم بتطبيق هذه التوجيهات حرفيا نظراً للديناميكية التّي تتميّز بها العلاقات بين الدول، كما أنّه من الصعب على دولة ما أن تشرع في تنفيذ مشروع ضخم كهذا بإمكانيات معتبرة كالتّي تحظى بها تركيا، فضلا عن التعقيدات السياسية والاثنية التّي تتميّز بها البيئة الإقليمية للمشروع وكذا تعدّد الفواعل المحلية، الإقليمية والدولية المعيقة لتجسيده، مع ذلك يبقى البروفيسور أحمد داود أوغلو كما وُصف بالفعل المهندس الأول للتوجهات الكبرى التّي تبنتها السياسة الخارجية لتركيا في مطلع القرن الواحد والعشرين، كما يبقى كتابه وثيقة أصيلة ستذكرنا وتذّكر الأجيال القادمة بتلك الوثائق القديمة التّي قدمها فلاسفة ومفكرون –على غرار سان تزو وميكيافيللي- لأمرائهم وملوكهم كنصائح وتوجيهات للارتقاء بدولهم إلى مصاف القوى العظمى في التاريخ.

  • المراجع المعتمدة:

1- ألكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، 204، طرابلس، الجماهيرية العظمى.

2- من هو داوود أوغلو رئيس وزراء تركيا الجديد؟، صحيفة الحياة اللبنانية، عدد يوم الخميس 21 أغسطس، 2014.

http://goo.gl/IYXPEO

3- الصادق الفقيه، قراءة في كتاب العمق الإستراتيجي، تركيا تودع الأطراف وتستقر في مركز الأحداث، موقع نافذة مصر، 31/07/2001.

http://old.egyptwindow.net/web_Details.aspx?News_ID=476

4- Ahmet davudoglu, Turkey’s Zero-Problems Foreign Policy, Foreign Policy magazine, May 20, 2010.

http://foreignpolicy.com/2010/05/20/turkeys-zero-problems-foreign-policy/   

جلال خشيب: كاتب وباحث جزائري بمعهد درسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، جامعة مرمرة، إسطنبول وبقسم الدراسات الآسيوية كلية العلاقات الدولية بجامعة الجزائر.

ضع تعليقاَ