لقد تم التنبيه إلى إشكاليات اللجنة الدستورية منذ اليوم الأول للإعلان عنها، وهناك ورقة منشورة على موقع مركز إدراك تتحدث عن إشكاليات اللجنة الدستورية يمكن العودة إليها، تشير إلى 9 إشكاليات بخصوص تشكيل وعمل اللجنة وهي الإشكاليات التي كانت ولازالت المعارضة تشكو منها في عمل اللجنة منذ تأسيسها وحتى اليوم.
ورغم إصرار المعارضة أو أطراف منها، على مجاراة الأمم المتحدة والدول الضامنة في مشروع اللجنة الدستورية لعله ينتهي بطريقة ما إلى عملية سياسية من نوع ما، إلا أن هذه الأطراف الدولية هي نفسها التي تخذل المعارضة اليوم وتضعها من جديد أمام خيار الاستمرار في هذا المسار المتعثر أو الانسحاب وتحمل كلفة الدم والهدم.
فمن الواضح من البيان المشترك الذي صدر في 28 كانون الثاني/يناير 2021 عن تركيا وروسيا وإيران، أنّ الدول الضامنة غير معنية بممارسة الضغط على النظام أو بتثبيت أطر زمنية وجداول عمل دقيقة لاجتماعات اللجنة الدستورية، بحجة أن هذا يعتبر تدخلاً خارجياً، ولكنهم في نفس الوقت مصرون على استمرار العملية السياسية -إن صح تسميتها كذلك-، ومصرون على المضي في هذا المسار من بوابة الدستور كأولوية.
إنّ مشكلة المعارضة اليوم أن هيئاتها بوضعها الحالي ليست أكثر من أجسام دبلوماسية بدون أنياب أو أظافر، وفي نفس الوقت لا تستطيع المضي بهذا المسار بهذه الطريقة لأبعد من ذلك، بينما تشاهد النظام يمضي بمشروعه أو مساره الخاص الذي يقطع الطريق على أي أمل بحل سياسي عادل في سوريا، فلم تعد تملك إلا أن تجمد نشاطها أو تخفف فاعليتها ضمن هذا المسار بطريقة مباشرة أو تدريجية، لعل الأطراف المعنية تسمع صوتها وتستجيب لشكواها.
والواقع أن أي تصعيد أو ردة فعل من المعارضة تجاه مسار اللجنة الدستورية حالياً غالباً لن ينعكس إلى ضغط مباشر على النظام، ولكنه سيؤدي إلى تعطيل عمل اللجنة رسمياً، وسيمثل دعوة ضمنية للدول الضامنة وباقي الجهات المعنية للعمل على استنقاذ العملية أو تقديم حلول وخطط بديلة، وعلى أثر لك صرح المبعوث الأممي بيدرسون أن الجولة الأخيرة كانت مخيبة للآمال وأن النظام يمارس التعطيل والمماطلة وأنه يأمل بزيارة دمشق قريباً للحديث حول آلية عمل اللجنة، كما أعلنت الدول الضامنة في بيانها المشترك أنها ستجتمع في سوتشي لمناقشة التطورات في عمل اللجنة.
ومع اقتراب موعد اجتماع الدول الضامنة (16 – 17 شباط/فبراير 2021) فلا يوجد ما يؤشر إلى أن هذه الجولة ستكون مختلفة في مخرجاتها عن الجولات السابقة التي عادة ما تتضمن: التأكيد على وحدة سوريا وسيادتها، ونقد المشاريع التي تسعى لفرض واقع جديد في سوريا (“الادارة الذاتية” و “حكومة الانقاذ”)، والتأكيد على مكافحة الإرهاب وأولوية القضاء عليه (هيئة تحرير الشام ومن في حكمها في الشمال السوري، وحزب العمال الكردستاني والتنظيمات التي تشبهه أو المرتبطة به في شمال شرق الفرات)، وربما يتضمن الإشارة إلى نفط سوريا وعدم الاستيلاء عليه والتنديد بالهجمات الإسرائيلية المتكررة.
ولكن تعثر مسار اللجنة الدستورية وتعطيل أو تجميد وفد المعارضة مشاركته فيها يفتح المجال أمام مشاريع معينة مثل الطرح الذي يدعو لإقرار وثيقة مبادئ دستورية بدلاً من العمل على صياغة دستور، وهذا الطرح إن تم المضي به فلن يكون مفاجئاً بل هو في حقيقته تطور متوقع للفشل في صياغة دستور، وسط كل التعقيدات التي يعيشها اليوم المجتمع السوري، وعدم قناعة السوريين بأن المشكلة أصلاً في الدستور، وإنما بتعنت النظام، وعدم نزوعه لأي حل سياسي يمكن أن يتضمن أي شكل من أشكال المشاركة السياسية.
أهمية هذا الطرح تتأتى من أنّ الاتفاق على نصوص دستورية ليتم التعامل معها كمباديء فوق دستورية، يمثل مخرجاً مناسباً للدول الضامنة والجهود الدولية التي لم تستطع تحقيق تقدم حقيقي في المسار الذي اختطته، وهي في نفس الوقت لا تريد أن يشار لمسار الحل السياسي الذي أطلقته على أنه مسار فاشل، لأنّ هذا سيضعها أمام استحقاقات صعبة كدول ضامنة وكأطراف مسؤولة في المنظومة الدولية.
وبالنسبة للنظام فإن المضي في صياغة ورقة مبادئ بدلاً من صياغة دستور لن يصطدم مباشرة مع مساعيه الحالية في صياغة مشهده السياسي الخاص وإجراء انتخابات رئاسية وفق دستوره وعلى طريقته.
الطرح الآخر الذي قد ينتعش مع حالة التعثر التي يمر بها المسار السياسي، يتضمن التحرك الذي تقوم به شخصيات معارضة من جهة، وتدفع باتجاهه روسيا والنظام من جهة أخرى، باتجاه إعادة النظر في تركيبة المعارضة(الائتلاف، هيئة التفاوض) والتوجه نحو: إضعاف الائتلاف وشرعيته واعتباره مجرد منصة إلى جانب منصات أخرى، وإذا أراد الاستمرار في لعب دور أساسي فعلى هذه المنصة أن تتنازل عن ثوابتها وسقفها “المرتفع” وأن تقبل بتوسعةٍ تضم فيها باقي المنصات إليها (موسكو القاهرة قسد وآخرون)، وربما سيكون عليها نقل مقرها إلى دولة كمصر مثلاً، في مقابل أن يصبح الائتلاف مرجع العملية السياسية من طرف المعارضة، ليتم تجاوز هيئة التفاوض تماماً -وهي أصلاً متعثرة-، وإلا فسيتم الإعلان عن جسم بديل يضم كل هذه الأطراف إلى جانب عددٍ من شخصيات المعارضة التي ابتعدت عن الائتلاف في وقت سابق.
في كل الأحوال وبينما تحاول المعارضة معالجة أزمتها ومعالجة تبعات فشل مسار الحل السياسي من بوابة اللجنة الدستورية، وهو المشروع الذي رمت فيه بالكثير من ثقلها دون تقدير جيد لتبعات فشله، فإن الضغط الفعلي على النظام في الفترة الحالية، لا يأتي من طرف الدول الضامنة ولا المبعوث الأممي ولكنه يأتي تحديداً من طرف الولايات المتحدة(عقوبات وعزلة)، بينما يتلخص دور الجهات الأوروبية وغيرها من دول الإقليم بالتعاون والتماهي أو مجاراة الولايات المتحدة في سياساتها ضد النظام.
ولا يبدو أن الولايات المتحدة ترى ضيراً في استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه لحين تفرغ الإدارة الجديدة لهذا الملف، وما رشح حتى الآن من سياسات إدارة بايدن يظهر منه أنها تميل لمعالجة الملف السوري من داخل ملفات أخرى مثل المسألة الكردية وعودة داعش والتواجد الإيراني في سوريا والمنطقة، والعلاقة مع تركيا، والوضع الإسرائيلي وغيرها.
وهذه كلها معالجات قد تؤدي لتحصيل تنازلات من النظام ولكن لن تؤدي بالضرورة إلى إسقاطه في وقت قريب، -طالما يتمتع بدعم حلفائه الذين لن يسمحوا بسقوطه إلا بتفاهم مرضي شامل وهذا مستبعد- وبالطبع ستحرص الولايات المتحدة على أن يتم توجيه هذه التنازلات لكي يستفيد منها بالدرجة الأساس حلفاؤها وشركاؤها في سوريا والمنطقة وليس المعارضة،
وبالتالي فأكثر ما يمكن أن تأمله المعارضة من الضغوطات الأميركية -استناداً للمعطيات الحالية- أن يتسبب الضغط على النظام بتعطيل قدرته -عسكرياً وسياساً- على شن هجمات واسعة على مناطق المعارضة، وربما ينجح هذا الضغط في تعطيل هجمات النظام كلياً،
ما عدا ذلك فلا يبدو أن سياسات الولايات المتحدة -بشكلها الحالي- تنجح أو موجهة أصلاً لدفع النظام للتعامل مع العملية السياسية الحالية ومسار اللجنة الدستورية بجدية، ولا لمنع النظام من المضي في مساره الخاص وإجراء انتخابات رئاسية تقطع الطريق تماماً على أي حل سياسي عادل بعد أن أجرى انتخابات تشريعية، ولا لمنع النظام من رهن الدولة السورية وتقاسمها بين روسيا وإيران، ولا حتى لحلحلة القضايا الإنسانية مثل الإفراج عن المعتقلين وتخفيف القيود السياسية عن المواطنين والسماح بعودة المعارضين، وفتح الباب أمام عودة اللاجئين، مع أن قانون قيصر بالأصل كتب بدماء المعتقلين الذي قضوا تحت التعذيب في سجون النظام.
وبالتالي فعلى المعارضة السورية أولاً أن تعمل على تقييم دقيق واستراتيجي للسياسات الأميركية في الملف السوري، لتحديد موقفها من طريقة عمل العقوبات الأميركية ثم السعي لتعديل هذه السياسات وآلية عمل العقوبات بما يسمح لها بتوظيف الضغط الذي تحدثه هذه العقوبات بما يجعل النظام يتردد جيداً قبل أن يماطل مع المعارضة بالطريقة التي يتعامل بها الآن. وبما يدفع باتجاه تحقيق أهداف الحراك السوري وإحداث التغيير الذي يتناسب مع حجم التضحيات التي قدمها السوريون للخلاص من النظام والعيش بكرامة، وليس لصالح توجهات ومكاسب فئوية أو أجندات ومشاريع إقليمية ودولية.
أيضاً المعارضة بحاجة لترميم شرعيتها، وأن تدرك أنّ أفضل طريقة لتحصين نفسها من العبث بتركيبتها أو تغيير سقف مطالبها، تتلخص بتجاوز الدور الدبلوماسي إلى التمثيل السياسي، الذي يعكس التوجهات الحقيقة للشعب السوري ويستمد شرعيته منه ويتبنى طموحاته ويعمل لتحقيق أهدافه.
والكف عن المضي في مسارات ومشاريع سياسية ودولية دون ضمانات حقيقية، ومنهجية واضحة، وإطار عمل دقيق، بما يضمن لهذه المسارات أن لا تتعطل أو تنحرف عن أهدافها، وصولاً لتحقيق النتائج المنشودة منها.