مايو 5, 2024

مأزق الحل السياسي في سوريا

المراحل والمسارات التي مر بها الحل السياسي في سوريا والعقبات التي تحول دون تحقيق تقدم فيه

باسل حفار

مراحل الحل السياسي في سوريا

عندما بدأت الاحتجاجات في سوريا عام 2011، وحتى قبل أن تتحول إلى صراع مسلح، ساد انطباع بأن النظام لن يصمد طويلاً، وأن سوريا لن تكون سوى حالة مكررة لأحد تجارب الربيع العربي التي سبقتها، وهو ما تمت ترجمته إلى توسع مضطرد في الاحتجاجات، وخطوات متسارعة إقليمية ودولية، تعاملت في مجملها مع مسألة سقوط النظام كأمر واقع، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، وفرض العقوبات، وتسليم مقعد سوريا في الجامعة العربية للمعارضة.

اليوم ونحن على مسافة 13 عاماً طويلة، من انطلاق الحراك، فلا زالت سوريا واحدة من أكبر التحديات السياسية والإنسانية على المستوى العالمي، وعلى الرغم من جهود الوساطة والإغاثة والمساعدات الدولية، فلا تزال الأزمة قائمة، دون تقدم ملموس في مسار الحل السياسي، الذي يعيش حالة جمود منذ فترة،

ولدى الحديث عن مسار الحل السياسي في سوريا فهناك دائماً نسخة مختصرة لتوصيف تعقيدات هذا المسار خلاصتها: أن العملية السياسية عالقة وسط تضارب أجندات الفاعلين الدوليين وتعنت النظام وتمسكه بالسلطة وعلو سقف طموحات المعارضة، غير أن مخاض الحل السياسي في سوريا أعقد بكثير من هذا التوصيف المختصر.

“بيان جنيف” وتأطير الحل السياسي في سوريا

رغم المحاولات المبكرة والمتنوعة التي بذلها الفاعل السوري، عبر العديد من الوثائق والمبادرات التي صدرت عن مختلف هيئات وأطياف المعارضة السورية، إلا أن الحل السياسي في سوريا تم تأطيره فعلياً وتحديد معالمه من خلال الجهود الأممية والقرارات الدولية.

مثلت مبادرة المبعوث الأممي كوفي عنان، في شباط/فبراير 2012، بداية التدخل الدولي/الأممي الملموس على صعيد الحل السياسي، والذي أسفر بداية عن خطة من ست نقاط، تطورت لاحقاً إلى ما بات يعرف بـ “بيان جنيف” الذي صدر في 30 يونيو/حزيران 2012، عن “مجموعة العمل من أجل سوريا”، وحظي بتأييد مجلس الأمن.

تمت صياغة “بيان جنيف(2012)” بعناية فائقة، وطوال الفترة من 2012 – 2015 كان المرجع والإطار الوحيد للحل السياسي في سوريا.

ومع أنه نص بوضوح على تشكيل “هيئة حكم انتقالية” كاملة الصلاحيات، وانتخابات ودستور، إلا أنه نص أيضاً على أنّ تنفيذ هذه الخطوات يجب أن يتم بالحوار والشراكة مع ممثلي حكومة النظام السوري، وهو ما لم يكن متسقاً مع توجهات الحراك الذي اعتبر النظام فاقداً للشرعية ولا يمكن أن يكون شريكاً في الحل، ولم يكن متسقاً كذلك مع توجهات النظام، الذي لا يعترف بالمعارضة ولا يريد التنحي عن السلطة.

ولم تكن الأطراف السورية المتنازعة هي وحدها غير المتفقة كلياً مع بيان “جنيف1″، بل إنّ أطراف المجتمع الدولي نفسها التي شاركت في صياغة البيان وأيدته في مجلس الأمن، تبين أنها هي الأخرى منقسمة حول آليات تنفيذه وتفسير بنوده، ما أفشل تطبيقه.

وتجلى هذا الفشل في مفاوضات “جنيف2″(فبراير/شباط 2014) التي رعتها الأمم المتحدة بين النظام والمعارضة، وانتهت إلى عدم وجود أرضية لتحقيق تقدم في مسار الحل السياسي وفق بيان جنيف1.

ولم يقتصر فشل المجتمع الدولي على عدم تحقيق تقدم ملموس في العملية السياسية بل تجاوزه إلى الحياد عن أسس و مفردات الحل السياسي التي اختطها لنفسه في بيان “جنيف1″، عبر تبني خطاب وصياغات أظهرت ميلاً تدريجياً نحو تمييع مطلب “هيئة الحكم الانتقالية” كمدخل للحل السياسي، والإشارة بدلاً من ذلك إلى هذا البند كمطلب اختياري إلى جانب وسائل أخرى.

في الوقت الذي بدأت فيه أولويات أخرى تأخذ مكانها في مساق الحل السياسي في سوريا مثل الإرهاب والانتخابات والدستور والقضايا الإنسانية، بالإضافة إلى تفاصيل إشكالية بدأت تشغل مساحة واسعة في نقاشات الحل السياسي في سوريا، مثل: مصير بشار الأسد وإمكانية حدوث عملية تغيير خلال وجوده في سدة الحكم بصلاحيات محدودة، وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالية وشمولها للأجهزة الأمنية والعسكرية،

ورافق هذه التحولات في الجانب السياسي تطورات لا تقل أهمية في الجانب الميداني تمثلت بسيطرة المعارضة السورية على نقاط استراتيجية مثل مدينة إدلب، وإعلان روسيا تدخلها العسكري إلى جانب النظام في سبتمبر/أيلول 2015.

بيانا فيينا والقرار 2254: الحياد عن “بيان جنيف”

شكل بيانا فيينا اللذان صدرا في أكتوبر ونوفمبر 2015 عن “المجموعة الدولية لدعم سوريا (ISSG)” وقرار مجلس الأمن 2254 (ديسمبر 2015)، نوعاً من إعادة تشكيل مرجعية الحل السياسي، حيث تم النص على الهوية العلمانية لسوريا، ومرجعية “بيان جنيف(2012)”، و انتخابات حرّة ودستور جديد، ولكن بدون ذكر البدائل أو الإجراءات المترتبة على عدم تنفيذ هذه البنود في الفترة الزمنية المقررة ما جعل الطريق مفتوحاً أمام عرقلتها والفشل في تنفيذها.

كما تم إغفال مصير رئيس النظام، والتأكيد على إشراك ممثلين عن النظام كطرف في الحل، عبر استخدام عبارة “الموافقة المتبادلة”، كشرط لتشكيل “هيئة الحكم الانتقالية” التي نص القرار عليها كوسيلة من ضمن وسائل أخرى يمكن العمل عليها، وليس الوسيلة أو المدخل الوحيد للحل، واستبدلت خطوة “ضمان الهدوء والاستقرار”، بمقاربة أضيق تتضمن “وقفاً غير شامل لإطلاق النار” يستثني المجموعات الإرهابية حيث تم النص على تنظيمي داعش والنصرة دون غيرهما.

لقد عكس القرار 2254 حالة الخلافات الدولية حول الملف السوري، ومع أنه مثّل -في إطاره العام- إجماعاً دولياً جديداً حول وجوب حدوث انتقال سياسي من نوع ما في سوريا، ولكنه من ناحية أخرى وفي تفاصيله بدى وكأنه تماهي لصالح الرؤية الروسية للحلّ، وتخلٍ رسمي من طرف المجتمع الدولي عن التزاماته تجاه الحراك الشعبي والمعارضة السورية.

في كل الأحوال ومع صدور القرار 2254 لم يعد جنيف1 هو المرجعية الوحيدة للحل السياسي في سوريا وبدأت مرحلة جديدة، 

وكانت المعارضة السورية قد استبقت القرار 2254 بعقد مؤتمر “الرياض1” وتشكيل هيئة التفاوض، التي شاركت في جولات المفاوضات مع النظام برعاية الأمم المتحدة ضمن مسار جنيف ولكن دون نتائج تذكر، بينما على الأرض كانت الأمور تأخذ منحى آخر، 

كان التصعيد في الميدان يزداد وأعداد الضحايا ترتفع، و دور الفواعل الخارجيين -خصوصاً الروسي والإيراني-، يتوسع، ما سمح للنظام باستعادة السيطرة على العديد من المناطق التي خسرها، بينما تكبدت المعارضة خسائر متتالية توّجت بسقوط مدينة حلب في نهاية عام 2016، والذي مثل بداية فصل آخر جديد في المشهد السوري، غابت فيه بشكل كبير فكرة “رحيل النظام” و “هيئة الحكم الانتقالية” عن أولويات الحل السياسي في السياقات الدولية.

مسار أستانا: الترجمة العملية للرؤية الروسية

في ضوء عجز الأمم المتحدة، وتغير موازين القوى على الأرض والظروف المحيطة بالشأن السوري، انطلق في يناير/كانون الثاني 2017 مسار أستانا الذي رعته روسيا وضم كلا من تركيا وإيران، ليشكل النقلة الجديدة في مسار الأحداث في سوريا،

ركز هذا المسار في بدايته على تثبيت وتوسيع وقف إطلاق النار، لينجح أخيراً في الجولة الرابعة من محادثات أستانا(مايو/أيار 2017) بتحقيق تقدم ملموس في هذا الجانب عبر توقيع “اتفاق مناطق خفض التصعيد”.

وجاء هذا التقدم مقروناً بتوسع دور مسار أستانة وتداخله مع جانب الحل السياسي، وصولاً إلى عقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي(يناير/كانون الثاني 2018)، واعتماد مخرجاته كمرجع أو إطار للحل السياسي إلى جانب القرار 2254 -بديلاً عن بيان جنيف-، ثم إلى تشكيل اللجنة الدستورية (سبتمبر/أيلول 2019).

أسفر مسار أستانا بجولاته الـ 21 -والتي كانت آخرها في كانون الثاني/يناير 2024-، عن تبلور مرجعية واقعية ميدانية تعكس رؤية روسيا للحل -أو جزء كبير منها- عبر تعزيز سيطرة الأسد وبسط نفوذها في سوريا واستثمار التقدم العسكري بتحويله إلى منجز سياسي وتمكين إيران كطرف أساسي في وقف إطلاق النار والعملية السياسية، في ترجمة عملية للانحراف عن بنود “بيان جنيف”، الذي أقر في بياني فيينا والقرار 2254. 

في هذه الأثناء كان المبعوث الأممي دي ميستورا يحاول الدفع بمقاربته الخاصة للحل التي عرفت بمقاربة السلال الأربعة(هيئة الحكم، الدستور، الانتخابات، الإرهاب) ليعلن عنها بشكل رسمي في محادثات جنيف4(فبراير/شباط 2017)، وليتخلى لاحقاً عن بند “هيئة الحكم الانتقالية” ويركز على الإرهاب والدستور والانتخابات، في تماهٍ مع الرؤية الروسية ومسار أستانا الذي حيّد “هيئة الحكم الانتقالية” و “الحوار الوطني” و “البيئة الآمنة” واكتفى من جميع الطروحات والقرارات الدولية ببند “الدستور” و “الانتخابات”، كأساس لعملية سياسية في سوريا، تجري تحت سلطة النظام.

اللجنة الدستورية

شكلت خطوة الإعلان عن اللجنة الدستورية السورية في أيلول 2019 على هامش قمة روسية تركية إيرانية، النقلة التالية في مسار الحل السياسي في سوريا، بعد أن واجهت العديد من العثرات بسبب الخلاف على دور الأمم المتحدة، ورئاسة اللجنة، صلاحيات عملها، والقواعد الإجرائية الخاصة بها، في محاولة من روسيا للاستئثار بهذا المسار وتطويعه لرؤيتها للحل بشكل كامل، ولكن الأمم المتحدة حسمت الخلافات المبدئية عبر وثيقة أممية (S/2019/775)، ونصت على مرجعية اللجنة لـ “بيان جنيف” وبنوده الـ 12 وليس سوتشي و أستانا، وهذا من شأنه أن يعيد الاعتبار -ولو بعد حين- لخطوة “هيئة الحكم الانتقالية”، ويقطع الطريق أمام محاولات حصر الحل السياسي في سوريا بدستور وانتخابات لا تفضي لتغيير سياسي حقيقي.

تميز هذا المسار بالمشاركة الرسمية والفاعلة للمجتمع المدني الذي خصصت له ثلث مقاعد اللجنة الدستورية إلى جانب كتلتي النظام والمعارضة، 

مع ذلك وعلى مر نحو أربعة أعوام من عمر اللجنة(2019 – 2022)، و ثماني جولات من اجتماعاتها، لم تفلح بأطرافها الثلاثة، (المعارضة، النظام، المجتمع المدني) بكتابة مادة واحدة من الدستور الجديد للبلاد، فيما وصف بيدرسون القسم الأعظم منها بأنها “مخيبة للآمال”، ليدخل بعدها هذا المسار -الذي اختزلت فيه كل جهود الحل السياسي- في حالة جمود، شأنه شأن المشاريع والمسارات التي سبقته، دون أن يفضي إلى تقدم ملموس في عملية انتقال أو تحول سياسي في سوريا،

وعلى العكس فخلال هذه الفترة وسّع النظام من مساحة نفوذه ورسخ قبضته على مقاليد الأمور في مناطق سيطرته، وبادرت العديد من الدول للانفتاح عليه، وبدأت أزمات إضافية بتصدر عناوين المشهد السوري، مثل الواقع المعيشي، والكبتاجون، وتزايد أعباء اللاجئين وتوسع النفوذ الإيراني، وغيرها من تبعات غياب الحل السياسي الذي بدأت أعراضه بالتحول إلى مشكلة مزمنة تعاني منها دول المنطقة والعالم.

تواجه عملية تفعيل مسار اللجنة الدستورية حالياً اعتراضاً على مكان انعقاد الاجتماعات حيث ترفض كل من روسيا والنظام عقد لقاءات اللجنة الدستورية في جنيف/سويسرا -بعد أن شاركت بفرض عقوبات على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا- بحجة أنهم يعتبرونها مكاناً غير محايد.

بالرغم من أن روسيا كانت من أشد المتحمسين للمضي بمسار الدستور لدرجة أنها أقدمت في أول جولات أستانا (يناير/كانون الثاني 2017) على توزيع مسودة دستور مقترح من طرفها على وفود المعارضة والنظام لمناقشته، غير أن حماسة روسيا انقلبت إلى دور معرقل بمجرد دخول الأمم المتحدة على خط عمل اللجنة الدستورية وربطها بمرجعية “بيان جنيف”، وهذا ما يفسر سلوك النظام وحلفائه الذي يؤشر لعدم رغبتهم باستمرار عمل اللجنة الدستورية -وفق القواعد الحالية-، وهذا أيضاً ما يرجح التوقع بأن روسيا -وكما حصل مع خطوة وقف إطلاق النار(خفض التصعيد)-، سوف تستمر بعرقلة هذا المسار ومنع إحراز أي تقدم فيه حتى تستحوذ عليه لإعادة قوعدته وفق الرؤية الروسية للحل في سوريا.

خطوة مقابل خطوة

وفي معرض البحث عن مخرج من هذا الوضع المتأزم برزت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” والحل “المتدرج” للأزمة السورية كآلية بديلة للتعامل مع الوضع في سوريا، تتضمن التركيز على سلوك النظام وليس رحيله، وتقديم الحوافز له في مقابل التعاطي بإيجابية مع القرارات الدولية والعملية السياسية، وقد اقترح بيدرسون نفسه العمل وفق هذه المبادرة بعد تعطل مسار اللجنة الدستورية.

وبقدر ما مثلت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” محاولة للخروج من حالة الجمود التي تمر بها العملية السياسية، فقد جسدت أيضاً خيبة فشل بيدرسون كما جسدت مقاربة السلال الأربع فشل سلفه ستيفان دي ميستورا من قبل، الذي استقال في نوفمبر/تشرين الثاني 2018،

فسرعان ما تحولت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” من مقاربة للحل في سوريا، إلى مدخل وغطاء للتطبيع العربي مع النظام في سوريا -كل على طريقته-، والذي بلغ ذروته بعد زلزال شباط 2023، مفضياً إلى تطبيع علاقات النظام الدبلوماسية مع معظم دول المنطقة، وعودته إلى الجامعة العربية في مايو/أيار 2023، وتشكيل لجنة الاتصال الوزارية العربية للإشراف على الحوار مع النظام.

إلا أن المبادرة والجهد الأبرز ضمن نهج “خطوة مقابل خطوة” تم التعبير عنه من خلال “المبادرة الأردنية” في يونيو/حزيران 2023، التي تطورت عن “ورقة اللاورقة” التي تقدم بها الأردن في 2021،

تعتبر “المبادرة الأردنية” -التي تتمتع بدعم ومشاركة العديد من الدول-، أنّ القرار 2254 أفضل السبل للمضي قدماً، وفي نفس الوقت تقرر أن “تغيير النظام ليس هدفاً فعالاً”، وتنتهي إلى أن الخطوات المتوقعة من دمشق وحلفائها هي “سحب جميع التواجدات الإيرانية العسكرية والأمنية من سوريا، وانسحاب حزب الله والميليشيات الشيعية”، مقابل “انسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من جميع الأراضي السورية التي دخلوها بعد 2011 بما في ذلك مناطق شمال شرقي سوريا وقاعدة التنف الأميركية، ورفع العقوبات، و تمويل المانحين لإعمار سوريا”.

رغم الزخم الذي أحاط بالمبادرة العربية إلا أنه لم تمض بضعة شهور قبل أن تتداول أنباء عن تعليق اجتماعات ممثلي النظام واللجنة الوزارية للجامعة العربية، كنتيجة لعدم إحراز تقدم حقيقي في نهج الحل الجديد، وفشل المحادثات اللبنانية السورية حول عودة مئات الآلاف من السوريين اللاجئين في لبنان، وعدم تعاون النظام في سوريا في الحد من تجارة الكبتاغون.

واليوم وبعد مرور ما يزيد عن تسعة أشهر على طرح هذه المبادرة الأردنية، فلم يتمخض هذا المسار عن تقدم ملموس في مسار الحل أو معالجة المشكلات التي على أساسها تم تبني هذا النهج مثل الكبتاغون، واللاجئين، والنفوذ الإيراني وغيرها،

ليدخل مسار الحل في سوريا من جديد في حالة جمود، عززها هذه المرة ظهور أزمات أخرى احتلت الصدارة على سلم أولويات الاهتمام العالمي والإقليمي مثل تطورات الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة.

ماذا بعد ..

تجد روسيا اليوم نفسها مضطرة مرة أخرى للتدخل إلى جانب النظام، بطريقة لا تبتعد كثيراً عن استراتيجيتها المعهودة في محاولة الاستحواذ على مسار الحل وجره إلى مجال رؤيتها الخاصة،

فبعد التقدم الذي تحقق في مسيرة الحل السياسي -من وجهة نظر روسية-، أصبح لدى النظام وحلفائه ما يخسرونه، وأمام الواقع الاقتصادي المتردي والتحديات التي تعاني منها سوريا وتحديداً مناطق سيطرة النظام في سوريا على الصعيد الداخلي، والالتزامات المستحقة بعد سنين الحرب والاستنزاف، فإن النظام لا يملك اليوم ترف عزل نفسه وإدارة ظهره لمحيطه والعالم من حوله تحت شعار الصمود والتصدي، كما فعل من قبل. 

ولعل هذا ما استدعى تدخلاً روسياً لإنقاذ جهود التطبيع مع النظام، تجلى بعقد جولة جديدة من محادثات أستانا في يناير/كانون الثاني 2024، رغم إعلان الدولة المضيفة (كازاخستان) اعتذارها عن استضافة المحادثات في وقت سابق، وتوقفها لما يزيد عن الستة أشهر، 

حيث تم تضمين هذه الجولة (أستانا21) مناقشات مغلقة مع الدول المجاورة لسوريا، حول الوضع الصعب على الحدود الأردنية السورية، والتدفق الكبير للاجئين السوريين إلى لبنان، ومكافحة الجماعات الإرهابية والتهديد الآتي من الحدود السورية العراقية

واستكمالاً لعملية الإنقاذ الروسية، وبعد أيام قليلة من انتهاء الجولة الـ21 من محادثات أستانا، كشف “ألكسندر لافرنتييف” عن نية روسيا العمل على عقد جولة جديدة من اللجنة الدستورية في وقت قريب، وأن مشكلة مكان انعقاد اللقاء سيتم حلها بالتنسيق مع المبعوث الأممي، وهو ما أثار انطباعاً بأن الاندفاع الروسي لتفعيل مسار اللجنة الدستورية يأتي مشفوعاً بالسعي للاستحواذ على مسار اللجنة الدستورية عبر محاولة إعادة قوعدة هذا المسار وفق الرؤية الروسية للحل بعيداً عن مقررات بيان جنيف و متطلبات “المبادرة الأردنية”، غير أن المبعوث الأممي غير بيدرسون وكتلة المعارضة أظهروا معارضة صريحة ضد هذا التوجه، وهو ما يشي باستمرار الجمود في مسار اللجنة الدستورية ومسار الحل السياسي بشكل عام، لتحل محله تفاهمات ثنائية ضيقة، أمنية واقتصادية، بين النظام ودول الجوار.

تتتابع في مسيرة الحل السوري، جولات تتدافع فيها رؤى مختلفة حد التصادم، تسعى لإعادة رسم إطار الحل السياسي بما يناسب تصوراتها بدلاً من أن تخضع له في تحركاتها وتوجهاتها،

ومع أن بيدرسون اختصر الكثير عندما صرح في يناير/كانون الثاني 2022: “بأن لا خلافات استراتيجية بين واشنطن وموسكو حول سوريا”، إلا أن واقع الحال يؤكد أن الأطراف المتنازعة في سوريا تنظر وتتحرك تجاه بعضها البعض من خارج الإطار الذي ترسمه قرارات وتوجهات الأمم المتحدة وليس وفقاً لما جاء فيها،

ونتيجة لذلك فلا يبدو أن المشهد السوري اليوم، يختلف كثيراً -من حيث قربه من حل حقيقي-، عن لحظة صدور “بيان جنيف” في 2012، سوى أنّ واقع سوريا بات أكثر تعقيداً ودماراً وانقساماً.

هذا التقرير منشور أيضاً على موقع الجزيرة نت

ضع تعليقاَ