مقاربة البيت الأبيض لثاني أكبر ديانة في العالم لا تُعدُّ تعصّبا وحسب، وإنّما كارثة إستراتيجية
بقلم: ستيفن والت[1]
ترجمة: جلال خشيب[2]
مجلة السياسة الخارجية – 17 فبراير 2017
في هذا المقال يُقدّم البروفيسور ستيفن والت، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة هارفرد الأمريكية، خمس أسباب أساسية كدليل حاسم بأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وطاقم مساعديه “المتطرفين” مخطئين بشكل مميت بخصوص وجود “تهديد إسلامي” يتربّص بالحضارة المسيحية-اليهودية الغربية عموما وبالولايات المتحدة على وجه أخصّ، وأنّ هكذا إدّعاءات ليست إلاّ مجرد ذرائع سخيفة يروّجها هؤلاء طلبا لمزيد من السلطة والقوة داخل البيت الأبيض أو تحقيقا لمصالح أخرى ليست لها أيّةُ صلة بالمصالح الحيوية الأمريكية في العالم.
تأتي أهمية المقال أيضا من الأهمية الأكاديمية لكاتبه، البروفيسور ستيفن والت، أحد الروّاد المعاصرين للمدرسة الواقعية، والذّي سبق له وأن أصدر دراسة مشتركة مع البروفيسور جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو نالت صيتا وشهرة كبيرتين حملت عنوان: “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” سنة 2006، أحدث ضجّة داخل الأوساط الأكاديمية والرسمية على حدّ سواء، وتسبّب في تعرّض الباحثين لتهمة معاداة السامية، بعدما حاججا بنبرة ناقدة وصريحة بأنّ الولايات المتحدة في علاقتهما مع “إسرائيل” تُنفق ميزانية ضخمة لا علاقة لها بالمصالح الأمريكية الحيوية حول العالم. يبدو أنّ هذا المقال لا يختلف في نبرته الإنتقادية الحادة عن نبرة هذا الكتاب.
لقد تمّ معالجة المسائل المتعلقة بدونالد ترامب بشكل واسع خلال دورة إنتخابات 2016، والتّي منحنا فيها إهتماما غير كافيٍ لأولئك الناس المتربّصين داخل حملته الإنتخابية، الذّين إنتقلوا الآن إلى مناصب أساسية في صنع القرار. قبل كلّ شيء، يُعدُّ الإستراتيجي السياسي ستيفن بانون (Stephen Bannon) إحدى الشخصيات المثيرة للقلق في البيت الأبيض، والذّي كان موظّفا سابقا لدى مؤسسة مجموعة غولمان ساكس المصرفية (Goldman Sachs)، إشتغل كمنتج هوليودي وكذا رئيس مؤسسة بريتبارت (Breitbar)، يبدو هذا الرجل وراء الكثير من مقاربات دونالد ترامب الفوضوية في السياسة الخارجية. لكن، يمكن إضافة غريبي أطوار آخرين على غرار “خبراء” الترويج الذاتي للأمن القومي، مثل السيد سيباستيان غوركا (Sebastian Gorka) (الذّي إدّعى على نحو زائف كونه شاهدٌ خبير في المحاكمة المتعلقة بقضية ماراثون بوسطون “Boston Marathon”)، والسيد فرانك غافني (Frank Gaffney) مهووس الإسلاموفوبيا، والذّي أُخِذت رُؤاه المتطرفة بشكل جدّي كما يبدو من طرف مستشار الأمن القومي ذو الأمد القصير السيد ميشال فلاين (Michael Flynn)، وحتّى تكون لدينا فكرة عن السيد غافني خارج البيت الأبيض، فلننظر إلى مركز أبحاثه، الثينك تانكس، المسمى ب: “مركز السياسة الأمنية (The Center For Security Policy)، الذّي تمّ تعريفه بكونه “جماعة متطرفة” من قِبل “مركز قانون الحاجة الجنوبي” (The Southern Poverty Law Center)، كما تمّ إنتقاده من طرف “رابطة مكافحة التشهير للتعريف بنظريات المؤامرة المعادية للمسلمين (The Anti-Defamation League For Promulgating “Anti-Muslim Conspiracy Theories”).
إنّ الشيء الذّي يوحدّ هؤلاء الناس هو إيمانهم بأنّ الولايات المتحدة أو بالأحرى الغرب المسيحي-اليهودي، يعيش الآن تحت حصار عدو ماكر وقوي، ألا وهو “الإسلام الراديكالي” (Radical Islam)، بالنسبة لأكثر متطرفيهم (غافني بالأخص)، لا يوجد هناك فرق بين الإرهابيين الجهاديين والدين الإسلامي ككلّ. ضمن هذه الرؤية لا يختلف قاتل متشدّد في الدولة الإسلامية (داعش) عن تلك العائلة المسلمة الطيّبة المسالمة التّي تعيش في الطابق الأسفل – لمبنى عمارتك- أو بجوار بيتك أو في الجهة الأخرى من الشارع.
لقد سبق للعديد منّا أن سجلّوا ملاحظاتهم بخصوص ذلك، هذه النظرة الشاملة ترسم فكرة هينثينغتون عن “صراع الحضارات” بشكل أكثر نشاطا، وتُساعد في تفسير لِما يُعدّ أناس على غرار ستيف بانون –مساعد الرئيس ترامب ورئيس إستراتيجيي البيت الأبيض- أناسا مُولعين برُهاب الأجانب xenophobes)) الذّي يتّصف به الجناح اليميني دوما، على غرار ماري لوبان في فرنسا، وأوتوقراطيين على غرار فلاديمير بوتين في روسيا. إذا ما كان العالم الإسلامي بأكمله يُهدِّدنا جميعا، فإنّ مثل هؤلاء القادة البغيضين بإمكانهم أن يأخذوا موقع الدفاع كحلفاء ناجعين، في صراع الدفاع عن الحضارة “الغربية” ضدّ جحافل المسلمين القادمة.
هناك شيء واحد مخطئ في هذه الرؤية بإعتبارها قالبا للسياسة الخارجية الأمريكية: إنّها بعيدة كلّ البُعد عن الحقيقة. بالأخصّ، فإنّها تتجاهل حقيقة توازن القوة، إنّها تتغاضى عن الإنقسامات العميقة داخل الإسلام نفسه، مُلحّة على خطر الإرهاب، معتمدة على أساطير متنوعة عن الإسلاموفوبيا، ثمّ إعادة بثّها دون توقف وبلا كلل لعقود من الزمن. إذا ما صارت هذه الرؤية بمثابة المبدأ الأساسي المُنظِّم للسياسة الخارجية الأمريكية، فإنّها سوف تُلزم الولايات المتحدة وحلفاءها بشنّ حملات صليبية ذاتية مُكلِفة وذات نتائج عكسية، ستكون تماما في يدّ حفنة من المتطرّفيين الفِعلِيين. لا داعي للقول أنّ نزاعا من هذا النمط بإمكانه أيضا أن يُستخدم لتبرير توسِعت مزيد من السلطة التنفيذية هنا في الولايات المتحدة وسوف تتسبّب في تآكل المزيد من حريّاتنا الديمقراطية.
لكن، بإعتباري مقدّما لخدمة عامة هنا، سوف أقدّم خمسة أسباب أولى، تُؤكد أنّ ستيف بانون مُخطئ بشكل مُميت بخصوص “التهديد الإسلامي”.
1- توازن القوة في صالحنا على نحو ساحق:
دعونا نبدأ مع سياسة القوة الحسنة قديمة الطراز، فلنتخيّل لوهلة أنّ الإسلام ككلّ، كان في الواقع متوحدّا كقوة واحدة لسحق الولايات المتحدة وبقية الغرب. إذا كانوا بالفعل متوحّدين، فهل لدى العالم الإسلامي ذي ال 1,6 مليار نسمة، القدرة على فعل ذلك؟ يبدو أنّ ذلك هذا أمرٌ صعب عليه.
يوجد حوالي 47 بلد ذو أغلبية مسلمة في العالم. إذا ما قُمتَ بجمع كلّ إقتصادياتها معا، فسيكون لديهم ناتج محلي إجمالي مجتمع يُقدَّر بما يزيد عن 5 تريليون دولار. تُوحي هذه الحقيقة بالكثير، لكن فلنتذكر أنّ الولايات المتحدة لديها ناتج إجمالي محلي يُقدّر بأكثر من 17 تريليون دولار، تُحقّقه بمفردها وحسب، نفس الأمر بالنسبة للإتحاد الأوروبي. بإختصار، وبمفهوم القوة الإقتصادية الخام، فإنّ “الغرب” لديه من البداية صورة غير متناسقة عن وجود إئتلاف وهمي للدول الإسلامية.
إنّ الخلَل في التوازن يصير أكثر لفتا للإنتباه، حينما نأتي للحديث عن القدرة العسكرية. هذا الإئتلاف المتوهّم عن البدان ذي الأغلبية المسلمة، أنفق حوالي 270 مليار دولار على الدفاع العام الماضي، وإذا ما أخرجنا حلفاء الولايات المتحدة على غرار العربية السعودية (87 مليار دولار) والإمارات العربية المتحدة (22 مليار دولار)، فإنّ الرقم سينخفض إلى أقل من 200 مليار دولار. في المقابل، تُنفق الولايات المتحدة لوحدها حوالي 600 مليار دولار –أكثر من ضعفي الدول المسلمة- وهذا من دون حساب إنفاق حلفاءها المتعدّدين على غرار المملكة المتحدة، اليابان، إسرائيل والبقية.
إلاّ أنّ هذه الأرقام الخام عن الإنفاق الدفاعي تُقلّل بشكل كبير من الأفضلية والمزايا الغربية. لا يُنتج العالم الإسلامي بأكمله أيّ طائرات مقاتلة متقدّمة أصِيلة الصُنع (بإستثناء تركيا، فإنّها تُنتج بعضا من طائرات 16F المُصمّمة أمريكيا وبترخيص من الولايات المتحدة)، كما لا يُصمّم –العالم الإسلامي- أيّ دبّابات معارك حربية معاصرة أصِيلة الصُنع (بإستثناء باكستان التّي تُصنِّع دبّابات مُعدّلة، وتركيا التّي تعمل أيضا على صناعة دبّابات محلية الصنع خاصة بها). لا تمتلك بحرية العالم الإسلامي أيّ سفن بحرية مُقاتلة أوسع من الفرطاقة (بإستثناء إيران التّي يُقال بأنّها في صدد بناء مدمرة واحدة). لا يمتلك هذا العالم أيضا أيّ حاملات طائرات، لا قاذفات صاروخية بعيدة المدى، ولا غواصات نووية. في الواقع، فإنّ قدرات الدفع بالقوة نحو الخارج الخاصة بكل هذه الدول، تتّسم بالمحدودية المطلقة. وبقدرةٍ ما، فإنّ لهذه الدول قوة عسكرية حديثة جدّا، ذلك لأنّ الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، الصين والبقية كانوا دوما على إستعداد لبيع أو ترخيص أسلحة متطورة لهذه الدول نظرا لأسباب إستراتيجية متعلقة بمصالحها الخاصة. مع ذلك، كان الآداء السعودي المتواضع جدّا أثناء التدخّل الأخير في اليمن، يشير إلى أنّ قدرات العالم الإسلامي في الدفع بالقوة نحو الخارج لهي قدرات جدّ متواضعة حتّى وإن كان ذلك لمسافات قصيرة وحسب. لذلك، حتّى وإذا ما بدأ أحدهم بالإدعاء عبر فرضية غير واقعية بالكامل أنّ العالم الإسلامي لهو حركة موحدّة واحدة، فإنّ هذه الحركة لهي حركة جِدُّ، جِدُّ، جِدُّ ضعيفة، مقارنة بما نحن عليه. ربّما يمكن لذلك أن يُفسّر سبب التدخّل المتكرّر للقوى الأجنبية في الدول ذات الأغلبية المسلمة خلال القرنين الماضيين، في حين لم يحدث العكس، منذ حصار فيّنا سنة 1529. وليس لمرة واحدة.
لم تكن مصر هي التّي إجتاحت فرنسا سنة 1798، لم يكن صدّام حسين من أرسل قوات تدخّل سريع جبّارة حول العالم وصولا إلى بوتوماك لإحتلال واشنطن وخلع الرئيس جورج دبيلو بوش سنة 2003، كما لم يأمر معمّر القذافي قواته الجوية بقنبلة باريس من أجل الإطاحة بنيكولا ساركوزي سنة 2011. من المؤكد أنّ هذا التاريخ أحادي الجانب، يُخبرنا بعض الأشياء عن القوة النسبية للدول الغربية وتلك المتعلقة أيضا بالعالم الإسلامي.
2- في الحقيقة، الإسلام منقسم بعمق:
منذ زمن سحيق، يقوم نافخو التهديد، على غرار بانون ومساعديه بتصوير خصومهم وكأنّهم جزء من إئتلاف كبير وموحّد. هل تتذكّرون: “الكتلة الشيوعية المُتراصّة” أو “محور الشرّ”. اليوم، يستخدم مروّجو الخوف عبارات على غرار “الإسلاموفوبيا” أو “الإسلام الراديكالي”، للإيحاء بأنّ أعدائنا يشكّلون حركة مندمجة بإحكام، موجّهة بشكل مركزي، تعمل بلا كلل ولا ملل على إركاعنا.
لكن في الواقع، فإنّ العالم الإسلامي مفكّك اليوم كما لم يكن عليه من قبل في أيّ زمن مضى من ذاكرتنا الحديثة. إنّه مُقسّم بين العديد من الدول المختلفة، بالطبع، كما أنّ العديد من هذه الدول (كالسعودية وإيران أو تركيا وسوريا) لا تجتمع على طول الخط. توجد فروقات جغرافية وثقافية واسعة بين أندونيسيا ودول كاليمن أو المغرب الأقصى أو السعودية. كما يوجد أيضا إنقسام أساسي بين السنّة والشيعة، من دون الإشارة إلى ذلك العدد الكبير لبقية الإنقسامات الصغرى بين العديد من الفروع الإسلامية. دعونا لا ننس المنافسات المريرة داخل الحركة الجهادية ذاتها في بعض الأحيان، سواء عبر العالم أو داخل بلدان بعينها. فقط، فلننظر إلى كلّ الجماعات الراديكالية التّي تكره الدولة الإسلامية (داعش) وإلى كلّ الجهاديين الذّين تنظر إليهم الدولة الإسلامية داعش بأنّهم مهرطقين، لأنّهم لا يتبنّون إيديولوجيتها بالكامل.
بالطبع، لا تعني هذه الإنقسامات أنّ المتطرفين لا يشكّلون أي خطر على الإطلاق، ولكن شبح بانون بصعود المدّ الإسلامي الذّي يهدّد بسحقنا، ما هو إلاّ فنتازيا محضة. بدلا من التعامل مع الإسلام ككلّ بإعتباره تهديدا –والذّي يمكن أن يوحّد أكثر هؤلاء ضدّنا في النهاية- فإنّ الخطوة الذكية هي نلعب لعبة “فرّق تسد”. إلاّ أنّ ذلك يعني التسليم بأنّ الخطر الذّي نواجهه لا يُعدّ “حضارة” عدائية أو دين بأكمله، ولكن بدلا من ذلك، فإنّه مجرد عدد قليل من المتطرفين الذّين لا يمثّلون صنفا ثقافيا واسعا (بل ويُواجَه من قِبل أغلبهم). للتغلّب عليهم، نحتاج أن يكون بقيّة العالم الإسلامي إلى جانبنا.
3- لا يُعتبر الإرهاب ذلك الخطر الكبير بالفعل:
نعيش في عالم أين يمكن أن تحدث أشياء سيّئة كثيرة. قد يُقضى عليك في حادث سير أو بمرض السرطان. يمكن أن تُسيئ إستعمال أداة قويّة وتجرح بها نفسك بشدّة. قد يحدث وأن تسقط من على السُلّم أو تنزلق في حوض الحمّام، أن تكون في المكان الخطأ والزمن الخطأ وتنتهي عبر رصاصة طائشة. أو ربّما، نقول ربّما فقط، تجد نفسك مُعرّضا للهلاك من قِبل إسلامي راديكالي متطرّف.
لن تكون على معرفةٍ بذلك إذا ما كنتَ تستمع لترامب أو لقناة السي أن أن أو فوكس نيوز أو إلى أغلب سياسيّينا، إلاّ أنّ الخطر المذكور أخيرا لهو خطر ضئيل، ليس منعدما، ولكنّه خطر صغير حقّا حقّا. لقد صِرنا مهووسين بالإرهاب للأبد منذ أحداث 11 سبتمبر، لكنّ الحقيقة تقول بأنّ هذا الخطر يُشكّل أقل الأخطار ضررًا على قائمة الأخطار التّي يمكن أن تحيق بنا.
على سبيل المثال، وإستنادا على الأدّلة القائمة منذ أحداث 11/09 (بما فيها هذا الهجوم)، فإنّ إحتمالية أن يُقتل أمريكي عبر إرهابي لهي إحتمالية أقّل من 1 في 3 مليون، سنويا. كما أنّ التعرّض لهذا الخطر طيلة الحياة لهو حوالي 1 في 45 ألفا. إنّها إحتمالاتُ لعنةٍ جميلةٍ جدّا: أنتم أكثر إحتمالية للموت عبر صعقة رعد، السقوط من أعلى السرير، الموت عبر موجة حرارية أو حادثة طبخ طعام في المطبخ. لكن لا تتوّقعوا من ترامب، بانون، فلين، غوركا، غافني أو أيّ من “خبراء الإرهاب” الممتازين أن يسلطوا الضوء على هذه الحقيقة، ذلك لأنّ سُبل معيشتهم، وسبيلهم لأجل تحصيل المزيد والمزيد من السلطة، تعتمد على إبقائكم مذعورين جدّا جدّا. كما لا تتوقعوا أن تُهوِّن وسائل الإعلام من الخطر أيضا، ذلك أنّ تصعيد خطر الإرهاب في أي زمن، لهو سبيل جيّد لإبقاء أعينكم ملتصقة بالشاشة. هذه من بين الأشياء التّي جعلت ترامب في الآونة الأخيرة يشير إلى أنّ الإرهاب صار عبارة عن “معلومات منقولة”. إنّها لتصريحات سخيفة جدّا.
في الحقيقة، وبطرق أخرى، بقِيَ الإرهاب بمثابة البُعبع الأمثل. إنّه لمن السهل تصعيد التهديد وإقناع الناس بأن يشعروا بالقلق بخصوص مخاطر عشوائية لا يملكون بخصوصها إلاّ قدرا ضئيلا من التحكّم أو غير موجود أصلا. لقد أدرك السياسيون عديمو الضمير طويلا أنّ بإمكانهم الحصول على مساحة مناورة واسعة حينما يكون الشعب مذعورا من الخوف أو توّاقا للحماية، يبدو من الواضح أنّ ترامب وبانون يرون في هذا التكتيك سبيلا مثاليا لإستبقاء الدعم الجماهيري (وللتعاطف أكثر مع السلطة الرئاسية)، فشبحُ الإرهاب يفي بالغرض بشكل جيّد لإنّه يُخيف الناس ولكنّه حاليا ليس خطرا موجودا، الأمر الذّي يتطلب ربّما إستراتيجية جدّية، حسّاسة وإستجابة مدروسة بشكل جيّد. أن تكون محسوبا على الأوتوقراطيين، فإنّ “الإرهاب” سيكون هدّية -مناسبة لك- تمنحك غطاءًا –تبريريا- مستمرا.
لا ينبغي أن أُفهم خطئا: لا أقول بأنّ الخطر صفر أو لا ينبغي أن تُتّخذ تدابير وقائية حسّاسة في مواجهته، لكنّ الإعتقاد بأنّ راديكاليين هنا وهناك، كالقاعدة أو الدولة الإسلامية يُشكّلون تهديدا مماثلا لتهديد ألمانيا النازية، الإتحاد السوفياتي أو أيّ خصوم جدّيين سبق للولايات المتحدة وأن واجهتهم من قبل، لهو أمر سخيف. إنّ ذلك يدفعني للتسائل، بصراحة، عن جرأة، ثبات وحجّة بعض قادتنا الحاليين إذا هم مفزوعين جدّا وبسهولة من هكذا خصوم ضعفاء، دعونا نأمل أنّ هذه القطط المذعورة لن تضطر إلى التعامل يوما ما، حقيقةً، مع عدو حقيقي لدود.
4- “الشريعة الزاحفة” ما هي إلاّ مجرد خرافة:
لدى الإسلاموفوبيّين المتشدّدين حجّة يستندون إليها مفادها: أنّ الخطر لا يتمثّل في حدوث هجوم عسكري راهن أو غزو إسلامي لأمريكا وأوروبا. بدلا من ذلك، يتمثّل في ذلك التسلّل البطيء داخل مجتمعنا من طرف “الأجانب”. الذّين يرفضون الإندماج، والذّين يحاولون في النهاية فرض قيم غريبة وأجنبية علينا. يمكن للمرء أن يرى هذه الحجّة على أنّها أسطورة جناح اليمين المسمّاة “الشريعة الزاحفة” Creeping Sharia))، المبنية على قصص ملفّقة عن “محاكم الشريعة” وبقية الحوادث المزعومة، أين يحاول المتسلّلون المسلمون المُشيطَنون تلويث دستونا النقي بدغمائيتهم المستوحاة من الدّين. إذا لم نكن متيقظين بشكل مستمر، سوف نخبر يوما ما بناتنا أنّ عليهم إرتداء الحجاب وأن يُصلّوا بإتجاه مكة. لقد أثيرت مثل هذه المخاوف حقا وبشكل جدّي من خلال الأصوات الصاخبة للكوميديين الأمريكيين الدكتور سترانجيلوف (Strangelove) والعميد جين جاك ريبر (Gen. Jack D. Ripper) –الذيْن مثّلا في السينما الأمريكية مظاهر الخوف من الإتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة-. لنكرّر: لا يوجد ببساطة دليل على وجود هذه “الشريعة الزاحفة” هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا وجود لخطر حدوثها في المستقبل. ليس هذا وحسب، إذ لا يزال لدينا فصل رسمي بين الكنيسة والدولة هنا (على الأقل لا يزال ممتدا إلى بعيد)، كما أنّ عدد المسلمين المتواجدين في الولايات المتحدة يبقى ضئيلا. بناءًا على الإستتقصاء الذّي أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) سنة 2016، فإنّ هناك 3,3 مليون مسلم فقط يعيشون في الولايات المتحدة، أي مجرد 1% من نسبة السكان. يمكن لهذه النسبة أن تتضاعف مع حلول سنة 2050، و-تتحوّل- إلى –كتلة- ساحقة واسعة، ضخمة وخطيرة تُمثّل 2% من السكان الأمريكان. (هنا يستخف الكاتب بإدعاءات رفقاء ترامب). أن يكون –المسلمون- أقليّة ضئيلة، فإنّ ذلك يجعلهم بمثابة الضحيّة المثالية لأولئك الساعين الطامحين للسلطة والقوة، ولكن من الصعب أن يكونوا تهديدا لنمط حياتنا.
5-“صِدام الحضارات”.. نُبوءة تحقّقت بذاتها:
إنّ السبب الأخير الذّي يدعونا لرفض تصوير بانون ورفقائه بخصوص تهديد المسلمين الشاسع والوشيك لنا، هو أنّ هذه النظرة الشاملة تُشجّعنا على التحرّك على النحو الذّي يؤدّي بنا إلى جعل المشكل أكثر سوءًا، بدلا من تسويته بشكل أفضل. مثلما لاحظ جورج كينان (George Kennan) بحِكمة سنة 1947: “إنّه إمتياز لا يمكن إنكاره بالنسبة لأي شخص، لإثبات نفسه مُحقا في الأطروحة القائلة بأنّ العالم بأسره يُعتبر عدوّا له: فإذا كرّر ذلك مجدّدا في أحيان كثيرة بما فيه الكفاية، وجعل منه خلفية لتصرّفه، فلابّد في النهاية أن يكون على حقّ”. فإذا ما إستمر قادة الولايات المتحدة في شيطنة دينٍ بأكمله، فارضين حظرا غير مدروسٍ على اللاجئين المسلمين، والأكثر أهمية من كل ذلك، أن يستمروا في التدخّل عبر العالمين العربي والإسلامي من خلال القوة العسكرية، فسوف تمكنّون من إقناع أُناس وأُناس كُثر بأنّ أسامة بن لادن، خالد الشيخ محمد وقائد الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي على حقّ، حينما يدّعون أنّ الغرب “أعلن الحرب” على دينهم.
بالرغم من الأدّلة الضخمة التّي تشير إلى أنّ معاداة الأمركة في العالم الإسلامي ليست إلاّ ردّة فعل ساحقة عن السياسة الأمريكية هناك (وليس لأنّهم “يكرهون حريّتنا”)، فإنّ أُناسا على غرار بانون، غافني وأمثالهما، يريدون منّا أن نسقط مجدّدا في نفس السياسات التّي ألهمت المتطرفين منذ سنوات الخمسينيات من القرن العشرين، وخصوصا منذ تشكّل القاعدة. بصراحة، نظرا للطريقة التّي نستخدم بها عادة قوّتنا المتفوّقة للتدخّل في هذه البلدان، فإنّه من الغريب أن نتفاجئ بردّة فعل متواضعة ومتحكّم فيها كتلك. إستئلوا أنفسكم، كيف كان الأمريكان سيستجيبون إذا ما قَنبَلَ بلد أجنبي ما ذو قوة بشكل متكرّر الولايات المتحدة بطائرات مقاتلة وطائرات دون طيّار، أو غزى وأطاح بحكومتنا، ثمّ ترك الفوضى في أعقاب ذلك، هل تعتقدون أنّه من الممكن أن يميل الأمريكيين الوطنيّين إلى محاولة الإنتقام؟
ليس هدفي هنا الدفاع عن الإرهاب –إنّه أبعد عن ذلك في الحقيقة بكثير- ولكن بدلا من ذلك، فلنُذكّر أنفسنا أنّ ذلك لم يأتي من العدم، إنّها مجرد ردّة فعل للمشكلات السياسية والإقتصادية الموجودة في العالم الإسلامي ذاته. لكن، إذا ما أردتم تشجيع المزيد من ذلك، فما عليكم سوى تبنّي إنتقام بانون بشتّى الوسائل.
لربّما يكون أكثرُ الإختباراتِ أهميةً لأيّ إستراتيجي هو معرفة ما هي التهديدات الأساسية وما هي الفرص -المُتاحة-، ومن ثمَّ وضع السياسات التّي تنزِع فتيل الأولى وتستغل الثانية بشكل جيّد. إنّ جعل الإسلام بأكمله عدوّا لنا، والنظر إلى العالم عبر عدسات “صِدام الحضارات” الواسعة، يُعتبر فشلا بجميع المعايير. إذا ما تتبّعناها، فإنّنا سوف نعثر لأنفسنا بإستمرار على نزاعات أكثر لا تنتهي، في أماكن لا تُعتبر –بحق- أماكنا حيوية للمصالح الأمريكية، سوف تُشتّت إنتباهنا عن بقية مسائل السياسة الخارجية –الأهم-، كما أنّها تستنزف الثروة والقوة التّي من الممكن أن نحتاجها للتعامل مع أكثر التحدّيات جدّية، بما فيها المشكلات التّي يتّم تجاهلها على طول الخطّ داخل الديار. إنّني متأكد أنّ أكثر المناهضين لأمريكا يأملون أن نبتلع هذا الطُعم ونفعل ذلك تماما: “ما يُخيفني هو أنّ هناك أُناسٌ في البيت الأبيض الآن يتّفقون مع ذلك”.
——————————-
للإطّلاع على المقال بلغته الأصلية:
Stephen M. Walt, Five Ways Donald Trump Is Wrong About Islam: The White House’s approach to the world’s second largest religion isn’t just bigoted – it’s a strategic disaster, Foreign Policy, February 17, 2017.
http://foreignpolicy.com/2017/02/17/five-ways-donald-trump-is-wrong-about-islam/
[1]∙ ستيفن والت، أستاذ الشؤون الدولية بمدرسة جون كيندي التابعة لجامعة هارفرد الأمريكية، ورائد تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة في شقها الدفاعي.
[2]∙∙ جلال خشيب، كاتب وباحث جزائري بمعهد دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، جامعة مرمرة-إسطنبول بتركيا، وبقسم الدراسات الآسيوية كلية العلاقات الدولية بجامعة الجزائر، يعمل حاليا كباحث بمركز إدراك للدراسات والإستشارت بمدينة إسطنبول-تركيا.