ما جمع الأمريكيين مع الروس منذ تصريح جون كيري وزير الخارجية الأمريكية منتصف 2015؛ بأن روسيا تملك مفتاح التأثير في سورية ولذا فإنها شريك ضروري في حل الأزمة هناك؛ ما جمع القوتين الكبريين؛ هي أهداف متفق عليها روسيًّا وأمريكيًّا و_كذلك_ أوربيًّا؛ تتمثل في القضاء على الإرهاب، ومنع تسرّب تأثيرات الأزمة خارج الحدود السورية؛ كمشكلة اللاجئين المؤرقة للأوربيين، والتهديدات الإرهابية المقلقة للأمريكيين، والتخوّف الروسي من انتقال عدوى المطالب الإسلامية إلى محيطها الحيوي.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم توقف قطار الأزمة السورية في محطات سياسية كان أبرزها فيينا في تشرين الثاني 2015، وجنيف3 في كانون الثاني وشباط 2016، وميونخ في شباط، وأخيرًا اتفاق وقف الأعمال العدائية بين الأطراف المتنازعة في الشهر نفسه.
الجدير بالملاحظة أن الاتفاق الأخير أعقبه تصريحان أمريكيان يحملان تشكيكًا واضحًا بجدوى العملية السياسية؛ كان الأول يحمل عنوان السناريو البديل؛ والذي عبّر فيه كيري؛ بين التصريح والتلميح؛ عن تعزز فكرة التقسيم وانتفاء إمكانية بقاء سورية موحدة.
أما التصريح الثاني حمل تخوّف أصدقاء سورية من الهدنة واعتراضهم على بعض بنودها، واعتقادهم بعدم جدواها في حال بقاء الأسد في السلطة.
تمثل رد وزير الخارجية الروسي بأن هذه القناعة عند حلفاء المعارضة تعني استمرار الحرب.
يشي هذا الرد إضافة إلى سرعة القبول التي أبداها نظام الأسد بالاتفاقية الأخيرة؛ برغبة عارمة عند النظام وحلفائه بالهدنة، لما مثلته السنوات الخمس الماضية من استنزاف كبير على مستويات متعددة ليس أقلها الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به روسيا، إضافة إلى رؤية غائمة يخبئها الروس إلى ما بعد استجلاء نتائج الهدنة؛ ربما تحمل في تضاعيفها تغييرا شاملا للاستراتيجية العسكرية والسياسية بالشراكة مع المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
كل ما سبق هو أجزاء صغيرة لصورة كبيرة لم تتشكل ملامحها بعد، وربما لم تكتمل أجزاؤها كذلك.
في الصورة أيضًا؛ أجزاء في زاوية أخرى تتحدث عن تقدم واضح في جبهات مختلفة لنظام الأسد وحلفائه، وسيطرة مشهودة على مناطق ومواقع استراتيجية في شمال وجنوب ووسط سورية. وفي مقابل ذلك تراجع ملحوظ على جبهات مختلفة للحوثيين وقوات المخلوع علي عبد الله صالح، وفقدان للسيطرة على مناطق ومواقع استراتيجية شمالي ووسط اليمن وبالقرب من العاصمة صنعاء.
يجب التوقف هنا عند تصريح كاشف لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى حين قال إن إيران مستعدة للتدخل في اليمن بدعم روسي على غرار ما حدث من تعاون روسي إيراني في العراق وسورية، مشيدًا بالتحول النوعي في العلاقات بين البلدين.
يمثل هذا التصريح تذكيرًا روسيًّا للسعودية؛ عن طريق إيران؛ حيث إن السعودية قبضت الثمن في اليمن من خلال تمكن المقاومة الشعبية والجيش اليمني من الإحاطة بالعاصمة صنعاء، وعليها أن تدفع ما ترتب عليها في مقابل ذلك في سورية، وذلك من خلال الضغط على الفصائل السورية من خلال هيئة المفاوضات العليا لتقديم تنازلات حقيقية في الملف السوري لصالح روسيا.
ربما تتمثل هذه التنازلات بالقبول بحكومة الوحدة الوطنية التي لن يرأسها الأسد، إضافة إلى تغييرات لا تمسّ جوهر النظام، ولذا فقد سارع نظام الأسد إلى رفع السقف من خلال التصريحات التي ردّ عليها تشوركين سفير روسيا لدى الأمم المتحدة بقسوة؛ حيث أعلن أن روسيا غير معنية باستعادة كامل الأراضي السورية كما أنها تسعى إلى اتفاق من أجل وقف مؤقت لإطلاق النار. أضف إلى ذلك ما قاله الأسد بخصوص انتخابات رئاسية مبكرة في إبريل من هذا العام.
المثير هو التقاء ردّ تشوركين مع تصريح كيري الذي قال إن من الصعب الحفاظ على سورية موحدة في ظل استمرار الحرب، والذي يلتقي بدوره مع تصريحات كررها للمرة الثانية خلال شهرين مايكل هايدن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية؛ مفادها أن المنطقة لن تعود إلى حدود ما قبل 2011، وأن مكونات جديدة ستكون عاملًا مهمًّا في تشكيل خرائط المنطقة في المرحلة اللاحقة.
وفي الصورة كذلك؛ وعلى الجانب الميداني بالتحديد؛ تغير كبير في موازين القوى لصالح نظام الأسد وحلفائه، فقد سيطر الحلف على معظم مدينة اللاذقية، كما حاصر مدينة حلب إضافة إلى سيطرة قوات سورية الديموقراطية مدعومة بالقصف الروسي والمساعدات العسكرية الأمريكية على أجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي، وما يحمله ذلك من تهديد جدّي جراء قطع خطوط الإمداد من الشمال باتجاه معاقل المعارضة السورية، إضافة إلى ما يمثله ذلك من خطورة على الأمن القومي التركي بسبب اقتراب تشكيل الكانتون الكردي على حدودها الجنوبية.
في هذا التوقيت دون غيره خلال خمس سنوات؛ تأتي الهدنة لتكرّس مكتسبات حلف الأسد بوصفها أمرًا واقعًا، كما تتيح له توسيع سيطرته على أراض جديدة من خلال ما ضمنه اتفاق وقف الأعمال العدائية لروسيا من حقٍّ في قصف أي فصيل تعده إرهابيًّا، ومن خلال تداخل سيطرة الفصائل السورية مع جبهة النصرة في كل من حلب وإدلب وحماة.
الأخطر على الصعيد الميداني؛ هو ما أوردته تقارير غربية تفيد بتغير ديموغرافي كبير في البنية السكانية السورية خلال السنوات الأخيرة، تمثلت بهجرات داخلية وخارجية شملت نصف سكان سورية، أغلبهم من الأكثرية العربية السنية، وقد كان آخر هذه الهجرات الداخلية نزوح نحو ثلاثين ألفًا من سكان الشريط الحدودي مع تركيا إلى مناطق نفوذ تنظيم الدولة، كلهم من العرب السنة جراء سياسة التطهير العرقي التي تمارسها وحدات حماية الشعب الكردية، ونتيجة كذلك لإغلاق الحدود التركية أمامهم. ووفقًا لتقرير الديلي بيست فإن “السماح بالتغيير الديموغرافي هو أمر هام جدًّا من أجل حدوث أي تقسيم”.
لتأمين جملة من الأهداف الآنف ذكرها والمتمثلة بالقضاء على التهديدات الإرهابية في مهدها الواقع بين الموصل العراقية والرقة السورية، وكذلك المساعدة في وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا التي ضاق ذرعها بهم إلى درجة انهيار بعض القوانين الناظمة للاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تخفيف الاحتقان الدولي وبوادر الحرب الباردة بين قوى دولية وأخرى إقليمية، يدور اليوم حديث قديم جديد في ظلال تصريحات كيري وهايدن ومحاولة استكناه خطة بوتين ما بعد الهدنة؛ حول تقسيم المنطقة؛ وسورية والعراق منها على الخصوص.
وعلى الرغم من أن خطة التقسيم المتداولة والمتمثلة بكانتون كردي في الشمال ودويلة علوية في الغرب ونفوذ أردني وإسرائيلي في الجنوب، ودولة سنية تحت رعاية أمريكية بعد القضاء على تنظيم الدولة؛ في الشرق، ربما تتصل بالغرب العراقي؛ على الرغم من أن هذه الخطة تضمن بعض المصالح للقوى النافذة في سورية؛ إلا أن هناك قوى أخرى لن تقبل بهذا الأمر، وستعمل على إفشاله، وهو ما يحدث عبر لعبة الفك والتركيب النشطة في سورية منذ خمس سنوات.
على رأس هذه القوى المتخوفة من سناريو التقسيم؛ إيران التي عملت جاهدة منذ الحرب مع العراق ثمانينات القرن الماضي لإزالة العوائق دون الهيمنة الإيرانية؛ بدءا من الحدود الأفغانية شرقًا وحتى البحر الأبيض المتوسط غربًا، مع نفوذ يقترب من الحدود الشمالية الشرقية لإسرائيل ما يسمح لإيران باستمرار استخدام ورقة الشرعية المتمثلة بدعم قوى المقاومة؛ الأمر الذي يهدده التقسيم بتسليم هذه البقعة الجغرافية المهمة إلى جهة مدعومة بالحماية الأمريكية والروسية معًا، وقد دفعت إيران في سبيل تحقيق هذا النفوذ الكثير من الدماء والأموال. ومؤخرًا قال الكاتب الأمريكي مايكل وايس إن أوباما يعتبر العراق وسورية ولبنان من مناطق النفوذ الإيراني.
ومن هذه القوى تركيا اللاعب الأكثر خسارة في حال حدوث التقسيم؛ حيث تتخوف أنقرة من تنامي النزعة الانفصالية عند أكراد تركيا الذين يشكلون حوالي عشرين بالمئة من نسبة السكان، وفي بقعة قريبة من الأقاليم الكردية في كل من العراق وإيران وسورية، كذلك فإن التقسيم يحول بين تركيا والعالم العربي الذي كان من أهم ساحات نشاطاتها السياسية والاقتصادية خلال العقد السابق للربيع العربي.
وبالرغم من الإنهاك الذي يتعرض له نظام الأسد إلا أنه لا يستفيد من التقسيم؛ حيث سينحصر نفوذه في الشريط الغربي من البلاد؛ المنطقة التي تشكل مجالًا حيويًّا نشطًا لكل من روسيا وإيران، ما يجعل نفوذه فيها شكليًّا، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يعنيه فقد الشرق السوري الغني بالموارد المائية والنفطية والزراعية.
إسرائيل تلك القوة المؤثرة بصمت ظاهر وفاعلية خفية على المشهد السوري، لن ترتاح لسناريو التقسيم كثيرًا، والذي يخلق بيئة خصبة للفوضى التي تعزز فرص تشكل أنوية رافضة للجوار الإسرائيلي في بيئة معادية بطبيعة الحال.
قد يرى بعض المتابعين أن المناكفات بين هذه القوى الفاعلة في الملف السوري؛ وبالرغم من تضررها من مفاعيل الخطة الجديدة؛ ستكون من أهم الأسباب الدافعة إلى التقسيم، غير أن هذه الأطراف تعي مقدار الضرر الناتج عن تكشيل خرائط جديدة لم تجرب فاعليتها في تحقيق المصالح المتضاربة.
وعليه؛ فإن الولايات المتحدة وبقية الفاعلين في المجتمع الدولي سيسعون جاهدين للبقاء في مساحة الخطة “أ” والقاضية بحل يبقي الكيان السوري “موحدًا” بصورة ما، وقابعًا تحت الوصاية من قبل أطراف دولية وإقليمية؛ عبر عملية سياسية منطلقها المحطات التي مرّ عليها الملف السوري بدءًا من فيينا ووقوفًا عند اتفاق وقف الأعمال العدائية.
المجتمع الدولي يعلم الصعوبات التي تحول دون تحقيق هذا السناريو، وهنا يمكن تأويل حديث كيري عن السناريو البديل والذي تحاول موسكو دفعه بكل طاقتها، وهو أن تقتضي الحالة تدخلًا بريًّا برعاية أمريكية ودعم تركي وسعودي و_ربما_ أردني، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية السعودي في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية الدنماركي؛ أو تقتضي _بالحد الأدنى_ العودة إلى دعم المعارضة المسلّحة بدرجة أكبر مما سبق؛ وهذا ما يمكن أن يشار إليه بالسيناريو “ب”.
غير أن الاطراف الفاعلة تعي صعوبة المرحلة وتعقد الملف السوري، ولهذا فإنها لا تهمل الإشارة إلى الخطة “ج” القاضية بالتقسيم في حال اقتضتها الظروف السياسية والعسكرية اللازمة.
الهدنة وفق هذه المعطيات؛ فرصة للتحقّق من صلاحية الخطة “أ” للتنفيذ، وقدرة الأطراف المتصارعة على التعايش ضمن قواعد جديدة وموازين قوى مختلفة، والتنسيق بينها للتخلص من العوائق الحائلة دون استقرار مقبول يفضي إلى تحقيق الأهداف المتوخاة من العملية السياسية، في مدة أقصاها شهرين كما قال جون كيري؛ كما أنها تعني فرصة اختبار للخطة البديلة في حال فشل الخطة الأصيلة.