أبريل 29, 2024

من السويداء.. هنا سوريا

السويداء
السويداء

ولا زالت استراتيجية النظام لمواجهة أي تحرك ضده، لا ترتكز على معالجة هذه الأسباب والمشكلات، وإنما على تقوية وتعزيز أدوات القمع والكبت ومنع السوريين من مجرد التفكير بحقوقهم أو النظر لمستقبلهم

Basil
باسل حفار

هذا المقال نقلاً عن موقع الجزيرة نت

باسل حفار

أيلول/سبتمبر 2023

في ظل تدهور قيمة الليرة السورية، وتراجع القدرة الشرائية، والعجز عن توفير الخدمات والاحتياجات الأساسية، وارتفاع الأسعار، وإصرار الرئيس السوري بشار الأسد على المضي في نهجه الحالي وتصلبه أمام أي مبادرة للتغيير أو التطوير أو الإصلاح، حتى تلك “الإصلاحات” التي لا ترقى لمستوى المطالب الشعبية؛ شهدت محافظة السويداء -التي يقدر عدد سكانها حاليا بنحو مليون نسمة، وأصبحت ملجأً للنازحين من المناطق المدمرة، ويتمركز نحو 100 ألف منهم في مركز المحافظة بمدينة السويداء- أكبر التجمعات المناهضة للنظام في تاريخ المحافظة، حيث تجمع نحو ألفي متظاهر في ساحة الكرامة (وسط السويداء)، رافعين راية “الحدود الخمسة”، وهم يهتفون برحيل الأسد ويرددون شعارات التغيير، والعدالة الاجتماعية، والحرية.

ومع استمرار الاحتجاجات في السويداء لليوم 14، وزيادة أعداد المشاركين، وتميزها بمشاركة نسائية كبيرة وحضور بارز لمشيخة العقل وشمولها شخصيات من جميع طبقات المجتمع؛ أصبح المحتجون أكثر جرأة في مطالبهم، وربطوا بين الحياة الكريمة والخروج من الأزمة الاقتصادية، وبين ضرورة تغيير جذري في السياق السياسي السوري.

ما يجري حاليا في السويداء -رغم محدوديته جغرافياً- يمكن وصفه بأنه موجة جديدة من الحراك المعارض لنظام الأسد. ضد النظام يتميز بإصراره على احتكار قيادة الدولة ومواردها لعقود، مع عدم قدرته على رفع الأجور أكثر من 2%، وهو ما يعادل نحو 200 ألف ليرة، في حين تصل كلفة المعيشة إلى 10 ملايين ليرة. وبالتالي، لم تقتصر شعارات الحراك على الاحتجاجات ضد الأوضاع المعيشية فقط، بل تطورت لتشمل المطالبة بتحولات سياسية جذرية، ومنها رحيل النظام وتطبيق القرار 2254، خاصة الجزء المتعلق بالهيئة الانتقالية للحكم.

تُعد محافظة السويداء بمثابة رمز تاريخي مهم في المقاومة والثورات في المنطقة. تتكون أغلبية سكانها من الطائفة الدرزية، حيث يشكل الدروز نحو 90% من السكان. وتتميز السويداء بتاريخها الغني في المقاومة، بدءًا من المواجهة ضد الحكم العثماني، ومرورًا بالثورات ضد الاستعمار الفرنسي، ولعبت دورًا بارزًا في الثورة العربية الكبرى عام 1916، وثورتها على الفرنسيين عام 1923، وكذلك في الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة الزعيم الوطني سلطان الأطرش.

الدروز طائفة تمزج البُعدَين: الإثني والديني، وينتشرون أساسًا في سوريا ولبنان وفلسطين وتتداخل الهوية العائلية (الإثنية) مع الهوية الدينية لدى الدروز، مما أسهم في بلورة روابط قوية داخل بنية مجتمعهم. هذا المجتمع يُظهر هرمية محددة، حيث يتم اختيار “شيخ عقل” في كل دولة لقيادة المجتمع الدرزي المحلي. وفي سوريا، تعتمد مشيخة العقل على زعامة ثلاثية للطائفة الدرزية في السويداء والمناطق المجاورة، وهم: حكمت الهجري؛ المسؤول عن الريف الشمالي والشمالي الشرقي والريف الغربي للسويداء (دار قنوات)، ويوسف جربوع؛ المسؤول عن مدينة السويداء والقرى المجاورة لها، وحمود الحناوي؛ المسؤول عن سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للسويداء.

لا شك أن تصاعد الاحتجاجات في السويداء مثّل ضربة موجعة للنظام الذي طالما قدّم نفسه على أنه “حامي الأقليات”، وهي واحدة من أبرز السرديات التي بنى عليها النظام فكرة بقائه وتمسكه بالسلطة، خاصة أن التحركات في أوساط الدروز جاءت بالتوازي مع حراك آخر ذي طابع فردي ونخبوي في أوساط العلويين

في ظل غياب الأحزاب السياسية التي يُفترض أن تلتزم بتنظيم الأوضاع السياسية لتعزيز رفاه المواطنين ومستوى معيشتهم، تبرز أهمية وجود أطر تنظيمية بديلة؛ مثل الروابط العشائرية والعائلية، إضافةً إلى مرجعيات طائفية مثل “مشيخة العقل” بالنسبة للدروز. تُظهر هذه الزعامات البديلة قدرة متزايدة على توجيه وتنظيم الحراك المجتمعي، كما تُصبح ملزمة بتبني موقف سياسي والتدخل في توجيه الخطاب العام وضمان شرعيته.

وعلى عكس ما يحاول النظام ترويجه باستمرار، من ربط لمحركات الاحتجاج بعوامل خارجية، فإن الهرمية التنظيمية والروابط العائلية والدينية هي من أبرز الأسباب التي جعلت السويداء تلعب دورًا بارزًا في الثورات والاحتجاجات على مر السنين. وهذا يشمل الثورات التي انطلقت في أوائل القرن العشرين، وتلك التي وقعت بعد عام 2011؛ مثل تأسيس حركة “رجال الكرامة” عام 2013 بقيادة رجل الدين الشيخ وحيد البلعوس، وتجمع “أحرار جبل العرب”، إضافة إلى الحراكات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، مثل حراك 2022 والاحتجاجات التي سبقته.

مع ذلك، تشهد السويداء والمكون الدرزي في سوريا انقسامًا واضحًا في الموقف من النظام والعلاقة معه ومع الجهات الأخرى التي تسعى للتواجد وبسط النفوذ في المنطقة، خصوصًا روسيا وإيران. وبينما يؤيد شيخ العقل حكمت الهجري الاحتجاجات ويتبنى مطالبها؛ يميل الشيخان الآخران من مشيخة العقل يعقوب والحناوي إلى موقف أقل صدامًا مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، بل ويذهب أحدهما إلى حد الانحياز للنظام، كما في حالة شيخ العقل يوسف الجربوع.

والحقيقة أن السويداء والطائفة الدرزية لطالما واجهت تحديًا يتعلق بتموضعها خلال الصراع من ناحية موقفها وعلاقتها بباقي مكونات الحراك في سوريا وموقفها من النظام وموقف النظام منها. لقد تسببت إستراتيجية “الانخراط المحسوب” للسويداء والدروز في الحراك السوري العام في تقويض موقف الحراك تجاه السويداء، وفعليًا لم يتم النظر من قبل الحراك في سوريا إلى السويداء على أنها في صف المعارضة إلا مؤخرًا، ولا تزال هذه النظرة محل شك وأخذ ورد في أوساط معينة من المعارضة بسبب الاختلاف حول الدوافع الفعلية للاحتجاجات في السويداء ومدى علاقتها أو كونها امتدادًا فعليًا للحراك الذي بدأ في 2011.

رغم أن الدروز والسويداء لم ينخرطوا بشكل واسع في الحراك ضد النظام بقيادة بشار الأسد خلال 12 عامًا الماضية، فإن النظام اعتمد مقولة “إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا” في تعامله معهم. هذا النهج اتخذه النظام بعد فشله في تجييش سكان المنطقة ضد محافظة درعا المجاورة. ويبدو أن النظام لا يزال يسعى باستمرار لإضعاف السويداء والطائفة الدرزية، حيث يعمل على إثارة الفتنة بين عائلاتهم وإغراق المنطقة في فوضى الفساد والمليشيات وشبكات التهريب والمخدرات.

استمرارًا للموقف العدائي للنظام تجاه السويداء، وفي الواقع تجاه أي فئة تنتقد أو تعارض سياسته، بادرت جهات تتبع النظام أو تقترب منه إلى الإدلاء باتهامات ضد المحتجين في السويداء؛ اتهموهم بالسعي نحو الانفصال، والمساهمة في تفتيت الوطن والركون إلى مشروعات خارجية. هذه الاتهامات -التي يتكرر استخدامها من قبل النظام وأنصاره لوصف المعارضين- تمثل السردية التي استخدمها النظام مبررا للهجمات العسكرية على المدن وأهلها.

ورغم أن استخدام النظام للوحشية، والبراميل المتفجرة، والأسلحة الكيماوية قد لا يكون السبيل المثلى للتعامل مع الاحتجاجات في السويداء والساحل، فإنه يتعين على الحراك في السويداء وباقي المناطق السورية التعامل بدقة مع التعقيدات المحلية والإقليمية.

ينبغي للحراك مراقبة خطوات النظام وردات فعله، وأن يبرز مطالبه بطريقة تحقق التوازن بين الرغبة في الحرية والكرامة والانتقال السياسي، وبين الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ملتزمًا بالقرارات الدولية ورافضًا للعنف، حتى لا يمنح النظام الفرصة لتشويه صورة الحراك وقمعه.

وبينما تنبئ طريقة تعاطي النظام مع الحراك في السويداء بمحدودية الخيارات التي يملكها، خاصة الخيار العسكري الذي لا يبدو خيارًا واردًا في ظل الأوضاع الحالية للنظام والمنطقة، وحتى العالم الذي لن يتحمل موجة جديدة من اللجوء والتشريد والمآسي؛ فإن غياب الخيار العسكري لا يعني انصياع النظام لمطالب المحتجين، بل على الأرجح سيعمد إلى تجاهل مطالب المحتجين وسيتخذ إجراءات تزيد معاناة السويداء وأهلها مثل وقف عمل المؤسسات وعزل المحافظة عن محيطها.

لا شك أن تصاعد الاحتجاجات في السويداء مثّل ضربة موجعة للنظام الذي طالما قدم نفسه على أنه “حامي الأقليات”، وهي واحدة من أبرز السرديات التي بنى عليها النظام فكرة بقائه وتمسكه بالسلطة، خاصة أن التحركات في أوساط الدروز جاءت بالتوازي مع حراك آخر ذي طابع فردي ونخبوي في أوساط العلويين.

نتابع ما يجري في السويداء بترقب كبير، وتتحدث الأصوات بالمضي في المسار نفسه، خاصة أن مطالب السويداء لا تختلف عن مطالب جميع السوريين، والمبررات التي أدت إلى انطلاق الاحتجاجات في السويداء موجودة في كل منطقة تحت سيطرة الأسد.

أخيرًا، لا بد من الإقرار بأن هناك خلافات عديدة تعصف بالمجتمع السوري، فمنذ تولي حزب البعث السلطة في سوريا عانت البلاد من صراعات طبقية وخلافات سياسية ونزعات طائفية متزايدة. ومع ذلك، لم يكن هناك شيء خلال العقد الماضي قد وحد السوريين وأظهر أواصر ارتباطهم ببعضهم كالحراك ضد الأسد.

ضع تعليقاَ