خرجت آخر دفعات الثوار من حلب في (22/12/2016م)، وكانت أكبر هزيمة عسكرية لقوى الثورة السورية منذ بدء الحرب، بعد سلسلة من محاولات فك الحصار التي فشلت من جهة الريف، ومن حجم الضحايا المدنيين والاستنزاف العسكري الهائل داخل المدينة حتى الانهيار الأخير واتفاقية الخروج، ولم تكن هذه الهزيمة العسكرية منفصلة عن التأثير المعنوي والسياسي الموازي لها.
بسقوط حلب، خسرت قوى الثورة السورية أهم تجمع مدني وحضري تسيطر عليه باعتبار حلب ثاني أهم المدن السورية بعد العاصمة دمشق، وأهم تمركز يهيمن عليه اللون الثوري الواضح والجيش الحر، مقارنة بهيمنة اللون الجهادي وصراع الإسلاميين في إدلب، وهو ما ضاعف الخسارة العسكرية والمعنوية والسياسية لتكون خسارة للون الأخضر الواضح، مع بقاء هذا اللون “المعتدل” ملتبساً في المناطق المتبقية حتى ما قبل حملة جبهة فتح الشام الأخيرة.
وإضافة للخسارة الجغرافية، فإن القوة البشرية للفصائل التي كانت داخل حلب خسرت غالب عددها وعتادها عبر مراحل الانهيار وبعد الخروج مع بقاء النواة القيادية والنخبة القتالية.
وبحكم فقدان أوراق القوة التي كانت في حلب، كان موقع قوى الثورة أضعف سياسياً من حيث قدرتها على تغيير المعادلة أو التهديد على الأرض أو الخروج عن التفاهمات الإقليمية والدولية، وحاولت روسيا استثمار انتصارها العسكري سياسياً من خلال فرض مسار انتقالي بديل عن جنيف في الأستانة، وهو المؤتمر الذي عُقد برعاية روسية تركية وحضرته غالب الفصائل فيما عدا أحرار الشام، وهي المحاولة التي لم تنجح وانتهت محادثات الأستانة دون جديد فيما عدا توفيره حجة على الأرض لمزيد من إضعاف قوى الثورة.
في 24/1/2016م بدأت حملة جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) كعملية عسكرية واسعة ضد الفصائل الثورية في ريف إدلب وريف حلب، بحجة توقيع الفصائل على عزلها وقتالها في مؤتمر الأستانة، ولا شك أنها حجة إعلامية للتبرير والتعبئة بينما المعارك كانت مخططة على الأرض منذ أشهر، وبعد يوم واحد أعلنت هذه الفصائل انضمامها إلى أحرار الشام، وبعد أيام من المعارك التي كان أعنفها في جبل الزاوية معقل صقور الشام، تم الإعلان عن “هيئة تحرير الشام” كاندماج ما بين جبهة فتح الشام وحركة الزنكي وفصائل أصغر، ولكن بصيغة “توحد الساحة” ودعوة الفصائل والمجموعات للانضمام.
كانت النتيجة النهائية للمعركة عدا السيطرة على عدد من المستودعات والقرى، هو تغيير خارطة القوة والطابع العام للشمال الغربي “المحرر”، إضافة إلى مزيد من تفكيك القوة البشرية والعسكرية للفصائل، حيث انضمت أبرز الفصائل الثورية التي كانت مواجهة لفتح الشام والجهاديين وتحمل الطابع الثوري إلى حركة أحرار الشام الإسلامية، وخسرت جزءاً من عتادها العسكري ويتسرب مقاتلوها مع الوقت بحكم عدم القدرة على الحماية أو رد الفعل على هيمنة فتح الشام كمشروع غير ثوري، لتتعمق الهشاشة العسكرية من جهة، ولتصبح المنافسة في الشمال ما بين تحرير الشام كمشروع تقوده جبهة النصرة وما بين أحرار الشام كفصيل ثوري إسلامي ملتبس التصنيف بالنسبة للدول، في ظل غياب مشروع ثوري جامع بطابع الجيش الحر أو ضمن الإطار الوطني المعتدل.
وفيما بعد سقوط حلب وحملة فتح الشام، أصبح واضحاً فقدان القوى الثورية هيمنتها في الشمال الغربي المحرر، مع فقدان قسم ليس قليلاً من قوتها العسكرية والبشرية ، وهو مركز الثقل الأكبر والرئيس لقوى الثورة والجغرافيا الأكثر استقلالية وقدرة على التحرك والتوسع، فيما تشكل كل جغرافيا ثورية متبقية معادلة خاصة دون أن تجتمع ضمن استراتيجية أو مرجعية موحدة.
حيث تتواجد في درعا قوة عسكرية ثورية متمثلة بفصائل الجبهة الجنوبية مع جيش الإسلام وأحرار الشام، مع وجود ضعيف لهيئة تحرير الشام ومجموعات جهادية أصغر، ورغم حالة البرود العسكري التي هيمنت على جبهة الجنوب بعد فشل معركة عاصفة الجنوب (حزيران-آب 2015م)، مع قيام عدة معارك لم تنجح بغالبها في مناطق مثلث الموت ومحيط الأوتوستراد الدولي والشيخ مسكين، ولكن إمكانات التحرك والتقدم العسكري ما تزال قائمة، ولكن منطقة درعا بحكم عدم اتصالها الجغرافي بطرق إمداد أو مناطق ثورية أخرى تبدو أكثر حاجة للتفاهم مع الأردن وحلفائها، وبالتالي أقل قدرة على التحرك بمعاكسة الضغوط الدولية، إضافة إلى عدم قيام مرجعية عسكرية أو سياسية موحدة للمنطقة الجنوبية تؤهلها لإقامة نموذج حكم محلي أو التعامل ضمن أوراق قوة أكبر مع الحلفاء، إضافة إلى عدم حسم ملف تنظيم داعش في منطقة حوض اليرموك، والذي يمكن أن يسمح بانتقال هذه القوى لمحاربة التنظيم ضمن مناطق أهم استراتيجياً كالمنطقة الشرقية.
أما في الغوطة الشرقية، آخر منطقة قوة حقيقية للثوار السوريين في محيط العاصمة دمشق، فإنها تواجه حملة عسكرية مستمرة منذ انهيار القطاع الجنوبي والتراجع في القطاع الشرقي على إثر الاقتتال الداخلي، حين تحالف جيش الفسطاط وفيلق الرحمن وهاجموا مواقع جيش الإسلام (أيار 2016م)، ولكن من المتوقع أن تتحول هذه الهجمة إلى حملة مضاعفة برياً وجوياً بنية الوصول إلى عقد اتفاق مشابه لداريا وحلب، مع استكمال المصالحات المحلية في الأحياء والبلدات المتبقية في العاصمة والتي يغلب عليها وضع الهدنة وضعف القدرة –أو الإرادة- على المقاومة.
وكان من المفترض أن يشكل القلمون الشرقي عمقاً استراتيجياً للغوطة الشرقية ومنطلقاً لعمليات السيطرة على مناطق تنظيم داعش في البادية ومحافظة دير الزور، ولكن الحملة الكبيرة التي شنّها التنظيم على القلمون الشرقي (منذ أيلول 2016م)، وعدم وجود عمل عسكري داعم من طرف البادية والحدود الأردنية، أضعف المقومات الاستراتيجية لجغرافيا القلمون الشرقي المهمة.
ويقع ريف حمص الشمالي في حصار مستمر منذ سنوات، وتجددت الحملة العسكرية لاقتحامه مع التدخل الروسي ولكن لم يحصل على تقدم حقيقي، وحافظ الثوار على مواقعهم وتمكنوا من المبادرة وشنّ معارك على النظام باستمرار، ولكن لم يتم وصل هذه المنطقة جغرافياً أو تأمين طريق إمداد آمن عبر البادية أو إلى القلمون الشرقي أو ريف حماة الشمالي، ما يعطل إمكانيات التوسع الحقيقي فيه.
أما ريف حلب الشمالي، والذي أصبح آخر منطقة بعنوان الجيش السوري الحر في الشمال السوري، ويشغل حالياً بديلاً للثوريين الذين يشعرون بالتهديد أو الرفض أمام هيمنة هيئة تحرير الشام في الشمال الغربي وعدم وجود بديل ثوري متماسك، فإنه في عمقه يمثل منطقة –شبه آمنة- لوقوعه في مظلة الوجود العسكري التركي، ويواجه على حدوده ثلاثة قوى تعتبر الجيش الحر خصمها الرئيس (قسد، داعش، النظام)، ويواجه مستقبلاً غائماً بالنسبة لتوسع المنطقة أو استمرار المعارك بعد إنجاز معركة الباب (المتوقع)، وبطبيعة الحال فإنه يمكن أن يشكل منطقة للتنظيم وترتيب الصفوف وبناء نموذج جديد بالنسبة للقوى الثورية، طبعاً مع كونه جغرافيا متأثرة بالتفاهمات التركية الدولية، في وضع مشابه لمحافظة درعا، إضافة إلى عدم وجود مرجعية حقيقية على الأرض، واستمرار الفوضى الفصائلية التي تمنع من قيام مشروع مماثل.
إضافة لهذا التشظي الجغرافي والهيكلي، فإن المجتمعات المحلية التي تمثل الحواضن الثورية تم استنزافها مع كلفة الدم الكبيرة وطول أمد الحرب وفوضى المرجعيات وفقدان المشروع الثوري المتماسك أو المستقر والقادر على استدامة الحالة التعبوية والثورية، وهو ما زاد من نزعة القبول بالهدن المناطقية أو المصالحات أو معارضة قيام الفصائل بأعمال عسكرية في مناطقهم أو مغادرة البلاد إلى تركيا وبلدان اللجوء المختلفة.
في المحصلة، فإن ثمة منطقتين فقط تمثلان جغرافيا محررة تهيمن فيها القوى الثورية وتحمل عنوان الجيش السوري الحر من دون حصار، هما: ريف حلب الشمالي ودرعا، وكلاهما متأثر –أو محدود- بالخطط والتفاهمات السياسية للدولة المجاورة وحدودها، أما الشمال الغربي (ريف حلب الغربي، إدلب وريفها، ريف حماة الشمالي) والذي كان مركز الثقل الثوري والعسكري الأكبر والجغرافيا الأكثر استقلالية وقدرة على التحرك والتوسع، فإنه ينتقل إلى هيمنة هيئة تحرير الشام ويشكل بيئة طاردة للثوريين وتتفكك القوة البشرية المقاومة فيه، وتقع الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وريف حمص الشمالي في حالة الحصار وضعف قدرات التوسع والتهديد المستمر، مع فقدان مؤسسات المرجعية الثورية التي تجمع هذه الجغرافيات المتشظية.
مسارات بديلة
تمرّ الثورة السورية في مرحلتها الراهنة بتحديات قد تكون الأخطر منذ تحولها للعمل المسلح قبل سنوات، وتواجه قوى الثورة بشكل متزايد تراجع أوراقها العسكرية والجغرافية والسياسية، وتهديدات وجود أمام مناطق أو مجالات أو خصوم متعددين، وحالة استعصاء في تغيير المعادلات واستقلالية التحرك وإبداع مسارات عمل جديدة، مع استمرار غياب المرجعيات الموحدة التي يمكن أن تجمع هذه الجغرافيات والقوى المختلفة في خطة وإطار جامع.
أما ميدانياً فقد تراجع حضور القوى الثورية –غير الجهادية- في أهم معاقلها في الشمال الغربي، إما عسكرياً كما حصل في حلب، أو بالاقتتال الداخلي وهيمنة قوى جهادية قد تكون مفتاحاً لتصنيف المنطقة ككل كما حصل في ريف إدلب.
ويمثل ريف حلب الشمالي جغرافيا بديلة للثوريين ولكنها تواجه عوائق ذاتية بالفوضى وغياب المرجعية إضافة إلى كونه منطقة صراع إقليمي، كما تمثل مناطق درعا المحررة المقابل الجنوبي لريف حلب الشمالي، كجغرافيا ثورية غير محاصرة وتهيمن عليها قوى الجيش الحر، ولكن ضمن عوائق ذاتية ومحددات إقليمية مشابهة.
فيما تقع الغوطة الشرقية في أخطر موقع يهدد النظام قرب العاصمة ولكنها تواجه الحصار والتهديد المتزايد بحملة عسكرية وجرائم إبادة مشابهة لما حصل في حلب، ويتشابه ريف حمص الشمالي في وضع الحصار وفقدان خطوط الإمداد الدائم أو التواصل مع مناطق مشابهة ما يعيق ممكنات التوسع، فيما تولى تنظيم داعش استنزاف القوى في القلمون الشرقي لإعاقة توسعها نحو مواقعه في دير الزور أو نحو مواقع النظام في الغوطة الشرقية.
وهو ما يجعل خارطة سيطرة النظام وحلفائه الإيرانيين والروس أقرب للتحكم في التجمعات الحضرية الكبرى وفي أن يكون لهم الأولوية في الانطلاق نحو المنطقة الشرقية حيث الموارد الطبيعية وآخر معاقل تنظيم داعش، في مقابل انقطاع الأوصال الجغرافية والمؤسسية ما بين المناطق الثورية المختلفة والتي تواجه أزمات تماسك ذاتية ومعيقات توسع موضوعية، كما تواجه قوى الثورة هذا التراجع على المستوى العسكري مع الضغط المستمر على المستوى السياسي لقبول المضي ضمن مسارات تصالحية أو إصلاحية تضمن استدخالهم ضمن بنية الدولة لا تأسيس نظام جديد.
وهذا التشظي الجغرافي والهيكلي وضبابية الآفاق، يفرض على قوى الثورة المتبقية توحيد مرجعياتها المختلفة لبناء تنظيمات متماسكة على المدى الطويل ، والتفكير في مسارات عمل بديلة أو موازية للعمل العسكري، ولا ترهن وجود الثورة بالواقع الجغرافي والفصائلي الراهن وإنما بالمشروع السياسي والقيمي العام للثورة السورية كمرجعية وهدف نهائي يستند لمبادئ الثورة السورية وشعاراتها الأولى المتعلقة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، والمقابل لمشروع نظام الأسد وطبيعته الاستبدادية والطائفية والاحتلالية، وأن تسعى قوى الثورة عبر بناء نماذج ناجحة أو عبر خطابها ومشروعها السياسي أو عبر توفير مناطق آمنة إلى إعادة بناء القاعدة المجتمعية المؤيدة لقضية الثورة دون أن تشعر هذه الحاضنة أنها بذلك مهددة بالإبادة أو حكم الجهاديين أو سلطة الفوضى.
أحمد أبازيد: باحث في الشؤون السورية