slot dana slot toto toto 4d slot pulsa slot gopay slot ovo slot bet 200 slot bet 100 situs bet 200 situs bet 100 situs slot dana situs slot toto jagung77
ديسمبر 23, 2024

في البحث عن الخلافة الغائبة

نشر معهد هودسون مادة تتحدث عن حلم الخلافة لدى المسلمين بعنون”البحث عن الخلافة الغائبة” وخلال المقال البحثي تحدث الباحث في جامعة هارفارد ألكسندر أروين بتتبع تاريخي  عن المفهوم الاسلامي المتعلق بالخلافة والتطورات التي طرأت على النظرة لها انطلاقاً من كتابات ابن خلدون وصولاً إلى إلغاء الخلافة ونظرة محمد اقبال الجديدة التي طرحها حول هذا المفهوم. للإطلاع على المادة الأصلية إضغط هنا.

تشكل حالة المناقشات في مضمار السياسة الشرعية وإحياء الخلافة سبباً وجيهاً لإعادة النظر في المناقشات التاريخية حول هذا الموضوع، أدرك ابن خلدون ضعف الخلافة في القرون الوسطى لكنه عارض إلغائها، على اعتبار أن هذا سيضعف الشرعية الدينية للحكومات. محمد إقبال أعجب بما قاله ابن خلدون واقتبسه لكنه في الوقت نفسه أعجب بما قام به أتاتورك بإلغاء الخلافة على أمل أن هذا قد يكون إشارة على نهاية الإمبريالية وبداية التشكل التدريجي لعصبة الأمم المسلمة. وحتى يتم تشكيل هذه العصبة، وقع إقبال في اضطرابات كبيرة، لكنه رأى أن هذه الاضطرابات تشكل جزءاً ضرورياً من عملية تعديل المسلمين في إطار العالم الحديث. وفي خضم هذه التساؤلات شهدنا ما يتعلق بشرعية الحكومات الإسلامية وتجدد الدعوات لعودة الخلافة من قبل جماعات مثل “داعش” و”حزب التحرير” وهو ما يؤكد بشكل كبير مخاوف ابن خلدون القديمة تلك.

من ابن خلدون لحزب التحرير

اعتبر المسلمون دائماً الخلافة هي الممثل الشرعي من الله والإسلام على وجه الأرض، وكوريث في سلسلة متوالية دون انقطاع توصل إلى النبي محمد عليه السلام. والآيات القرآنية المقتضبة مثل 38.26, 10.73, 10.14, 2.30 تحتوي بالفعل على هذا المعنى بالمصطلح العام دون أن توضح تطبيقاتها المحددة. وعبر عملية تاريخية طويلة وغامضة لا يمكننا استكشافها في هذا البحث، فسرت متطلبات الحكم الإلهي والخلافة عبر مؤسسة معروفة ومحددة. وخلال القرنين الثامن والتاسع، حكم الأمويون والعباسيون العالم الإسلامي كله، وفي حين اخذت سنة الكون مجراها مع هاتين الامبراطوريتين شأنهما شأن كافة القوى في الأرض، بقيت الهالة المقدسة المحيطة بالخلافة عصية على الضياع أو التبديد. ومحرومة من أي قوة سياسية حقيقية في القرن العاشر، تمكنت الخلافة من الاستمرار لأكثر من ألف عام أخرى ليمر عليها سلسلة لا تعدو ولا تحصى من الإمبراطوريات. لكن استسلام الخلافة الحقيقي كان في عام 1924 عندما قرر أتاتورك أن يدخل في العصر الجمهوري الجديد ويدخل تركيا معه نازعاً مهام الحكم عن نظام الخلافة القديم. وقتها لم يكن أمام الخليفة الأخير الصوري “عبد المجيد الثاني” إلا أن يأخذ قطاراً باتجاه أوروبا ليرحل بشكل مخز عن إسطنبول.

وبعد قرن من الزمان، من الأسلم أن نقول بعدم موت الخلافة بعد. وذلك ليس فقط بسبب قيام داعش بإحياء الخلافة مجدداً في أراضي العراق وسوريا، بل لأن طائفة واسعة من الحركات الإسلامية تدعم إحياء الخلافة وترميمها مع درجات متفاوتة من الإلحاح. ولعل مرونة فكرة الخلافة في العصر الحديث تدفعنا للنظر فيما قاله واضعو الكلاسيكية الكبرى حول هذه المؤسسة، والتي تملك دوراً أساسياً في الإسلام. ويبقى المؤرخ المثير للاهتمام “ابن خلدون” صاحب إسهام خاص في هذه النقطة. وقال في كتاباته إنه يدرك عجز نظام الخلافة منذ عدة قرون، لكنه مع ذلك رآى الكثير من الخطر في إلغاء الخلافة. استمر تأثير ابن خلدون في العصر الحديث، حتى إن الكُتّاب الذين برروا إلغاء الخلافة في القرن العشرين نقلوا وجهات نظره واستعانوا بها. وبعد مناقشة ما قاله محمد إقبال، أحد أهم هؤلاء الكتاب ومقارنة رأيه بآراء ابن خلدون، سنعود مجدداً إلى تاريخ إحياء الخلافة الحديث، الإحياء في ضوء ما نتعلمه من ابن خلدون وإقبال.

نظرية التوفيق والتاريخ: رمزية الخلافة عند ابن خلدون

نهج ابن خلدون الفريد من نوعه نابع من مكانته المرموقة سواء كعالم مسلم أو كمؤرخ. وفي كتاباته أشار ابن خلدون إلى السلطة التي تتحكم بالمجتمع المسلم وتمارس السلطة على المجتمع المسلم وتسيّر شؤون حياته المختلفة. وتنعكس سلطات الخلافة الواسعة أيضاً في تعريف ابن خلدون الأولي لها: “أنجحت الخلافة الأنبياء في تنفيذ ما تمليه الشريعة ودفعت كل شخص للتصرف كما تمليه الشريعة القانون فيما يتعلق بحياتهم في الحياة الدنيا والآخرة”. 1 وفي الخلافة ممارسة لهذه القوة المادية والروحية العظيمة، وهو ما كان موجوداً إلى حد ما في زمن الأمويين والعباسيين، ولكن بالتاكيد لم يكن الحال كذلك في أيام ابن خلدون، حيث كان يسيطر المماليك على الحكم دون استشارة الخليفة العباسي والذي تم تحويله لمجرد دمية شكلية يمد سلطان المماليك بالشرعية في القاهرة. وكمؤرخ لم يتوان ابن خلدون في الاعتراف بمصير الخلافة الفعلي التي وفقه “تلاشت أهميتها إلا أن اسمها ما زال قائماً” في الوقت الذي جذبت الخلافة كل صاحب شرف وعامل إلى داخل نظامها السياسي والحكومي من جميع السلالات في ذلك العصر.2 وهنا شهد ابن خلدون على الهوة التي تفصل الخلافة التاريخية بشكلها في القرن الـ 14 عن صورتها الأصلية وشكلها الحقيقي.

ونتج ابن خلدون إلى أن الفجوة بين التوقعات التقليدية والواقع ممكن أن تُسد عبر استعادة الخلافة مجدها السابق. لكنه في الوقت نفسه رفض أي مشروع من هذا القبيل على الصعيد العملي بشكل خطير. وبشكل أساسي، كانت الخلافة موحدة بشكل ظاهري في التاريخ لمرة واحدة فقط، وكانت تتمحور حول مجموعة قوية تملك شعوراً فريداً “العصبية” من قبيلة قريش وترافق مع انتشار الدين الجديد، وكان وقتها قوياً بما فيه الكفاية ليشمل العالم الإسلامي كله. وعلى إثر التآكل التدريجي للسلطة القرشية والسلالات التي تفرعت منها، أصبح العالم الإسلامي منقسماً بشكل دائم إلى مجموعة من المشاعر والسلالات المختلفة متعددة الجوانب وقليل منها من قبل الخضوع لخليفة واحد في أي مكان.3 وفي أعقاب تراجع قريش، عاشت الأمة الإسلامية على أمل إعادة توحيد الإسلام من خلال ظهور أحد أعضاء الأسرة النبوية أو قريش -يقصد المهدي*-  بشكل تدريجي لينقل العالم ويقود الإسلام في وجه مناوئيه “المسيحيين واليهود” وفق ما يتجلى في العديد من الأحاديث النبوية. وكان ابن خلدون يخشى من هذه الأشواق الأخروية ويشير إلى أنها تملك أثراً هداماً على التاريخ الفعلي، ولذلك فهو يبذل قصارى جهده للتشكيك في هذا الحديث مشيراً إلى سلاسل النقل غير الموثوقة، واللامعقولية السياسية فيه.4

وبدلاً من ذلك، رفض ابن خلدون الخلافة على شكلها بالديناصور الذي يجب أن يرقد بسلام. وإذا اختفت السلطة القرشية، فلا ينبغي للمؤسسة التي تعتمد على ذلك أن تختفي أيضاً. هذه الفكرة تم اقتراحها سابقاً على يد الجماعات المتمردة مثل الخوارج والمعتزلة أيضاً. ويشير ابن خلدون إلى أن هذه الانتقادات لم يتم دحضها عبر المنطق أو القانون الإلهي، وإنما تم الأمر بتوافق آراء المسلمين (الإجماع).5 العالم المعاصر والمتعاطف الشديد مع حزب التحرير “رضا بانكهيرست” ردد رأي ابن خلدون، وحشد قائمة كبيرة من سلطات القرون الوسطى التي تظهر أهمية الخلافة.6 وبهذا أصبحت المؤسسة التي بنتها السلطة القرشية متجذرة بشكل أكثر رسوخاً في الوعي الإسلامي مقارنة بالسلطة نفسها، ومن ثم استمرت بلا انقطاع حتى بعد زوال مخترعيها. وعليه كانت فكرة إلغاء الخلافة أشبه بالصدمة للرأي العام الإسلامي بحيث أنها قد تثير المزيد من الخلافات عوضاً عن الحلول. ومع ذلك، للمرء أن يتساءل عن سبب تأييد ابن خلدون المطلق للخلافة ومؤسستها، على الرغم من أن المنطق والوحي الإلهي يعدان سببين ثابتين خلافاً لفكرة إجماع المسلمين الذي يمكن أن يتغير في فترة ما. وهنا، يشير ابن خلدون إلى أن هذا الاجماع يرتكز على سمة أساسية وفريدة من نوعها للإسلام، تجعله ينفرد عن غيره من الأديان الأخرى، والتي يشار إليها بصفتها الجامعة للسلطة الدينية والسياسية معاً، ومن ثم سلطة الحكم والخلافة من أجل انتشار أوسع للدين.7  ابن خلدون يبرر هذا الجمع مع حجة سياسية من تلقاء نفسه، فهو يرى أن أفضل السلطة الحاكمة لا بد أن تحتوي على عناصر مستبدة وظالمة، وكل حضارة ناجحة وثابتة في ضبط النفس امتلك حكامها قواعد سياسية مقبولة على نطاق واسع. وقد تكون هذه القواعد “علمانية” كما في حالة بلاد فارس القديمة أو دينية بعد ظهور الخلافة الإسلامية.8 وبذلك، كانت السلطة السياسية تستقوي وتعزز نفسها كثيراً بربط نفسها بالدين.9 وعليه فإن فك ارتباط الخلافة وتحالفها الدنيوي مع الحكام المسلمين ينطوي على أمرين خطيرين أولها يكمن في تقويض شرعية الحكام الدينية بين الناس – بالنسبة للمحكومين- والثاني يتمثل في إزالة الموانع الدينية ضد إغراءات الحكم والاستبداد – بالنسبة للحكام.

ومن خلال جذور الخلافة المزروعة في إجماع المسلمين، لا يؤيد ابن خلدون الغاء الخلافة ولا يسمح بذلك، لكنه بالتأكيد يسمح بالتغيير في كيفية فهم الخلافة وفق ما تميله تحولات الإجماع الجديدة بين المسلمين. ويعطي ابن خلدون هنا مثالين متصلين، ففي الأصل، الخلافة كان حكراً على أعضاء قريش، كان هذا الحكم ذا مغزى عندما كانت قريش في الواقع المجموعة الوحيدة القادرة على التحكم في المجتمع الإسلامي، لكن هذه المجموعة أصبحت بالية مع تبخر قوتها. وعليه يرجح ابن خلدون هنا تفسير أن المجموعة الأكثر قدرة على الحكم يجب أن تدعى إلى الخلافة: قريش امتازت بهذه الصفة سابقاً ويفترض أن تحتل مكانها جماعات أخرى جديدة اليوم.11 ثانياً، لم تعد مسألة الخليفة الواحد بلا منازع ذا أهمية كبيرة في العالم الإسلامي، خاصة مع تقسيم هذا العالم عبر حكام من عدة سلالات متنافسة. وعندما أعلن عبد الرحمن الثالث خلافة من الأندلس في منتصف القرن العاشر رداً على الضعف المتزايد للخلافة الأصلية العباسية في بغداد، بدأت كثير من النخب الدينية المحلية بالاعتراف بشرعية الخلافة المتعددة، طالما أكد الحاكم سلطته في منطقته. قد يكون هذا الرأي في موضع شك كبير من قبل النظرة الدينية الصارمة، إذ ترتكز هذه النظرة على ضرورة أن يكون هناك وريث شرعي واحد فقط لمحمد عليه السلام، ولذلك ما زال كثير من العلماء يعارضون هذا التوجه. سياسياً، يبقى هذا الرأي مفيداً حيث يسمح لكل سلالة محلية باستمداد شرعيتها من الخلافة الخاصة بها أو من التي اختار جيرانهم أن يقسموا له الولاء. أعرب ابن خلدون عن أمله في أن تحظى فكرة تعدد الخلفاء ببعض الروابط اللطيفة مع محمد عليه السلام، وأكد انها ستحظى بقبول أكبر مع مرور الوقت.

وفي السعي إلى ألغاء الخلافة أو استعادتها، أخذ ابن خلدون على عاتقه التحدي المتمثل في التوفيق بين المجتمع المسلم وبقايا الخلافة الضعيفة، على الرغم من الذاكرة الطويلة الأمد لماهية المؤسسة الحاكمة وما يجب أن تكون عليه. وقال ابن خلدون إنه سيبدأ جهوده عبر تعديل تعريفه الأولي للخلافة وإثبات أن هذا التغيير ليس مجرد حادث: “في الواقع فإن الخلافة تعد بديلاً عن الشارع –الله– فيما يتعلق بالوصاية على الدين والسياسة في هذا العالم”. ابن خلدون يكرر التعريف الجديد حرفياً في بداية فصلين آخرين، وفي كل مرة يتحدث بها عن “الواقع – الحقيقة”. 12 ووفقاً للتعريف الأول، الذي تم الاستشهاد به في بداية هذا القسم، يتحتم على الخلافة أن تؤثر بالقوة في مصير جميع المسلمين في الحياة الدنيا والآخرة. أما التعريف الثاني، والذي يمتاز بمزيد من “الواقعية” قد لا تملك الخلافة أي قوة على الإطلاق، ولديها هدف أكثر تواضعاً يتمثل في الحفاظ على الدين الإسلامي بعد وفاة المشرع “محمد عليه السلام” في وجه تقلبات السياسة الدنيوية. التعريف الأول يجعل من الصعب على المسلمين توطين أنفسهم على سلطة رمزية إلى حد كبير كالخلافة، أما التعريف الثاني فسيجعل الأمر أكثر سهولة عليهم بشكل نسبي للقيام بهذه المهمة، شريطة أن يمتلك الاسم هيبة على اعتبار أنه وريث النبي محمد عليه السلام ويخدم في دور مفيد بحماية سلامتهم الدينية وشرعية الحكومات.

ويعزز ابن خلدون الحجج النظرية له ضد إلغاء الخلافة من خلال المثال التاريخي المناسب. ويبدو أن الموحدي المهدي كان من بين الحكام القلائل المسلمين في العصور الوسطى والذين تجرؤوا على التنصل من الخلافة بإعلانه للعامة عدم أهلية المؤسسة وضعفها منذ فترة طويلة. وللبحث عن مصدر جديد للشرعية الدينية، قال إنه وجد خليطاً من رواية الشريعة حول وحدانية الله مع تعاليم الشيعة حول عصمة الحكام والأئمة ومن خلال رفع نفسه فوق أحفاد الخلفاء العاجزين في كل من الأندلس وبغداد.  استبدل المهدي الخلافة التقليدية مع ما يمكن أن نسميه عقدية دينية مختلطة مصممة لإضفاء الشرعية لحكمه.13 امتنع ابن خلدون عن انتقاد المهدي مباشرة، لكنه أشار إلى الشكوك حول إصلاحاته من ثلاثة أوجه. فأولاً نقل ابن خلدون ما روي عن عدم الحفاظ على إصلاحات المهدي من قبل خلفائه، حيث عادوا إلى المطالبة بالخلافة على أساس قيادة المؤمنين.14 وثانياً، أشار ابن خلدون إلى تفضيله لسلف المهدي “ابن تاشفين” والذي وصفه بالرجل الطيب والمحافظ، والذي اختار أن يحترم رمزية الخلافة العباسية عوضاً عن الاستهزاء علناً بسلطتها. بل ذهب أبعد من ذلك عبر إرسال مبعوث إلى بغداد بهدف الحصول على تصريح رسمي لاستخدام أعلام وعناوين وألوان الخلافة.15 وثالثاً، يصف ابن خلدون في مكان آخر كيف أن ثورة المهدي المستوحاة من التعاليم الدينية – لم تهن الرأي العام الإسلامي فقط، بل أدت ممارساتها البشعة إلى اقتلاع سلالة المرابطين القوية بتكلفة قتلى كبيرة جداً وضخمة.16 ويبدو أن ويلات هذه الحرب أصابت مسلمي الأندلس، وسهلت سيطرة المسيحيين عليها لاحقاً وهو ما اكتسب زخماً كبيراً في أيام الموحدين الأخيرة، حيث جرت عمليات تسليم أراض للمسيحيين في مقابل تحصيل دعمهم –ضد الموحدين.17 والإشارة القوية في سرد ابن خلدون هنا أن النزاعات الدينية والسياسية العنيفة المحتملة بهدف ملء الفراغ الناجم عن رفض الخلافة ستضعف المجتمعات الإسلامية وحكامها.

ونستنتج هنا أن ابن خلدون لم يعارض إلغاء الخلافة فحسب، لكنه أيضاً عارض تجاهل الحكام لها. وأشار أيضاً إلى أن المسار التاريخي الحتمي أدى إلى تراجع نموذج الخلافة الأصلي، لكن الآمال المتعلقة بإعادة إصلاحها غير قابلة للتصديق في أحسن الأحوال. ومع ذلك، فإن تدمير هذه المؤسسة المقدسة لن يحل المشاكل الناجمة عن تفكك المجتمع الإسلامي إلى عدة سلالات متنافسة. بل على العكس من ذلك، فإن ذلك سيؤدي إلى تفاقم هذه المشاكل عن طريق إزالة مصدر تقليدي للشرعية الدينية من دون إقامة أي بديل مقبول على نطاق واسع. ومن شأن السياسة الأفضل للحكام أن يحذو حذو ابن تاشفين في السعي وراء دعم واحد من الخلفاء الموجودين. ونظراً لضعف فعالية المؤسسة فيمكن أن يتم هذا دون أدنى خطر. وهذا من شأنه أن يمنح الخلافة بعض السلطة الرمزية وقدراً كبيراً من المرونة للتكيف مع ارتفاع السلالات الجديدة، من خلال تقديم الدعم أو حجبه عنها في بعض الحالات. نظام الخلافة الجديد هذا سيحافظ على شريعة النظام القديم، لكنه بالكاد يظهر مظهراً من مظاهر الوحدة والعظمة.

نقد إقبال للخلافة: نحو عصبة الأمم المسلمة

استغرق الأمر 500 عام بعد وفاة ابن خلدون حتى جاء حاكم مسلم جريء على غير العادة وقرر أخيراً التخلص من الخلافة. لن ينسى التاريخ هذا الحدث، كما لن ينسى اثنين من الشخصيات اللامعة الأكثر إعجاباً بقرار أتاتورك، إذ سعوا إلى تبريره، وهما علي عبد الرازق ومحمد إقبال، فضلاً عن واحد من أكبر منتقدي الخلافة أيضاً، رشيد رضا، والذي وجد نفسه مضطراً للإلمام بحجج ابن خلدون وترديدها.18 ولأغراض البحث هنا، فإن إقبال الذي كتب جل إسهاماته باللغة الإنجليزية  يبقى الأكثر إثارة للاهتمام، ويمكننا من الوصول إلى ملخص ما قدمه هؤلاء الكتاب الثلاثة من خلال دراسة نقده للخلافة، وموقفه تجاه ابن خلدون، وهنا نأمل في تحقيق القضايا المتولدة عن قضية إلغاء الخلافة وجلبها إلى نقطة التركيز.

حذر ابن خلدون أكثر من مرة من مسألة تقويض إجماع المسلمين فيما يتعلق بالخلافة، وفي الوقت الذي لم تحظَ خطوة أتاتورك بأي إدانة عالمية، إلا أن فعله أثار الذعر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وفي بلدة بعيدة مثل الهند، قامت حركة الخلافة عبر جهود شعبية ولكنها غير مجدية للدفاع عن الخلافة بين أعوام 1919 و1924. لكن حماسهم هذا لم يدفع الفيلسوف الهندي والشاعر الأكثر شهرة محمد إقبال لرفض هذا (1877- 1938) والذي كان يحاول وأد الخلافة القديمة مرة واحدة وإلى الأبد. ولكن إقبال في الوقت نفسه يشيد بحرارة بابن خلدون. وهنا كيف لنا أن نفهم هذا الاحتفاء من إقبال بابن خلدون رغم نفور إقبال من فكرة الخلافة وحرص ابن خلدون على دعمها والمحافظة عليها؟

تقارب إقبال من ابن خلدون ينبع جزئياً من نقدهما المشترك للإمبريالية العربية في الإسلام. فوفقاً لإقبال، فإن ابن خلدون أيقن أن سقوط قريش يعني نهاية الإمبريالية العربية والاستعاضة عنها بعدد من السلطات المحلية المتميزة والتي تكون على قدم المساواة مع قريش أو غير قريش، بل من الممكن أن تكون غير عربية، بشرط أن تصلح لأن تكون فعالة “الإمام الحاكم صاحب القوة”19. يمكننا القول إن هذا تمثيل دقيق لموقف ابن خلدون، وكما رأينا فإن هذا الموقف لا يقود إلى إلغاء الخلافة وإنما تعدد “أوجهها وحكامها” حيث يسعى كل طرف إلى تقديس سلطته السياسية في بلدان معينة. وهناك أدلة أن إقبال في صغره وافق موقف ابن خلدون تجاه الخلافة. واستمر ذلك حتى كتابات إقبال عام 1910 واستحضر مطالب ابن خلدون “خلافاً للفكرة العربية القديمة” حيث دافع عن فكرة إمكانية تعايش عدد من الخلفاء في وقت واحد، شريطة عدم التنافس بين هذه السلطات في المناطق الخاضعة لحكمها. ويلاحظ إقبال أن الخلافة المتعددة كانت سمة من سمات الإسلام لفترة طويلة، وفي تلك الحقبة نبه إلى وجود الخلافة التركية الكبيرة ونظيرتها المغربية الأقل شهرة منها. وخلال كتاباته المبكرة هذه لم يشر إقبال إلى مسألة إلغاء الخلافة أو السعي لذلك، وهو الهدف الذي ينسب عادة إلى مجموعات الخوارج “اختفت تقريباً من العالم الإسلامي”.20

وفي كتاباته المتأخرة بعد عام 1930، ومع التشجيع الذي حظي به إقبال مع عمل أتاتورك الحازم بإلغاء الخلافة، قام إقبال بتعريف الخلافة على أنها “إمبراطورية الإسلام” ونفى عنها مفردات الإمبريالية العربية.21 وقال إن هذه الإمبراطورية قد تكون عربية كما كان الحال عليه في القرون الأولى من الإسلام، أو تركية كما أصبح الحال في وقت لاحق. لكن الأمر المؤسف والذي امتد عبر التاريخ الإسلامي منذ العصر الأموي وما بعده كان في الإمبريالية التي اختطفت روح الدين الأصلي والمساواة. في حين قام الحكام بخديعة الشعوب والجماهير المسلمة بشأن الخلافة على اعتبار أنها رمز للوحدة الدينية، فهي كمفهوم كانت أفضل رمز لإضفاء الشرعية على سلطاتهم الاستبدادية. ووفق إقبال فإن القضاء على الخلافة لا يمثل “الفصل بين الكنيسة والدولة”، ولكنه يمثل تحرير الإسلام من الاستبداد الإمبريالي. وأتاتورك هنا بقصد أو بدون قصد قد ساعد على استعادة أصالة “روح الإسلام”.22 ويؤكد إقبال أن قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة كان ضرورياً لكنه غير كافٍ، إذ كان لا بد من اقتراح تشكيل نظام سياسي بديل يمثل الوحدة الدينية. أما على عبد الرازق فقد كان صاحب أطروحات طويلة تتحدث عن استبداد الخلافة لكنه لم يقدم أي نموذج بديل لها.23 ويعتقد إقبال بأن وحدة المسلمين ممكنة عبر استعادة ادراك أن “الإسلام هو شيء يتجاوز القومية والإمبريالية إلى ما سماه عصبة الأمم”، والتي تتألف من “عائلات تتوزع على جمهوريات”. ويتم ذلك أيضاً عبر إنشاء وحدة المسلمين من الصفر، وفي هذه العصبة لا يوجد “متطلب للقيادة المهيمنة الرمزية” مثل الخلافة، والتي ستكون محدودة ضمن مدينة أو منطقة معينة بالضرورة، ومن ثم فإن وجودها لن يساهم إلا في مزيد من تقسيم الأعضاء “دون خدمة أي غرض مفيد لها”. ويلخص إقبال موقفه: “قد وقفت حقاً في طريق لم شمل الدول الإسلامية المستقلة… كل هذه القطيعة والاختلاف من أجل مجرد رمز للقوة التي اختفت وضعفت منذ فترة طويلة –يقصد التمزق بسبب ضعف الخلافة ووجودها”.24 وعلى النقيض من ابن خلدون، يحتقر إقبال الخلافة صاحبة الرمزية البحتة دون أي جدوى، إذ إنها توفر تبريراً للاستبداد وذريعة لمختلف النزاعات المحلية.

رؤية إقبال الحديثة المتعلقة بعصبة الأمة التي تجمع جمهوريات إسلامية مختلفة تتقاطع في كثير من التفاصيل مع رؤية ابن خلدون الأكثر تحفظاً فيما يتعلق بالخلافة والحكم الملكي. وهنا يعترف إقبال بالاعتماد على ابن خلدون الذي امتلك “أول رؤية خافتة لدولية الإسلام” ولكنها بالتأكيد لم تشكل تصوراً نهائياً.25 فابن خلدون نظر إلى تراجع قريش وما يترتب عليه من الحاجة إلى العديد من مراكز السلطة المتساوية ولكنه لم ينظر إلى الفساد المتأصل في الإمبريالية نفسها. بالإضافة إلى ذلك، لم يحتوِ ملخص إقبال لآراء ابن خلدون حول الخلافة أي ذكر حول الإجماع، وهو المبدأ الذي برر الخلافة وأصلها في وجهة نظر ابن خلدون. ولا يمكن اعتبار التجاهل لهذا المبدأ جاء من قبيل الصدفة، فإقبال نفسه أبدى إعجابه بمبدأ الإجماع في جزء آخر من الفصل الذي قدم فيه هذه الملخصات.26 ويأتي هذا الإعجاب بمثابة اعتراف ضمني بحقيقة أن صورة ابن خلدون عن الإجماع كانت في صفه خاصة، وأن الكثير من دول العالم الإسلامي تبدي غضبها تجاه تغيير للقديم الذي ألفته كصورة من صور الخاص الموحد. عبد الرزاق من جهته، والذي كان الناقد الأكثر جرأة تجاه الخلافة أدين وطرد من مجلس كبار العلماء عام 1925.27    

إقبال قام بإحلال مفهوم جديد محل “التوافق”، المفهوم الجديد “النفعية” لم يوجد أبداً في كتابات ابن خلدون، وعدّ إقبال هذا المبدأ ذريعة لتبرير إلغاء الخلافة من قبل القيادة السياسية بمجرد أن تعجز عن تلبية الغرض المخصص لها من قبل الحكام.28 وألغيت الخلافة، ليس وفق ما يتصور إقبال أحياناً – بناءً على توافق شعبي وإجماع تركي-  لكن الأمر تم على يد أتاتورك بنفسه رغم المعارضة الكبيرة للأمر.29 وعلى الرغم من أن فكرة أتاتورك “النفعية” ذهبت ضد “الإجماع” في الوقت الحاضر، إلا أن إقبال أعرب عن أمله في الوصول إلى هذا الإجماع مستقبلاً. وأمل إقبال في أن يتشكل هذا الإجماع ليس عن طريق المدارس الفقهية القديمة -التي كانت تمثل حداً كبيراً من الخنوع إلى الملوك- ولكن عبر المجالس التشريعية الإسلامية المستقلة “شكل الإجماع الوحيد” الذي قد يتشكل في العصر الحديث.30 وبمجرد أن ينتشر أنصار الشكل الجمهوري للحكومة ويقومون بمقام التوافق حول هذه الآراء، والتي بدورها ستنتشر في الإسلام؛ هنا ينتهي الجدل حول إلغاء الخلافة ويهدأ تدريجياً.

وعبر مراقبة الدول المسلمة المقسمة الآن، وما تحتويه علاقاتها من اضطراب ومشاكل، يميل الشخص إلى رفض ما جاء به إقبال من أمل. وكدفاع عن إقبال، فقد سبق له أن قال بأن “عصبة الأمم المسلمة” لا يمكن أن تظهر بين عشية وضحاها، ويتطلب ذلك قبل كل شيء وفق إقبال: “أن تغرق كل الدول الإسلامية نحو أعماق نفسها مؤقتاً، وتعمل على تركيز رؤيتها المستقلة حول نفسها بشكل أحادي، وبعد أن تصبح الدول كلها قوية يمكنها لاحقاً تكوين أسرة تتعايش من الجمهوريات والدول”.31 ولتطبيق مشروع إقبال فلا بد من أن نبدأ بالفحص الذاتي الوطني وإصلاح كل شعب مسلم على حدة. وإلغاء الخلافة ونهاية أي أمل في الإمبراطورية قد يسهل البحث عن الذات، لكن هل اقتنع إقبال بمشاركة كل دولة مسلمة في هذا الأمر؟ فإقبال يعرب مراراً عن قلقه إزاء العديد من النخب والشعوب الإسلامية وخاصة في بلده الهند، وأشار إلى حقيقة أن تركيا وحدها في ذلك الوقت من بدأت في التخلص مما اكتسبته لقرون.32 فقرون من التراكمات التاريخية، بدءاً من انتصار الإمبريالية والاستبداد ليس من المرجح أن يختفي أثرها في الإسلام بين عشية وضحاها. وإقبال هنا يتوقع أن تخضع هذه التطورات السابقة للمراجعة والمساءلة في مرحلة ما. ومع ذلك، يؤكد إقبال أن “عصبة الأمم المسلمة” لن تساهم كثيراً في ازدهار الأمم بل إنها ستكون شيئاً أقرب إلى الفوضى “فالاضطراب الذي حل بتركيا من المرجح عاجلاً أو آجلاً أن يصل الى الدول الإسلامية الأخرى. بحيث ينبع من القوى الداخلية في البلاد”.33 وقد تتحول هذه الاضطرابات مع المدة إلى هدوء في ظل “عصبة الأمم المسلمة” ولكن إقبال –وحتى في هذا الخصوص- تحدث بشكل أقل جزماً مما كان متوقعاً، وقال إنه يعطي ثلاثة احتمالات لطبيعة هذه العصبة، فهي إما أن تكون “دولة عالمية” وهي حالة مثالية، أو قد تأتي بصيغة “جامعة دول مسلمة” أو “عدد من الدول المستقلة التي تملك مواثيق وتحالفات بحتة تحدد مصالحها الاقتصادية والسياسية”.34 وأخيراً، “التاريخ وحده من يستطيع الإجابة” على “كيف سيتصرف غير المسلمين  -خاصة الأوروبيين المستعمرين– تجاه التحدي الجديد المتمثل “بالإسلام الموحد سياسياً”، وإقبال هنا لا يحاول التنبؤ بالمستقبل او إعطاء دلالات دقيقة، وذلك لأنه يعترف بعدم اليقين، ويشير إلى أن “الإسلام يمر بفترة انتقالية، فهو يتحول من شكل واحد من التضامن السياسي إلى شكل آخر، والذي لم تحدده قوى التاريخ بعد”.35 وهنا يتنبأ إقبال بعهد جديد للإسلام لكنه ليس متأكداً ما إذا سيكون عصر السلام والحرية الجمهورية أو عصراً من عدم اليقين الذي طال أمده وقاد إلى كثير من الاضطرابات. ولذلك فهو غير قادر على تحديد تنبؤه على وجه التحديد، لأن البديل يبدو في الاستمرار والمحافظة على العقم الذي ترك المسلمين عاجزين تماماً عن تنشيط دينهم أو التأقلم مع العالم الحديث.

ونخلص هنا إلى أن إقبال اتفق مع ابن خلدون في أن الغاء الخلافة سيقود إلى مرحلة واسعة من التجريب والاضطراب واسع الناطق، وكلاهما سعى إلى أنماط جديدة من الشرعية السياسية والدينية لتحل محل القديمة. وكلاهما توقع عقود الفوضى التي أعقبت إلغاء الخلافة بشكل لا يختلفان عليه. ولكنهم مع ذلك نظروا إلى هذه الفترات في ضوء مختلف: فابن خلدون نظر إلى هذه الأمور كدليل على مخاطر تدمير السلطات الدينية وتدميرها من يد الحاكم المسلم الدنيوي، وإقبال نظر إليها على أنها فترة حتمية من التحول التي قد تكون إيجابية في نهاية المطاف، على شكل مبدأ أكثر نجاحاً في الوحدة والذي يتجسد في عصبة الأمم المسلمة المتناغمة بين الأمم. ومع ذلك لا يزال إقبال غير محدد لخصائص العصبة ولم يقدم إطار زمنياً لظهورها التاريخي. وتاريخياً، بذلت جهود كبيرة لتشكيل اتحادات إسلامية فعالة، لكن النتائج كانت محدودة للغاية.36 ووفقاً لمفهوم إقبال، فإن هذا الفشل يظهر وكأنه لا مفر منه طالما كانت الدول الإسلامية المنفردة تنضم إلى “أسرة متعايشة من الجمهوريات”. ومع ذلك، فإن العديد من الدول المسلمة ما زالت ترزح تحت وطأة الطغاة أو لم تخرج من أتون الحرب الأهلية، وقد يكون من المستحيل على دولة مسلمة واحدة أن تلبي معايير هذه المجموعة المختارة. وفي هذا الجو من خيبة الأمل الطويلة وتزايد الإحباط فإن الحنين إلى الخلافة يتكاثف ويزداد. وللأسف لم يحدث شيء لتسهيل إعادة الإعمار على نحو فعال، وهنا في القسم الأخير دعونا نبحث عن عواقب هذا النسيان على المسلمين وظروفه.

“اشتقت للخلافة”

الاستعادة الأكثر عتاوة للخلافة كانت على يد داعش، وهنا اقتبس من إعلان داعش عن استعادتها للخلافة الآتي: “لم يبق هناك سوى مسألة واحدة وهي فرض كفاية، وبعدها يمكن القول بأن الأمة تجاوزت خطاياها. لقد كان ذلك واجباً منسياً، والأمة لم تذق طعم الشرف منذ أن فقدته، وهو الحلم الذي يعيش في أعماق كل مؤمن مسلم. وهو الأمل الذي يرفرف على في قلب كل موحد ومجاهد، إانها الخلافة- الفريضة الناقصة في هذا العصر. قال تعالى: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة”. (البقرة – 30).

وقال الإمام القرطبي في تفسيره للقرآن الكريم، إن هذه الآية هي القاعدة الأساسية لتعيين قائد وخليفة، الذي تسمع الأمة له وتطيعه ويوحد أمرها، وتنفذ أوامره. وهذا الأمر هو موضع إجماع بين علماء الأمة وعامة المسلمين باستثناء ما تم نقله عن الأصم، والذي سمي بذلك لعدم استماعه لأحكام الشريعة”37.

وغني عن القول إن معظم المسلمين لم يعترفوا بهذه الخلافة الغريبة – داعش.  بل حتى إن المسلمين ذوي الميول الإسلامية مثل يوسف القرضاوي وصفوا هذه الخلافة بغير الشرعية.38 فلا توجد قاعدة فقهية مقبولة عن كيفية استعادة الخلافة بعد إلغائها، والطبقة الحاكمة المسيطرة لن تقوم أبداً بالسير باتجاه توافق إسلامي ما حول هذه الخلافة. وعلى أي حال، يوضح هذا الإعلان نقطتان مهمتان، الأولى وهي كما تعلمنا من ابن خلدون، فإن المسلمين تمتعوا بما يشبه الإجماع بشأن ضرورة الخلافة في العصور الوسطى، والثاني أن على الأمة الإسلامية المحطمة أن تسعى لإنعاش شرفها وهيبتها في فترة ما بعد الخلافة. ولعل هذه الاعتبارات تفسر سبب قيام الكثير من المسلمين الذين لا يدعمون داعش بما في ذلك القرضاوي نفسه بالإيمان بحلم الخلافة نفسه، وإن كان ذلك بطريقة أكثر تدرجاً واعتماداً. وقد وصف القرضاوي هذا الأمر بشكل أكثر عمقاً واتساعاً في مختارات مفيدة عنونها بإزالة الغموض عن الخلافة. وعبر المعلومات التي يقدمها فإن القرضاوي يوضح رمزية الخلافة ويتأمل كثيراً في حالات ترميمها وإصلاحها وهي التي ما تزال تشكل هاجساً وحافزاً لكل المسلمين من بريطانيا إلى إندونيسيا عبر طوائفهم الواسعة من الطرق. وقبل مناقشة هذه الحركات، سنقوم بتقديم إيجاز لتاريخ عقيم من جهود إعادة الخلافة.

الجهود المبكرة التي بدأت فور إعلان اتاتورك إلغاء الخلافة تركزت حول اثنين من المطالبين في هذا المجال، الأول هو الملك حسين في الحجاز والثاني هو الملك فؤاد في القاهرة. وحاول الطرفان على حد سواء دعم مطالباتهم عبر تنظيم مؤتمرات لا تعد ولا تحصى، وفي كل واحد منها يحاول الطرف المنظم أن يظهر أحقيته بقيادة الدول الإسلامية ويضرب بخلافاتها عرض الحائط. وكان إقبال صحيحاً في التأويل بأن الخلافة قد تصبح سبباً للصراع بدلاً من الوحدة. وحتى لو توافق المسلمون في معظم الحالات على الحاجة العامة للخلافة، فإن الدول والحكومات المستقلة التي ظهرت تدريجياً تحت أنقاض الاستعمار والإمبراطورية العثمانية لا يمكن أن تتوافق على أي دولة ستستضيفها أو تمثلها فقط. ولاحقاً سيتم خلع الملك حسين من قبل ابن سعود، الوهابي الذي لا يملك أي مصلحة مع الخلافة، في حين أن فؤاد سيتخلى عن مطالباته بهذا الخصوص.39 أما رشيد رضا فقد أدرك أن تركيا والسعودية لا يمكن أن توفر أي منهما منزلاً معقولاً لخلافة جديدة، فعقد عزمه على توافق العرب والأتراك على بناء الخلافة في الموصل، في المنطقة ما بين الأراضي المحتلة لكن هذا المشروع لم ير النور.40 وسقطت هذه الدمى المختلفة، ولم يعد من الممكن وضعها مرة أخرى معاً على الأرض. ومع ذلك لم يكن هذا كافياً، ولم تبارح الخلافة وذكرها القوافي المحصنة. وما تزال ذكريات الخلفاء والسلطة وأثر الخلفاء على ملوك الإنجليز تملؤ الصحف وذكريات الأطفال. وفي إشارة إلى هذه الحقيقة، قال توماس أرنولد، الكاتب في مجال قصص الأطفال، إنه يتوقع بقاء حلم الخلافة على قيد الحياة والأمل في قلوب الشعوب المسلمة لأجيال عديدة قادمة.41

وبطبيعة الحال، كان الكثيرون يأملون في أن تشكل حالة فشل الحكام المسلمين في تجديد الخلافة في خضم المنافسات المريرة  “إشارة إلى وجود اتجاه أكثر علمانية بدلاً من زيادة التوجه نحو إحياء الخلافة”42. هذه الملاحظة التي قدمتها سيلفيا حاييم، في خاتمة عملها “أرنولد” تحمل المزيد من المصداقية إذا ما قيست على ما كانت عليه الحالة في الستينيات أكثر مما هو عليه اليوم. وبات من الواضح أن تخلي الحكام عن حلم إعادة الخلافة لم يؤد إلى عدم النسيان، وبدلاً من ذلك ظهرت مجموعات تخريبية وغير حكومية تسعى لتحقيق هذا الحلم. وكان حزب التحرير الإسلامي والذي أسسه تقي الدين النبهاني هو أول من دعا بقوة إلى الخلافة الجديدة، وينبني تصور الحزب على ترميم الكيان الإسلامي الذي يحمل بعداً سياسياً جديداً وأيديولوجيا يمكنه من الوقوف في وجه الشرور الغربية المختلفة – الرأسمالية والشيوعية.43 وكفقيه انتقد النبهاني غياب الخلافة واصفاً إياها بأنها “واحدة من أكبر الكبائر، وغيابها يستوجب عقاب الله” ويسعى لإثبات رأيه هذا عبر العديد من الشواهد والاستدلالات من المصادر الإسلامية.44 وخلافاً للإجماع المحيط بالخلافة والذي شكل تجربة الأجيال اللاحقة من المسلمين، لا تظهر هذه المصادر لمناقشة الخلافة باي طريقة واضحة، ولكن هناك جيل آخر في وقت سابق “عبد الرازق” واحد منهم يخلص إلى أن الخلافة لا تعد فرضاً على الإطلاق.45 وفي الوقت الذي فشل عبد الرزاق في إيجاد حزب سياسي يحمل أفكاره وتوجهاته، تمكن النبهاني من إنشاء حزب التحرير لينقل وجوده وأفكاره إلى عشرات الدول الإسلامية.

هذا لا يعني أن الحزب قد تمكن من تحقيق نجاح باهر. فمثله مثل الكثير من الحركات الدينية السياسية الحماسية فإنه أظهر قدراً كبيراً من المبالغة في توقع الاحتمالات الأولية. والنبهاني هنا قام بتنميط خطته وفق خطة النبي محمد –عليه السلام- وأعطى انطباعاً بأنه سيتولى مقاليد الحكم في إحدى البلدان على الأقل خلال حياته. وتقوم فكرته على نشوء الخلافة في بلد معين ثم ما تلبث أن تنتشر تدريجياً في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وصاغ الحزب دستوراً مفصلاً لهذا الغرض.46 ويبدو أن النبهاني قد تملكه بعض الأمل في الاستيلاء على الأردن عن طريق انقلاب عسكري عام 1970، إلا أن وفاته عام 1979 ساهمت في تغيير المخطط. وأدى الفشل في تحقيق الهدف الأصلي في غضون الإطار الزمني الذي وضعه النبهاني في خلق أزمة طالت مرافق الحزب وأدت إلى إحداث نزيف عال في عضوية الحزب.47 ومع تراجع الحزب رفضت فكرة الخلافة نفسها أن تموت وصمدت بعناد، وفي خضم الأمل لتجديد عودة الخلافة، بدأ الحزب بتفسير فشله على أنه جاء في إطار سياسي ولا علاقة له بالنجاح الأيديولوجي.48

ومع ذلك، لم ينجح الحزب في السيطرة على أي بلد، ولا يبدو أنه يقترب من النجاح في هذا الأمر، لكنه مع ذلك خلق وجوداً له في كثير من المناطق الإسلامية. وبعد أن نشأ الحزب في وسط العالم الإسلامي تمكن من التوغل إلى المناطق النائية فيه، وازدهر وجوده في مناطق آسيا الوسطى خاصة مع دعايته بمقاومة الطغاة، بالإضافة إلى استغلاله جو التسامح النسبي الذي تمتاز به ديمقراطيات كإندونيسيا وبريطانيا. وعلى أي حال، تمكن الحزب من التكيف بذكاء استراتيجي وفق الظروف المحلية، دون مساومة باهظة على أهدافه طويلة الأمد. وهنا نحاول البحث في كل حالة على حدة.

وفي آسيا الوسطى، ومع استمرار الفساد الحكومي وتفشي الفقر بشكل أدى إلى تولد السخط بشكل كبير، وعلى الرغم من عقود الحكم السوفييتي التي خففت من قبضة السلالات التقليدية للإسلام وفتحت الطريق أمام نمو أيديولوجيات دينية جديدة؛ استطاع حزب التحرير حشر عشرات آلاف من المؤيدين والمتعاطفين معه.49 وتمكن الحزب من الانتشار بسرعة كبيرة في مناطق طاجكستان وأوزبكستان، وهي من الجمهوريات التي ظهرت فيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان يديرها الرئيس نفسه في أوائل التسعينيات، والأمر نفسه ينطبق على قرغيزستان. وعمل الحزب على توزيع المنشورات السرية حتى التماس مساعدة المجندين في السجن، حيث كان يسجن أعضاء الحزب كثيراً. وسوّق الحزب لكراهية الحكام المستبدين على نطاق واسع بالإضافة إلىإللقاء اللوم على اليهود والأمريكيين فيما وصل إليه الحال المتردي هذا، وهو ما ساعد بتوضيح قضية الحزب وتعزيز انتشاره.50 أما في قيرغيزستان فقد حاول الحزب خلال فترات أكثر ليبرالية في الظهور إلى العلن، لكنه غالباً ما واجه قمعاً كبيراً من قبل السلطات المحلية. ويخلص إيمانويل كاراجيانيس إلى أن “حزب التحرير يتبع استراتيجية مختلفة في كل بلد في آسيا الوسطى، ويتكيف مع البيئات الاجتماعية والسياسية هناك”.51

أما في بريطانيا، فقد تلقى الحزب ضربات في أوقات مبكرة من التسعينيات بعد زيادة تعليقاته على المثلية الجنسية ومكافحة الهندوسية ومعاداة السامية. وفي تلك الفترة أدركت قيادة الحزب أن ردة الفعل هذه قد تتسبب بكوارث كبيرة وهو ما دفعها إلى حث أعضائها لخفض الصورة العامة والدعايات المروجة المختلفة. لكن الهجمات الإرهابية التي وقعت في 11\09 والاعتداءات اللاحقة التي وقعت في 07\07 تلتها ردة فعل من البريطانيين والأمريكيين بشكل لا مفر منه، وسرعان ما مثلت فرصة جديدة للحزب لاستغلال مظالم المسلمين. وبدأ الحزب بتقديم نفسه على أنه الصوت الحقيقي لجميع المسلمين، وقدم الخلافة المرجوة على أنها من ستوفر الحماية لهم في المستقبل ضد ويلات الغزو الغربي والاستعمار الجديد في الشرق الأوسط ونظرات العداء للإسلام في بريطانيا. وبحساسية مرهفة ضد التطرف، سعى الحزب إلى النفي أو التقليل من شأن التصريحات العدائية بصورة خبيثة أو تآمره ضد النوايا الغربية، وتكفل أعضاء الحزب بنقل رواية الحزب وتصوره. ونجح الحزب فعلياً بالاستفادة ببراعة من الحرية التي يتيحها المجتمع المدني البريطاني من خلال إقامة عدد من الجمعيات العمومية والتي كانت غالباً تتخذ شكل جمعيات خيرية تعليمية. وكما استنتج أحمد وستيوارت: “الحزب لم يلغ أهدافه الأصولية التجديدية، لكن الصورة التي يقدمها للمجتمع المسلم البريطاني والمجتمع البريطاني بشكل أكبر هي صورة حزب إسلامي سياسي شرعي”. 53

أما في إندونيسيا، البلد المسلم الحديث الديمقراطي، والذي لم يحكم فعلياً من قبل أي من الخلفاء الكبار في العصور الوسطى، تمكن الحزب من الوصول إلى مراحل تأثير كبيرة على مستوى العمل الطلابي الجامعي. وفي حين يتحرك بعض الطلاب الأمريكيين من أجل العدالة الاجتماعية ومناهضة العرقية، يتحرك نظراؤهم في إندونيسيا من أجل الدعوة إلى الخلافة كبديل عن ظلم الاشتراكية أو الرأسمالية.54 ويزداد الأمر بأن ينشر الحزب أغانيه وقصائده –أحدها “أفتقد الخلافة”- على مواقع الإنترنت واليوتيوب.55 هؤلاء الطلاب يجدون بالتأكيد ما يغرم طبيعتهم السلمية: “مع روحنا، فإننا نعلن للجميع أن نضالنا هو نضال لفظي وفكري، وليس عنيفاً”56 ويظهر أن هذه الجماعات استفادت من الحق الديمقراطي في سلمية الاحتجاجات، وتحولت المجموعة التي خططت ذات مرة للانقلاب في الأردن إلى مجموعة ملتزمة بشكل صارم بعدم اللجوء إلى العنف بأي شكل.

ووفقاً لتاجي الفاروقي، فإن ميل حزب التحرير لعدم اللجوء إلى العنف يأتي من وجهة نظر الحزب بأن الجهاد العسكري لا يمكن أن يتم إلا في ظل حكم الخليفة.57 وبما أنه ما يزال من غير الواضح بشكل كاف كيف يمكن للحزب أن يمسك بزمام الحكم بطريقة سلمية، حتى في ظل حكم المجتمعات الديمقراطية فإن الكثير من المراقبين لا يثقون بادعاء الحزب بمعارضته للعمل المسلح في سبيل تحقيق أهدافه.58 فيما يقدم العضو السابق في الحزب “ماجد نواز” والذي استخدم معرفته الداخلية في تقديم نقد رائع للحزب، حيث شكك بهذا التعهد بعدم اللجوء إلى العنف. ويؤكد نواز على أن الهدف الرئيسي للحركة ضمن اعترافها الداخلي يتمثل في إقامة الخلافة عبر الانقلاب في بلد معين، ومن ثم شن حرب ضد الدول الإسلامية التي ترفض الانضمام إلى راية الخلافة طواعية. وتحقيقاً لهذه الغاية، يحث الحزب أعضاءه على الانخراط في القوات المسلحة في البلاد للتحضير من أجل الانقلاب، في حين ينشط أعضاء آخرون في الوعظ السلمي لأبناء المدينة. وفي الوقت نفسه، يقول نواز إن الأثر المباشر للحزب، وخاصة في الديمقراطيات مثل الدنمارك وبريطانيا هو تشجيع للمسلمين على تمضية الوقت واللغو في أحلام الخلافة، بدلاً من الربح من المشاركة في النظام السياسي المحلي بشكل مؤثر.59

لا يشكل حزب التحرير حالياً خطراً وشيكاً على الإسلام أو الحضارة الغربية، ولا يمكن وصفه بالظاهرة المنعزلة كذلك. وبين الجماعات الإسلامية الأصولية نمت فكرة إعادة الخلافة بشكل كبير مع مرور الوقت. وجماعة الإخوان المسلمين الأكثر تأثيراً تدعو منذ التأسيس عام 1928 إلى استعادة الخلافة بشكل رسمي، لكنها لم تتخذ خطوات حقيقية بهذا الاتجاه. ويميل الإخوان المسلمون إلى الاعتقاد أن غياب الوحدة الإسلامية الحقيقة على الأرض يحول دون تحقيق حلم الخلافة. وعليه فقد ركز الإخوان على حشد وتوحيد المسلمين ضمن حدود ونظم سياسية معينة بدلاً من إقامة الخلافة.60 وهناك أيضاً عالم إسلامي مشهور نشأ في أواسط العشرينيات أيضاً –المودودي- والذي استند في كلامه إلى الخلافة على اعتبار أنها مجاز شكلي من أشكال الحكومة، والتي تعكس إرادة الله بدلاً من أي مؤسسة ملموسة بحد ذاتها.61 اما أسامة بن لادن فقد قال بضرورة استعادة الخلافة، لكنه رفض تقديم أي تفاصيل حول عملية الاستعادة هذه، موضحاً أنها تعتمد على “إذن من الله”.62 وتحدث ابن لادن أيضاً عن مجلس المسلمين الذي يجب أن يجتمع في مكان غير معلوم، وبعيداً عن الأنظمة القمعية وغير الشرعية الحاكمة بهدف انتخاب حاكم من شأنه أن يقود المسلمين في الجهاد. ومع ذلك تبقى تفاصيل هذا الاقتراح وعلاقته بالخلافة التقليدية غامضة للغاية.63 ومؤخراً ظهرت داعش، وهي الجماعة الجهادية الأولى التي تأخذ مسألة إحياء الخلافة بعنف إلى هذا الحد دون الأخذ بعين الاعتبار الاتفاق البشري عليها، ولا الفوائد المترتبة منها. ولا يمكن النظر إلى هذه التطورات بأنها حدثت من فراغ، إذ يظهر أحد استطلاعات الرأي في عام 2007 تفضيل ثلثي المسلمين استعادة الخلافة من حيث المبدأ.64

يظهر نواز تمنياته بانقراض الجماعات المتشددة كحزب التحرير تماماً كما حدث مع الشيوعية في القرن الماضي، وفي ربط بين المفاهيم غير المرنة والمفاهيم القادرة على التكيف في المجتمع الإسلامي، يبدي نواز امتعاضه من الحزب في هذه الناحية. ومع ذلك، نظن هنا في البحث أن التوق الإسلامي للخلافة يملك جذوراً أعمق في المجتمعات الإسلامية من تلك الجذور التي تملكتها الشيوعية سابقاً في الصين أو روسيا. وكانت الشيوعية عبارة عن استيراد غربي مع قليل من الجذور التاريخية في الثقافة الروسية أو الصينية، وانهارت الشيوعية مرة واحدة إثر فشلها في تحقيق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التي وعدت بها. في المقابل، يأتي وجود الخلافة عند المسلمين من إجماع لاهوتي وسياسي إسلامي منذ أكثر من ألف سنة. فحتى المؤرخ العقلاني الكبير ابن خلدون، رفض الطعن في هذا الإجماع، في حين يعتقد الشاعر الحداثي إقبال أنه لا يمكن كسر الإجماع القديم إلا بإجماع آخر جديد يعكس على نحو أفضل أصول روح المساواة في الإسلام.

وكما تحل الذكرى المئوية على هدم الخلافة، تبقى الأسئلة المحيطة نفسها ثابتة منذ ذلك الوقت. حاول ابن خلدون كثيراً التوفيق بين المجتمع المسلم والخلافة الرمزية إلى حد كبير في وقته، لكن مع عدم قيام الخلافة في الوقت الحالي فمن الصعب أن نرى تكراراً لهذه الجهود دون وجود الخلافة الأساسية المستوعبة لهذه التطلعات. فيما فشلت جهود إقبال وعبد الرازق في إقناع عامة المسلمين بأن الخلافة ثمرة خبيثة من ثمار الليبرالية، بدلاً من كونها جزءاً أصيلاً من الدين. ويبدو أيضاً أن إقبال المسلمين على حكم عصبة الأمم المسلمة أو الجمهوريات المسلمة صعب المنال أيضاً. وبطبيعة الحال لا بد لأي استعادة –أو لنقل محاولة استعادة– للخلافة أن تكون فعالة بشكل كبير وتحظى بقبول عال لدى الغالبية العظمى من المسلمين. وفي سياق الاضطرابات في القرن الماضي، فقد كان أي نوع من أنواع التوافق بين المسلمين حول موضوع الخلافة يتمزق بشكل يصعب إعادة تشكيله بعدها. وساهم هذا في غياب مقلق للشرعية السياسية والدينية، والتي ظهرت كثيراً في الفصل المتكرر بين الجماعات الإسلامية الحديثة والجماعات الإسلامية القائمة، وتغيير تعريفات الجاهلية والكفر والطاغوت. ومن أجل ملء هذا الفراغ، ازدهرت الكثير من الأيديولوجيات وحاولت اختراع تفسيرات جديدة للإسلام الكلاسيكي وفق مفاهيم مأخوذة من السياسة الحديثة والشمولية، ويمكن النظر إليها على أنها الإصدارات المعاصرة في السياسة الإسلامية. تتشابه كثير من هذه الأيدولوجيات مع الأيديولوجيات التي ظهرت في الأندلس إبان غياب حكم الخليفة الواحد وتتشابه بعضها أيضاً مع التفسيرات القديمة في إباحة إراقة الدماء وإسقاط الحكومات القائمة.

من الممكن أن تشكل الهزيمة المدمرة لداعش حداً لمحاولات استعادة الخلافة مستقبلاً، لكن هذا الخيار يجب أن لا يعول عليه، ويبدو أن الحركات الإسلامية متنوعة للغاية في أهدافها وطرقها وأماكنها وهو ما يجعل فشل واحدة منها فرصة للأخرى لإثبات صدق نظريتها أو المحاولة مجدداً. هذا بالإضافة إلى العوامل التاريخية والدينية والسياسية التي ساهمت في غرس الحنين إلى الخلافة بشكل كبير وغير قابل للانتزاع. وهنا أنا لا أشكك بفشل أو نجاح الحركات في استعادة الخلافة، لكني أؤكد أن مجرد طموح هذه الحركات لاستعادة الخلافة وتحقيق هذا الهدف لن يختفي خلال الوقت القريب.

1 Ibn Khaldūn. The Muqaddimah. Trans. Franz Rosenthal. Princeton: Princeton University Press, 1958, 3.23, vol. 1, p. 387. In Arabic. Muqaddima. Casablanca: al-Dār al-Bayḍāʼ: Khizānat Ibn Khaldūn, Bayt al-Funūn wa-al-ʻUlūm wa-al-Ādāb, 2005, Vol. 1, pp. 327-328

2 Ibid, 3.26, vol. 1, p. 427 (Ar. vol. 1, p. 355), 3.29, vol. 1, p. 465 (Ar. vol. 1, p. 381)

3 Ibid., 3.24, vol. 1, 399-401 (Ar. vol. 1, 335-37)

4 Ibid, 3.51, vol. 2, p. 156 ff. (Ar. vol. 2, 124 ff.)

5 Ibid, 3.24, vol. 1, pp. 389-92 (Ar. vol. 1, pp. 330-31). Ibn Khaldūn begins by invoking both divine law and consensus, but in the refrain mentions only the latter.

6 Pankhurst, Reza. The Inevitable Caliphate. London: Hurst & Company, 2013, pp. 17-19

7 Ibn Khaldūn, 3.29, vol. 1, pp. 448-49 (Ar. vol. 1, pp. 370), 3.31, vol. 1, p. 473 (Ar. vol. 1, p. 388).

8 Ibid 3.23, vol. 1, pp. 385-86 (Ar. vol. 1, pp. 326-27)

9 Ibid, 3.29, vol. 1, p. 449 (Ar. vol. 1, p. 370)

10 Ibid, 3.24, vol. 1, pp. 396-402 (Ar. vol. 1, pp. 334-37)

11 Ibid, 3.24, vol. 1, pp. 392-94 (Ar. vol. 1, p. 332), cf. 3.30, vol. 1, p. 468 (Ar. vol. 1, p. 384)

12 Ibid, 3.23, vol. 1, p. 388 (Ar. vol. 1, p. 328), 3.24, vol. 1, p. 388 (Ar. vol. 1, p. 329), 3.29, vol. 1, p. 448 (Ar. vol. 1, p. 370)

13 Ibid, 3.30, vol. 1, pp. 471-72 (Ar. vol. 1, p. 386)

14 Ibid, 3.30, vol. 1, p. 472 (Ar. vol. 1, pp. 386-87)

15 Ibid, 3.30, vol. 1, pp. 471 (Ar. vol. 1, p. 386)

16 Ibid, Introduction, vol. 1, pp. 53-54 (Ar. vol. 1, pp. 38-39)

17 Ibid, 3.9, vol. 1, 335 (Ar. vol. 1, p. 279), 3.32, vol. 2, p. 45 (Ar. vol. 2, p. 33)

18 al-Rāziq, ‘Ali ‘Abd. al-Islām wa-Usūl al-Ḥukm. Baghdād: Dār al-Mada lil-Thiqāfa wa-an-Nashr, 2004, p. 11, 14, 19, 28, 32, 34, 45, 46, 50, 73. Riḍā, Rashīd. 1988. al-Khilāfa. al-Zuhrā’ lil-Ā’lām al-‘Arabi. al-Qāhira, pp. 149-52. Iqbal, Muhammad. Reconstruction of Religious Thought in Islam. Stanford: Stanford University Press, 2012.

19 Iqbal. Reconstruction, pp. 125-26. The term “Imām” is used by Iqbal as a synonym for Caliph.

20 Iqbal, Muhammad. Speeches, Writings, and Statements of Iqbal. Ed. Latif Ahmad Sherwani. New Delhi: Adam Publishers and Distributors, 2015, pp. 145-46, 152

21 Iqbal, Reconstruction, p. 125

22 Iqbal, Speeches, pp. 152-53, 234-35

23 al- Rāziq, pp. 27-28, 32-33, 63

24 Iqbal, Reconstruction, pp. 125-26

25 Ibid, p. 125

26 Ibid, p. 125, 137-140

27 Demystifying the Caliphate, eds. Madawi al-Rasheed, Carool Kersten, and Marat Shterin. London: Hurst and Company, 2013, p. 6, p. 53

28 Iqbal, Reconstruction, 125. Iqbal claims that Ibn Khaldūn ascribed the notion of expediency to the Mutazilites, but this too is plainly inaccurate. Ibn Khaldūn criticized the Mutazilites, along with the Kharijites, for dogmatically denying the necessity of the Caliphate. See Ibn Khaldun, 3.24, vol. 1, pp. 390-91 (Ar. vol. 1, pp. 330-31). Iqbal, in contrast to Ibn Khaldun, distinguishes Mutazilite from Kharijite views (Iqbal,Reconstruction, p. 125).

29 See, for example, Demystifying the Caliphate, pp. 43-44. In the Reconstruction, Iqbal emphasizes the role of the Grand National Assembly in disbanding the Caliphate (p. 124), but in a later writing he acknowledges that the major responsibility lies with Ataturk himself (Iqbal, Speeches, p. 234).

30 Iqbal, Reconstruction, p. 138

31 Ibid, p. 126

32 Iqbal, Reconstruction, p. 117, 129, 131, 134. Iqbal, Speeches, pp. 116-17

33 Iqbal, Speeches, p. 232

34 Ibid, p. 238

35 Ibid, p. 239

36 For a long list of stillborn or ineffectual projects, see Landau, Jacob. The Politics of Pan-Islam. Oxford: Clarendon Press, 1994, pp. 267 ff.

37 “This is the Promise of Allah,” Al-Hayat Media (ISIS),https://ia902505.us.archive.org/28/items/poa_25984/EN.pdf (Ar.https://thabat111.wordpress.com/2014/06/29/كلمة-وتفريغ-هذا-وعد-الله-إعلان-قيام-ال/)

38 Qaradawi’s views are discussed in a recent issue of this journal. See Barnhard, Gavi. “The Patient Preacher: Yusuf al-Qaradawi’s Long Game.” Current Trends in Islamist Ideology, March 2015.

39 For a summary, see Demystifying the Caliphate, 48-51. For a detailed account of these conferences, and methodical disentanglement of the disagreements that doomed them from the start, see Kramer, Martin. Islam Assembled: The Advent of the Muslim Congresses. New York: Columbia University Press, 1986, pp. 80-122

40 Riḍā, pp.81-86. In a somewhat ironical historical twist, the Caliphate finally has been brought to Mosul–by ISIS.

41 Arnold, Thomas. The Caliphate. London: Routledge & Kegan Paul Ltd., 1966, p. 182

42 Haim, Sylvia G. Concluding chapter to Arnold, p. 244

43 Taji-Farouki, Suha. A Fundamental Quest: Ḥizb al-Taḥrīr and the Search for the Islamic Caliphate. London: Grey Seal, 1996, pp. 37-45

44 Nabhānī, Taqī al-Dīn. al-Khilāfa. Qāhira: al-Zuhrā’ li-a’lām al-‘Arabi, 1966, pp. 3-12

45 See al-Rāziq, pp. 20-23. Nabhānī regularly glosses terms such as “oath of allegiance” (bay‘a) in the ḥadīth and “those in authority” (awwala al-amr) in the Qur’ān as referring to the Caliph, an inference that al-Rāziq denies (cf. Nabhānī, p. 4, p. 8 with al-Rāziq, p. 20, p. 22).

46 For an English translation, see Taji-Farouki, pp. 193-218

47 Taji-Farouki, pp. 90-105

48 Ibid, pp. 105-07

49 Karagiannis, Emmanuel. Political Islam in Central Asia: The Challenge of Hizb ut-Tahrir. New York: Routledge, 2010, p. 58, cf. pp. 58-72. See also Naumkin, Vitaly V. Radical Islam in Central Asia: Between Pen and Rifle. Lanham: Rowman and Littlefield, 2005, pp. 139-94.

50 Naumkin, p. 54

51 Karagiannis, p. 71

52 For the early history of the party in Britain, see Taji-Farouki, pp. 171-87. The party’s activities in Britain have been subject to an extensive analysis in this journal: Ahmed, Houriyya and Stuart, Hannah. “Profile: Hizb ut-Tahrir in the UK.” Current Trends in Islamist Ideology, vol. 10, pp. 143-72. available athttp://www.hudson.org/content/researchattachments/attachment/1293/ahmed_stuart.pdf

53 Ahmed and Stuart, p. 157, cf. pp. 150-57

54 Demystifying the Caliphate, p. 192, p. 195

55 Ibid, p. 197

56 Ibid, p. 192

57 Taji-Farouki, pp. 109-10

58 For example, see Naumkin, pp. 153-58

59 Nawaz, Majid, and Masieh, Dawud. Explaining Hizb ut-Tahrir. 3 video discs. London: Quillam Foundation, 2008. Nawaz’s fellow prisoner in Egypt, Reza Pankhurst, remained a member of Ḩizb il-Taḥrīr upon his return to Britain, and has now published a book on the modern struggle for the Caliphate, cited in n. 6 above. It strikes me as an interesting mixture of genuine scholarship, mild apologetics for Ḥizb al-Taḥrīr, and virulent rants against American and British foreign policy, which for reasons explained earlier have become characteristic of the party in Britain.

60 Demystifying the Caliphate, pp. 127-28, 137-38

61 Ibid, pp. 91-92

62 Bin Laden, Osama. 2005. Messages to the World. Ed. Bruce Lawrence. Trans. James Howarth. Verso: New York, p. 121

63 Ibid, pp. 229-30

64 Pankhurst, p. 2

ضع تعليقاَ