Dosyanın Türkçe PDF’ine erişmek için tıklayınız
مدخل
في عام 2015 حدد “مركز إدراك للدراسات” السيناريوهات المحتملة للمشهد السوري بناء على مجموعة من اللقاءات والورش والأوراق التي تم إعدادها لهذا الغرض، وانتهت الدراسة إلى تحديد مسارات(سيناريوهات) معينة -مرتبطة ومتداخلة ببعضها البعض- يمكن أن يمر بها المشهد السوري على المدى القريب والمتوسط (المدى المنظور)،
واستناداً إلى “حالة الاشتباك” كعامل أساس لتقييم المشهد السوري و التنبؤ بمآلاته، تم تحديد 5 مآلات رئيسية لهذه المسارات(السيناريوهات) على المدى المدى المنظور.
خلال السنوات الماضية تم اختبار هذه المآلات المحتملة والسيناريوهات عدة مرات، ولم تظهر مآلات أو سيناريوهات فعلية مختلفة عما تم تحديده منذ ذلك الحين، ولكن تظهر باستمرار مستجدات وتحولات دولية وإقليمية ومحلية تلقي بظلالها بدرجة ما على المشهد السوري ويكون لها أثر -بنسبة ما- على تغلب مسار على غيره أو على فرص حدوث مآل معين دون غيره.
وهذا يستلزم تقييم المشهد السوري باستمرار، ومتابعة أثر التطورات والمعطيات السياسية والأمنية الخارجية والداخلية، وما يتبعهما أو يرتبط بها من آثار اقتصادية واجتماعية، وتداعيات ذلك كله على مسارات (سيناريوهات) المشهد السوري و مآلاته المحتملة، وهو ما تناقشه هذه الورقة.
مسارات و مآلات
رغم الدعوات الصريحة لرحيل الأسد في بداية الحراك في 2011 من جانب العديد من الجهات الفاعلة على المستوى الإقليمي والدولي، إلا أنّ التدخلات الدولية العملية التي يمكن أن تخدم سيناريو رحيل الأسد كانت شبه معدومة، والفاعل الوحيد الذي كان ولا زال ينافح دون بقاء الأسد في السلطة هو الفاعل المحلي (الثائر السوري).
بعد عام 2013 بدأ الفواعل الدوليون (الولايات المتحدة تحديداً) يميلون لفكرة التعامل مع نظام بشار الأسد وتطويعه بدلاً من استبداله، لأسباب عديدة أبرزها: الإصرار الروسي الذي ترجمته روسيا لاحقاً إلى تدخل روسي عسكري كبير إلى جانب النظام، منذ ذلك الحين أصبح سيناريو التغلب الكامل على النظام احتمالاً غير مرجح والأمر نفسه بالنسبة لسيناريو التغلب الكامل للنظام على المعارضة.
مع ذلك ورغم أن احتمالية التغلب الكامل لأحد الطرفين على الآخر لم تعد كبيرة بل وباتت شبه مستحيلة في المدى المنظور على الأقل، ولكنّ حالة المواجهة استمرت بل وتطورت إلى حد أنها كادت أن تتحول في أكثر من مناسبة إلى مواجهة مباشرة بين القوى الدولية الداعمة للأطراف المتنازعة، وهو ما بلغ أوجه في معركة درع الربيع (27 شباط/فبراير – 6 آذار/مارس 2020).
التبعات الإنسانية والأمنية لتطورات الأوضاع في سوريا واحتمالية اندلاع مواجهة مباشرة بين أطراف دولية وإقليمية قد تفتح الباب أمام حرب عالمية جديدة، كان أحد المبررات الأساسية -من ضمن أسباب أخرى عديدة- لموافقة المجتمع الدولي على تمرير الاتفاقات الثنائية والثلاثية التركية الروسية والتركية الروسية الإيرانية ضمن مساري أستانا وسوتشي وهوامشهما، والتي كان من نواتجها تحديد مناطق خفض التصعيد، ورسم الحدود بين الأطراف المتنازعة، وتصنيف المجموعات على الأرض إلى إرهابية وغير إرهابية، وفتح المجال أمام آلية الدوريات المشتركة، والتنسيق المشترك بين دول النفوذ (تركيا، روسيا، الولايات المتحدة، إيران).
وبقدر ما شكلت هذه التفاهمات حالة من الشرعنة الضمنية للنظام وتجاوزاً للقرارات والأعراف الدولية من حيث أنها لم تتطرق إلى تجريم النظام ولم تنص على تنحيته، وأعادت تعريفه كطرفٍ من الأطراف الأخرى -وليس كطرف معاد أو منبوذ على الأقل-، إلا أنها -أي محادثات وتفاهمات سوتشي و أستانا وما يوازيهما أو يلحق بهما- وفرت هامشاً معيناً من الوقت والاستقرار في جانب المعارضة على الأرض، وأفسحت المجال أمام فاعلية ميدانية في جانب المعارضة ككل وأعطت الفرصة لإعادة تنظيم صفوف الحراك السوري، وترتيب أوراقه، بعد هزيمة حلب، وما سبقها من نكسات تعرض لها الحراك في سوريا وهو يواجه كلاً من النظام وروسيا وإيران وداعش وقسد، مفرقين أو مجتمعين أحياناً.
باختصار.. واستناداً إلى “حالة الاشتباك” كعامل أساس لتقييم المشهد و التنبؤ بمآلاته في سوريا يمكن تمييز 5 مآلات رئيسية للمشهد السوري على المدى القريب والمتوسط (المدى المنظور)، تتصارع فيما بينها منذ أواسط عام 2014، حيث يعتبر “التقاسم” -وليس التقسيم- هو المآل الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور:
- التغلب الكامل للنظام
- تقسيم سوريا
- انهيار النظام : (النظام البديل)
- التقاسم (سيطرة دول النفوذ) مع استمرار حالة الاشتباك المقيد
- تشارك الجغرافية السورية بين الأطراف المتنازعة ضمن تسوية سياسية
ضمن هذا السيناريو (التقاسم)، تواصل الأطراف المتنازعة في المشهد السوري الاشتباك المسلح مع بعضها البعض في حالة أطلقنا عليها “الاشتباك المقيد” وهي حالة فريدة تستمر بموجبها الأطراف الثلاث الرئيسية (الثوار(المعارضة)، النظام، قسد) ومن خلفها دول النفوذ (الولايات المتحدة، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل)، بالاشتباك مع بعضها البعض، ولكن وفق قواعد وحدود رسمتها بالدرجة الأساس تفاهمات دول النفوذ، و بدرجة أقل قدرات وتشكلات الأطراف السورية، ثم تدخلات الدول الأخرى المعنية بالشأن السوري بحكم معاناتها من تبعاته (أوروبا والمحيط العربي)،
“الوضع الراهن” أمام مفترق طرق
في نهاية عام 2021 تصاعدت المؤشرات حول التوصل إلى تهدئة كاملة في سوريا، ولكن هذا يتطلب إرضاء روسيا وإيران -أو أحدهما على الأقل- بينما لا يشي سلوك هاتين الدولتين بالذات برغبتهما بالخروج من حالة الاشتباك المقيد هذه الآن، وعلى العكس من ذلك فإن التصعيد الروسي من وقت لآخر، وإصرار إيران على تواجد ميليشياتها ودخولها في اشتباكات مع فصائل المعارضة، كل هذا دائماً ما كان يرفع من احتمالية العودة إلى مربع الاشتباك الواسع، من جهة أخرى فلا يبدو أنه سيكون من السهل الخروج من حالة الاشتباك المقيد هذه حتى تكشف الولايات المتحدة عن نواياها وتوجهاتها الحقيقة بخصوص سوريا، وهو ما تربطه الولايات المتحدة بملفات أخرى تعمل عليها على المستوى الإقليمي والدولي -مثل الاتفاق النووي مع إيران و تموضعات روسيا بعد الغزو لأوكرانيا و تموضع تركيا في هذا كله إلى جانب الولايات المتحدة والغرب-.
مع ذلك وطبقاً للمعطيات الحالية فيمكن القول أن حالة “الاشتباك المقيد” التي هي جزء من توصيف “الوضع الراهن” قد تكون في هذه المرحلة أمام مفترق طرق:
حيث تتصاعد المؤشرات حول احتمالية انتقال جزء من تبعات الصراع في أوكرانيا إلى سوريا -وهو ما نجحت تركيا بالحيلولة دون حدوثه حتى الآن بشكل كبير-، ولو حصل فقد يعني تصاعد حالة الاشتباك وتطورها في سوريا إلى حالة اشتباك واسعة(انهيار الوضع القائم)، أو قد يكون المبرر لتحرك تركي واسع ينتهي بسيطرة المعارضة/تركيا على مساحات إضافية من شمال وشمال شرق سوريا، ويفرض وقف إطلاق نار حقيقي في سوريا، أو في شمالها على الأقل.
ففي مقابل تصاعد احتمالات انهيار التهدئة، تتصاعد أيضاً احتمالات الانتقال من حالة “الاشتباك المقيد” إلى حالة “التهدئة الواسعة” -على مستوى منطقة شمال وشرق سوريا على الأقل-، ويأتي هذا مدفوعاً بـ:
- إعلان تركيا نيتها القيام بعملية جديدة في سوريا تستكمل فيها بسط السيطرة على مناطق معينة في الشمال والشرق في سوريا تمثل جيوباً لقسد (منبج، مثلث تل رفعت، رأس العين، وغيرها)،
- موافقة الأوربيين والروس ضمناً أو رسمياً على خطة تركيا التي تقضي بعودة مليون ونصف سوريا إلى المناطق المحررة،
- محادثات بين تركيا والنظام حول تنظيم العلاقة بين الطرفين والتعاون الأمني والتهدئة الشاملة.
- تراجع عدد الهجمات والغارات الروسية في الشمال السوري إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات.
- بعض الإشارات الإيجابية -إلى حد ما- التي أظهرتها روسيا تجاه العملية العسكرية التركية، حيث أبدت تفهمها لدوافع وأهداف العملية.
بينما يعزز احتمالية انهيار التهدئة نزوع كل من (الولايات المتحدة، إيران، إسرائيل، روسيا) للاستمرار في استخدام الأراضي السورية لفرض أجنداتها وتصفية حسابات وموازنات دولية معقدة.
عموماً وفي حال تم التوصل بطريقة ما إلى حالة تهدئة حقيقية في سوريا وفي منطقة الشمال تحديداً، فهذا سيفتح الباب واسعاً أمام المضي في مسار اللامركزية الجزئية أو الكاملة، ولأول مرة منذ بدء الأحداث في سوريا 2011 قد نكون أمام فرصة لإحداث تقدم ملموس في مجال الحوكمة والاستثمار والتعافي الاقتصادي والأمني وإعادة الإعمار وإصلاح البنية التحتية في مناطق الشمال السوري، وهو ما يمكن أن يمهد لاحقاً إلى عودة فعلية لأعداد كبيرة من المهجرين السوريين إلى سوريا.
علماً أنه وضمن المعطيات الحالية فإن تثبيت الوضع الراهن والتوصل لحالة تهدئة أوسع من الحالي يمكن أن يمر من أحد أو كل هذه المسارات:
- اتفاق تركي مع النظام يثبت الوضع الراهن ويحيد قسد ويوقف تحركات النظام العسكرية باتجاه مناطق المعارضة، وهذا المسار يواجه تعنتاً إيرانياً بالدرجة الأساس، بينما يبدو أن روسيا باتت أكثر مرونة، خصوصاً وأنها استضافت أكثر من مرة محادثات تركيا – النظام.
- اتفاق دول النفوذ على توسيع حالة خفض التصعيد وتوسيع وشمل المناطق المتنازع عليها حالياً (جيب “تل رفعت”، “عندان”، “منغ” في الشمال، وشرق وغرب تل أبيض في الشمال الشرقي)، وهذا المسار يواجه معارضة أمريكية بالدرجة الأساس بالإضافة إلى عوائق أخرى.
- فرض التهدئة بعملية عسكرية تركية جديدة على غرار العمليات السابقة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) وتقوم بموجبها باستكمال سيطرة المعارضة/تركيا على الشمال السوري شرق الفرات وغربه ويقضي على الممرات والجيوب التابعة للميليشيات الانفصالية ويدفعها للإنكفاء، وهو ما تصرح تركيا بأنها عازمة على المضي به.
تطورات وتحولات سياسية وأمنية/عسكرية
فيما يلي أبرز التطورات والتحولات التي طرأت في المشهد الدولي أو المحلي، وتلقي بظلالها على مسار المسألة السورية والمآلات المحتملة وتضع المشهد السوري أمام “تثبيت الوضع الراهن” أو “انهيار الوضع القائم” وانتقاله إلى وضع جديد أقل أو أكثر استقراراً لصالح هذا الطرف أو ذاك:
1. تصاعد الاشتباكات بين قسد والجيش الوطني/تركيا
في الوقت الذي سجلت فيه الأشهر الماضية انخفاضاً واضحاً في معدلات الاشتباك مع النظام وحليفه الروسي والإيراني، تشهد معدلات الاشتباك مع قسد تصاعداً واضحاً سواء منها تلك التي تدور بين قسد والجيش الوطني أو التي تدور بين قسد والجيش التركي بشكل مباشر، حيث سجلت قاعدة بيانات الأحداث السورية (TEI) في الفترة ما بين (بداية كانون الثاني 2022 – نهاية أيار 2022)، ما يزيد عن 450 حدثاً مسلحاً بين قسد والجيش الوطني/الجيش التركي، أي بمعدل 90 عمل مسلح لكل شهر، هذا التصاعد في حجم حالة الاشتباك يأتي نتيجة الهجمات التي تمارسها قسد على مناطق المعارضة وعلى المناطق الحدودية التركية أحياناً وهي مرتبطة بشكل مباشر بعدة عوامل أبرزها:
- الدعم الأمريكي لقسد وما يسمى بـ “الإدارة الذاتية” ومدّها بالعتاد والسلاح والتدريب والمستشارين الإداريين والعسكريين وإضفاء الشرعية على تحركاتها وتحركات قيادات هذه الميليشيات، ودعوتهم للمحافل الدولية.
- الاتفاقات والتفاهمات (التركية – الأميركية) و (التركية – الروسية) التي تحدّ من قدرة تركيا والجيش الوطني على التوسع في شرق سوريا وغيرها من المناطق التي تتواجد فيها تشكيلات (PKK/YPG/SDF).
- حاجة هذه التشكيلات باستمرار إلى افتعال حرب أو مواجهة من نوع ما، لضمان وتبرير استمرار دعمها بالمال والسلاح واستمرار فرض الأحكام العرفية على المناطق التي تسيطر عليها، وتعزيز سرديتها المتعلقة بمظلوميتها، وتعميق حالة العداء بين الفئات التي تتبع لها والأطراف الأخرى، بما يقطع الطريق على أي حل نهائي لهذه القضية.
- فشل هذه التشكيلات (PKK/YPG/SDF) وأذرعها بفرض تصوراتها للحل في سوريا أو الانضمام إلى منصات المسار السياسي المعتمد دولياً مثل هيئة التفاوض أو الائتلاف أو اللجنة الدستورية وهو ما سعت إليه حثيثاً عبر ذراعها السياسي (مسد).
- حرص هذه التشكيلات على عدم الاستقرار في المناطق التي انسحبت منها ومحاولتها فرض حالة من التوتر والتصعيد المستمر.
هذا التصعيد في الاشتباكات مع قسد، يرجح إلى حد كبير استمرار حالة الاشتباك المقيد، وإصرار قسد على مشاريعها في الإدارة الذاتية و فرض نفسها كقوة مسيطرة وإدارية عسكرية وأمنية، في منطقة لا تشكل فيها أغلبية عرقية أو سياسية، بالإضافة إلى إفساحها المجال لعناصر حزب العمال وغيرهم من المصنفين على قوائم الإرهاب الدولية والتركية للتواجد في مناطق سيطرتها، كل هذا يقلل من فرص الانتقال من حالة التقاسم إلى التسوية السياسية، إلا في حال توفرت الظروف السياسية الملائمة التي تسمح بتأمين منطقة شرق الفرات واستكمال تحرير مناطق الشمال بما يوقف الهجمات التي تنفذها هذه التشكيلات وربما يفتح المجال أمام وقف إطلاق نار حقيقي ودائم.
2. الغزو الروسي لأوكرانيا
حجم التشابك بين المشهدين السوري والأوكراني لا يدع مجالاً للشك بأن ما يجري في أوكرانيا سيكون له تداعيات على المشهد السوري، حيث تراقب الجيوش الأربعة المتصارعة (الولايات المتحدة، وإسرائيل، وتركيا، وإيران) ما يمكن أن يؤول إليه وضع الطرف الخامس (روسيا) الذي لم يتمكن من الاستمرار في لعبة “عض الأصابع” مع الولايات المتحدة، وقرر المضي في مسار “اللاعودة” عبر شن عمليات عسكرية ضخمة شرقي أوروبا.
في بداية الحرب الأوكرانية كانت المعطيات تشير إلى رغبة كل الأطراف -بما فيها إيران- إلى تثبيت الوضع الراهن في سوريا، على اعتبار أن اشتعال جبهات سوريا في هذا الظرف المعقد لن يكون في صالح أحد، فإيران تستعد لتوقيع اتفاق نووي جديد وتسعى لعقد اتفاق اقتصادي واسع بخصوص النفط والغاز مع الغرب، وتركيا تلعب دوراً دبلوماسياً معقداً بين الغرب وروسيا وأوكرانيا لن يكون من السهل الاستمرار فيه بينما جيشها يخوض معركة مع روسيا وإيران على الأرض، والولايات المتحدة تصنف الوضع الحالي في سوريا على أنه حالة استنزاف للقوات الروسية في “المستنقع السوري” وفي نفس الوقت مساحة ملائمة جداً -بالنسبة للولايات المتحدة- لمشاهدة واختبار القدرات الروسية، وفي نفس الوقت هي مساحة مفتوحة أمام إسرائيل لشن الهجمات ضد المجموعات الإيرانية بالتوافق مع موسكو.
ولكن مؤخراً برزت تطورات جديدة في مقدمتها التغيرات العميقة في بنية المنظومة الاستخباراتية الغربية، وتضييق الخناق بشكل كبير على روسيا بعد أن عانت من خيبتي أمل الأولى تتعلق بموقف بكين والثانية بموقف طهران، وانسحاب واشنطن من غرفة التنسيق بشأن سورية مما يؤشر إلى انهيار تفاهمات كيري-لافروف، وتهديد روسيا بالانسحاب من سوريا تلميحاً إلى تسليمها لإيران والعودة بها لمربع الحرب الواسعة والفوضى،
هذه التحولات وغيرها التي برزت مؤخراً تؤشر بوضوح إلى أن سياسية “المحافظة على الوضع الراهن” في سوريا أصبحت مهددة، وعلى الرغم من الهدوء الحذر الذي تشهده مختلف الجبهات في سوريا؛ إلا أن تبعات الأزمة الأوكرانية وما لحق بها من تحولات عالمية بدأت تؤثر بشكل واضح على الحالة السورية، وتبعات الحرب هناك بدأت تنتقل إلى سوريا.
ويمكن تتبع أثر الحرب الأوكرانية على المشهد السوري من خلال عدة معطيات أبرزها:
- النظام يلقي بكامل ثقله خلف بوتين
- عودة النفوذ العسكري الإيراني وتوسع دائرة عمل الميليشيات من جديد
- تعطل مسارات التطبيع والانفتاح الدولي على النظام
- انهيار التفاهمات الروسية – الإسرائيلية وتكثيف الهجمات الإسرائيلية في سوريا
2.1 النظام يلقي بكامل ثقله خلف بوتين ويعاني التبعات
أحد أهم أوجه الربط بين المشهدين في أوكرانيا وسوريا يتعلق بالفاعلين الرئيسيين في كل منهما، إذ يتشارك الفاعلية في كلا المشهدين عدد من القوى الدولية في مقدمتها روسيا والولايات المتحدة، وإن اختلفت طبيعة وأدوار بعض هؤلاء الفاعلين فإن ديناميكيات الصراع في أوكرانيا لابد وأن تمتد إلى سوريا بدرجة ما، أما الوجه الآخر للربط بين الحالتين فيتلخص برغبة روسيا في كلتا الحالتين بفرض قواعد جديدة للتعامل مع الغرب بشكل عام وحلف الناتو على وجه التحديد.
هذا التشابه في الفاعلين، والانقسام الذي يشهده العالم اليوم بفعل الحرب في أوكرانيا ينعكس بدوره على الفاعلين السوريين الذين لا يمكن أن ينأوا بأنفسهم عن ما يجري في أوكرانيا، وفي هذا السياق كان النظام في سوريا الطرف الأكثر حماسة واندفاعاً لإظهار اصطفافه إلى جانب راعيه الروسي، حيث عمد بشار الأسد للدفع بكامل ثقله خلف بوتين مؤكداً أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو: “تصحيح للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”، وليعلن بحماسة اعترافه بما أسماه: “سيادة دونيتسك ولوغانسك”، أما المعارضة فلم تتردد على المستويين الرسمي أو الشعبي في إظهار موقفها المستنكر لغزو روسيا لأوكرانيا والداعي لاتخاذ موقف دولي منها، بينما آثرت قوات سوريا الديمقراطية SDF الصمت رغم أنها لطالما وُصفت بالحليف الموثوق للولايات المتحدة، واكتفت ببعض التصريحات من مسؤولين في PKK تؤيد فيها روسيا.
كانت إسرائيل من أوائل الجهات التي أثارت مسألة “تثبيت الوضع الراهن” في سوريا واقترحت تحويلها إلى وضع دائم عبر اتفاق رسمي بين دول النفوذ ترعاه روسيا والولايات المتحدة، حيث عملت إسرائيل من قبل الحرب بشهور على تقديم مقترح بهذا الخصوص للولايات المتحدة وروسيا وعمل منظرون ومحللون لديها بالشراكة مع نظراء لهم في الولايات المتحدة على بلورة دراسة تفصيلية حول ضرورة تثبيت الوضع الراهن في سوريا وان تطلب ذلك تقديم تنازلات لروسيا من طرف الولايات المتحدة من قبيل التعامل بشكل أكثر ندية على مستوى قضايا الشرق الأوسط.
وكما كان متوقعاً فإن تبعات أخرى للحرب الأوكرانية ظهرت مبكراً في المشهد السوري مثل نقص القمح والسكر وبعض المواد الأساسية الأخرى، وهو ما حذى بكل طرف من أطراف النزاع في سوريا للبحث في خياراته لتجاوز النقص الذي يواجهه، ويبدو أنّ النظام هو الأكثر تضرراً بسبب علاقته بروسيا و اصطفافه الحادّ إلى جانبها، وكونه مشمول أصلاً بعدد من العقوبات الأوروبية والأمريكية التي تضيّق خياراته لتجاوز الأزمة.
وجاء إعلان وزارة الخزانة الأمريكية في بيان أصدرته في 12 أيار/مايو 2022، بإعفاء بعض مناطق الشمال السوري من العقوبات المفروضة على سوريا ضمن إطار عقوبات قانون “قيصر”، ليشكل ضربة جديدة للنظام الذي يسعى جاهداً لتجاوز تبعات العقوبات وقطع الطريق على أي نموذج إداري آخر، حيث يمكن أن يفتح قرار الاستثناء، المجال لخريطة سياسية- اقتصادية جديدة ترسمها الإعفاءات الأمريكية في الشمال السوري، في الوقت الذي تتعطل مشاريع الانفتاح على النظام وتدخل حالة التجميد، وتصبح مرهونة إما بانفتاحه على مناطق المعارضة والتوصل لاتفاق للتعامل معها اقتصادياً عبر التفاهم مع أنقرة، أو إظهار مرونة حقيقية في مسار الحل السياسي.
2.2 تعطل مسارات التطبيع والانفتاح العربي على النظام
كنتيجة للعزلة التي تعانيها روسيا، فقد تعطلت معظم آليات النظام في الالتفاف على العقوبات المفروضة عليه، والتي كان معظمها يمر عبر روسيا و أذرعها أو وكلائها حول العالم، كما جمدت مشاريع اقتصادية وأخرى تطبيعية مع النظام بسبب اعتمادها على الدور الروسي، مثل مشروع الغاز العربي الذي تشارك فيه شركة غازبروم الروسية، وجمدت أيضاً مبادرات التطبيع السياسي مع النظام وتردد أصحابها، بعد أن اصطف النظام بضراوة إلى جانب روسيا التي يفرض الغرب عليها تضييقاً اقتصادياً وسياسياً شديدين.
وعلى الرغم مما بذلته بعض الدول العربية للتطبيع غير المشروط مع الأسد؛ إلا أن هنالك شبه إجماع في الدوائر الاستخباراتية العربية على أن العائق الذي يحول دون إعادة النظام إلى الحضن العربي، هو حماقة بشار الأسد، الذي دأب على إهدار الفرص العربية “السخية” لإخراجه من أزماته الاقتصادية ومن عزلته الدولية، ومن ذلك إفشاله المبادرات التي قدمت له في: مسقط(مايو2021)، وعمّان(سبتمبر 2021) وأبو ظبي(مارس 2022)، وإصراره على استفزاز الدول العربية عبر تعزيز علاقاته مع طهران، حيث تزامن تكثيف الانتشار العسكري الإيراني في سوريا مع عودة مدير مكتب الأمن الوطني (المقرب من طهران)، اللواء علي مملوك، إلى الظهور، واجتماعه بكل من: الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والأمين العام للمجلس القومي الإيراني، علي شمخاني (27 شباط/فبراير)، للتباحث بشأن سبل قيام إيران بملئ الفراغ الذي يمكن أن تتركه موسكو في سوريا، وتعزيز التنسيق الأمني بين طهران ودمشق، وتقديم مساعدات اقتصادية ونفطية وغذائية إلى دمشق.
والآن مع تفعيل مسار عودة العلاقات بين تركيا والإمارات وتركيا ومصر وتركيا والسعودية وتركيا وإسرائيل، فإن احتمالية دعم هذه الأطراف للنظام في مواجهة جديدة مع تركيا/المعارضة أصبحت أقل مما كانت عليه بكثير، ونزوع هذه الأطراف نحو قبول النظام بتسوية سياسية أكبر بكثير، وهذا أحد دوافع أنقرة في بدء محادثات جديدة مع النظام الذي لا زال يحج ويطوف حول إيران، الطرف الوحيد الذي يمكن أنه لازال يؤمن بجدوى المواجهة.
2.3 تمدد عسكري/أمني الإيراني
وبقدر ما زادت الأزمة الأوكرانية، من تخندق وتبعية النظام السوري لروسيا أكثر من أي وقت مضى وجعلت روسيا أكثر عناداً وإصراراً على رؤيتها الخاصة، وأكثر رفضاً لأي حل سياسي شامل في سوريا، فإن الضغط والعزلة السياسية المتزايدين على روسيا من طرف المعسكر الغربي دفعتا بروسيا لاستخدام ورقة إيران في الشرق الأوسط وفي سوريا تحديداً لتقض مضجع أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل،
فقد شهدت العلاقات بين النظام وإيران تصاعداً كبيراً في وتيرة التواصلات والزيارات المتبادلة في إشارة إلى تعزيز العلاقات وترسيخ الوجود الإيراني في سوريا، كما قامت روسيا بإخلاء العديد من المواقع وأفسحت المجال للميليشيات الإيرانية بإعادة التمدد في سوريا بعد أن تم تحجيم هذا التمدد في الفترة الماضية تحت وطأة الضغط الإسرائيلي والهجمات المتكررة على المواقع الإيرانية والمطالبات الإقليمية والدولية لروسيا بالحد من الوجود الإيراني في سوريا.
الضوء الأخضر الروسي سمح للحرس الثوري الإيراني بتوسيع دائرة نفوذه في سوريا، عبر نشر 4500 عنصر من ميلشيات: “حزب الله” اللبناني، و”لواء فاطميون”، و”حركة النجباء”، و”عصائب أهل الحق” العراقيين، و”لواء الباقر”، في نحو 120 موقعاً ومقراً في مناطق بريف حمص الشرقي وبادية حماة وبادية الرقة ودير الزور ومحافظة حلب، وتعزيز تلك المواقع بمنصات صواريخ وأسلحة ثقيلة، وطائرات مسيرة، وأجهزة اتصالات، والاستيلاء على مستودعات “مهين” الإستراتيجية شرقي حمص، والسيطرة على مطار “النيرب” العسكري، وذلك في أعقاب إبرام اتفاق مع الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، لإنشاء نحو 11 مقراً قيادياً جديداً، يترأسها ضباط وخبراء عسكريون إيرانيون، في: “حسياء”، و”تدمر”، و”مهين”، و”القريتين”، و”السخنة”، و”الكم”، و”الطيبة”، شرقي حمص، ومناطق: “سلمية”، و”السعن”، و”أثريا”، و”الشيخ هلال”، شرقي حماة.
وتشير المعلومات الأولية إلى انسحاب القوات الروسية من نحو 200 موقع عسكري في عدة مناطق سورية، بينها محافظات حلب وحماة وريف اللاذقية، بما في ذلك مناطق حمص وريف دمشق والقنيطرة ودرعا، فيما تشهد المناطق التي أخلاها الروس حراكاً عسكرياً مكثفاً من قبل الحرس الثوري الإيراني الذي زج بآلاف العناصر من الميلشيات الإيرانية، والعراقية والأفغانية و”حزب الله” اللبناني، لملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الروسي.
هذا التوسع لإيران التي تتبنى استراتيجية للحل في سوريا مفادها: أنّ الحل السياسي يبدأ من عودة الأمور إلى سابق عهدها قبل 2011، يفتح المجال لتصاعد الاشتباكات مع المعارضة وربما حتى مع قسد، ويحفز تركيا بدورها للتحرك وصد أي تقدم محتمل لهذه الميليشيات في المناطق الواقعة تحت إشرافها، ويستفز الموقف الدولي.
ولكن القلق الأكبر من انسحاب القوات الروسية يأتي من طرف الأردن والاحتلال الإسرائيلي، اللذان يستشفان في الانسحاب الروسي وتمدد إيران من جديد في الجبهة الجنوبية، بداية مواجهة عسكرية واسعة.
ولم يكن الانسحاب الروسي من هذه المواقع والسماح لإيران بالتمدد فيها حدثاً سرياً أو صامتاً بل رافقه موقفان مهمان من روسيا الأول: هو التهديد الروسي بالانسحاب من سوريا في شهر نيسان/أبريل 2022، وهو ما قابلته الولايات المتحدة بإعلان انسحابها من غرفة التنسيق بشأن سوريا في إشارة واضحة إلى عدم اكتراثها بالانسحاب الروسي وانهيار تفاهمات التنسيق بين الطرفين (تفاهمات كيري لافروف)، والثاني إعلان روسيا على لسان وزير خارجيتها أن: “عملياتها العسكرية في سوريا قد انتهت ولم يبق لها من مهمة في سوريا سوى حفظ الأمن والاستقرار”، مع التأكيد على أنها موجودة بطلب مما تعتبره السلطة الشرعية في سوريا (النظام).
وفي الوقت الذي يميل فيه المحللون إلى وضع كلا الموقفين أو التصريحين الروسيين في سياق واحد ينطوي على تهديد روسي بترك الساحة للفوضى ولتنافس القوى الإقليمية، ولكن لا يجب إهمال احتمالية أن الموقف الثاني القادم من وزير الخارجية الروسي إنما جاء في سياق مختلف عن الأول وغايته توجيه رسائل إيجابية لتركيا التي نجحت إلى حد ما في كسب المزيد من ثقة الروس على مستوى الأزمة الأوكرانية أو على مستوى الملف السوري خصوصاً بعد انفتاحها على خوض محادثات على مستوى رفيع مع النظام برعاية موسكو، واستعدادها لجعل هذه المحادثات علنية وتوقيع تفاهمات واتفاقيات رسمية.
2.4 تضعضع التفاهمات الروسية – الإسرائيلية
على وقع التململ الروسي من الموقف الإسرائيلي بخصوص الحرب في أوكرانيا، وإفساح روسيا المجال للميليشيات المرتبطة بإيران للتمدد في سوريا، كثفت إسرائيل من ضرباتها الجوية فيما يبدو أنها إرهاصات انهيار التوافقات الإسرائيلية – الروسية حول سوريا، فخلال الفترة الماضية كثف سلاح الجو الإسرائيلي عملياته ضد المواقع الإيرانية في سوريا، بما في ذلك: استهداف مواقع في محيط بلدة “حضر” بريف القنيطرة (11 مايو 2022)، وقصف مخازن أسلحة ومواقع لإيران في منطقة مصياف (13 مايو 2022)، وتدمير شحنة أسلحة إيرانية بميناء طرطوس، واستهداف مواقع أخرى على طريق “وادي العيون” وأخرى بمنطقة “السويدة” في مصياف (14 مايو 2022)، وذلك في أعقاب سلسلة عمليات شملت خمسة مواقع في ريف حماة الغربي (9 أبريل 2022)، طالت محيط كلية الشؤون الإدارية، ومركز البحوث العلمية “معامل الدفاع”، ونقطة عسكرية بمصياف.
يمثل انهيار التوافقات التي نسجتها تل أبيب مع مستشاري الأمن القومي الروسي والأمريكي، أهم تبعات الحرب الأوكرانية على الملف السوري وأعمقها أثراً، حيث تعكف أجهزة الأمن الإسرائيلية على إعادة تقييم مواقفها إزاء الملف السوري في ظل توتر العلاقة بين واشنطن وموسكو، وتستعد لاحتمالية تنصل روسيا رسمياً أو عملياً من التزاماتها الأمنية/العسكرية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
وفي ظل تحول الموقف الأمني الغربي نحو موسكو من الاحتواء إلى المواجهة، وسعي واشنطن وحلفائها لإضعاف روسيا في مناطق نفوذها، تتزايد احتمالات انهيار “الوضع الراهن” في سوريا.
3. استعداد ورغبة تركية بالانفتاح على النظام
تصاعد الحديث بشكل كبير مؤخراً حول محادثات تجري بين تركيا والنظام السوري تتعلق بتنظيم العلاقة بين البلدين وتهدئة الاشتباكات ومعالجة المخاوف الأمنية،
يُعتقد أن تركيا تجد في التموضعات الروسية الإيرانية الجديدة بعد الحرب الأوكرانية ونزوع كل من روسيا وإيران لمعالجة ملفاتهما الخاصة وأوضاعهما الداخلية وحاجة النظام أو رغبته باستعادة بعض استقلاليته، كل هذه العوامل وجدت فيها تركيا فرصة لخوض محادثات مع النظام الذي يسعى جاهداً لتجاوز تبعات تقليص روسيا لنشاطها الميداني في سوريا.
وهو ما أكده موقع “إنتلجنس أونلاين” (2 أيار/مايو 2022) والذي تحدث عن لقاء جمع وفداً من الاستخبارات التركية (MIT) بمسؤولين في “مكتب الأمن القومي” التابع للنظام في 16 أبريل الماضي بالعاصمة الروسية موسكو، حيث تمت مناقشة إمكانية التوصل إلى اتفاق يفضي إلى تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، كما أكدته بعض التصريحات الرسمية التركية.
تشير التقارير إلى أنّ أحد أبرز المواضيع التي تمت مناقشتها تضمنت مخاوف تركيا الأمنية في مناطق نفوذ “قسد”، وأنّ التنسيق الأمني للنظام مع تركيا يمثل رغبة روسيا التي تريد أن تجنب النظام تبعات الصراع في أوكرانيا.
ويمكن تحديد 3 أهداف أساسية من تحركات أنقرة تجاه النظام في هذه الفترة:
- تثبيت الوضع الراهن ومنع انزلاقه الأوضاع في سوريا وفي الشمال السوري تحديداً إلى مواجهة جديدة واسعة، إذ يمكن اعتبار أي اتفاق يتم إبرامه بين تركيا والنظام إقرار بالوضع الراهن، وتمهيد لتطويره وليس انهياره.
- بلورة “تفاهمات” مع النظام للتعامل مع تهديدات “حزب العمال الكردستاني”، وتفكيك مشروع “الإدارة الذاتية” الذي تتبناه “قسد”، فمن الواضح أن النظام لا يمكنه التعامل مع قسد ومشروعها بمفرده وأن الإدارة الذاتية مستمرة في ترسيخ وجودها في شرق سوريا مستفيدة من ضعف قدرة النظام على استيعابها أو مواجهتها، بينما تعتبر تركيا التهديد القادم من شمال شرق سوريا أولوية أساسية.
- تهدئة الجبهة الداخلية التركية التي توترت كثيراً مؤخراً على وقع التجاذبات السياسية التي تستخدم ورقة اللاجئين كعنصر أساسي في هذه التجاذبات.
- فتح منافذ اقتصادية جديدة أمام الشركات والمستثمرين الأتراك وتحريك عجلة العمل والتجارة في المناطق المحررة وهو وتهيئة الأوضاع لإعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى سوريا.
- تهدئة أي مخاوف متبقية لدى روسيا وتوثيق العلاقات معها، إذ تمثل المحادثات مع النظام والتوصل إلى اتفاقيات أو تفاهمات معه أحد أوجه الاعتراف الرسمي به وهو ما تعتبره روسيا ترجمة عملية لتفاهماتها مع تركيا.
4. معطيات أخرى
تتعلق بالوضع الاجتماعي والتعافي الاقتصادي والاستقرار الأمني وحالة اللجوء والنزوح وغيرها من المؤشرات التي تتأرجح باستمرار نتيجة تذبذب الأوضاع في سوريا، هذه المؤشرات -على أهميتها-، ليس منها ما يمكن أن نعتبره عاملاً مهيمناً بحد ذاته يُستند إليه في ترجيح مآل أو سيناريو معين دون غيره، فهي عوامل متأثرة بحالة الاشتباك ومتماهية معها وليست عوامل منفصلة بحد ذاتها يمكن النظر إليها كعوامل محددة لمسار المشهد السوري أو مآلاته.
خلاصة
يشهد العالم تحولات مهمة على المستوى السياسي والأمني/العسكري، وعلى رأسها تحول استراتيجية التعامل بين الغرب وروسيا من الاحتواء إلى المواجهة، والتهديد بانهيار المنظومة الدولية أو إعادة إنتاجها وفق توازنات ومفاهيم جديدة، والتصارع المباشر بين القوى العظمى على الموارد والنفوذ والسيطرة في هذا العالم.
وتنعكس هذه التطورات بدرجات مختلفة على المشهد السوري وتضع سياسة “تثبيت الوضع الراهن” المعمول بها حالياً، أمام مفترق طرق يؤدي أحدها إلى “إنهيار الوضع القائم”، بينما يذهب الآخر باتجاه ترسيخ وقف إطلاق النار والانتقال إلى حالة أكثر استقراراً (على المدى المنظور).
وفي الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة وإسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن وتراه مناسباً لطبيعة التحركات والعمليات التي تقوم بها، تسعى تركيا ليس فقط للحفاظ على الوضع الراهن وإنما تطمح للانتقال إلى حالة استتباب شامل للأمن ووقف إطلاق النار في منطقة الشمال على الأقل، ولا تجد حرجاً في هذا السياق من تطبيع العلاقات أمنياً وحتى اقتصادياً بدرجة ما مع النظام، بينما يبدو أن إيران بالدرجة الأساس وروسيا بدرجة أقل، لا تمانعان استخدام سوريا -مرة أخرى- كمسرح حرب، لاختبار الأسلحة والتكتيكات وتصفية الحسابات وتوجيه الرسائل واستعراض العضلات.
في كل الأحوال سواء تم الحفاظ على الوضع الراهن أو تم الانتقال عنه إلى وضع أكثر أو أقل استقراراً، فإن حالة تقاسم دول النفوذ للمشهد السوري مستمرة، والتي نتج عنها حالة من الفصل والحدود الرسمية بين الأطراف المتنازعة دون التقسيم، تتضمن استمرار وجود ونفوذ القوى الأجنبية وتقاسمها السيطرة على الجغرافيا السورية وتداخلها مع المجتمع المحلي،
قد تدفع المعطيات الجديدة -مثل العملية العسكرية التركية الجديدة والتمدد الإيراني على حساب الانسحاب الروسي المزعوم- إلى تغير في نسب السيطرة وطبيعة علاقة بعض الفواعل المحليين بدول النفوذ وعلاقة دول النفوذ ببعضها البعض، ولكن ليس لدرجة ترجيح مآل أخر على مآل “التقاسم” مثل “إسقاط النظام” أو “التغلب على المعارضة” أو “التوصل لحل سياسي شامل”.
وفيما يخص الوضع الحالي فإن احتمالية انهياره رغم أنها تصاعدت مؤخراً بدفع من روسيا وإيران وقسد (كلٌ حسب تموضعاته وأجنداته) إلا أن الاحتمال الأكثر ترجيحاً والذي تدفع باتجاهه معظم المؤشرات -حتى الآن- لا يزال الحفاظ على الوضع الراهن، مع احتمالية تصاعد أو تراجع حالة الاشتباك ولكن ليس لدرجة انهيار الوضع القائم فعلياً.
وسط كل ذلك يبقى السؤال الصعب هو ذلك السؤال المتعلق بمصير ودور وتمثيل ملايين السوريين في المناطق المحررة وفي دول المهجر واللجوء، ورأيهم في من يحكمهم ويمثلهم وفي المعارك التي يجدون أنفسهم في خضمها من عدمه،
لذلك فإنّ تقدير الموقف بالنسبة للفاعل السوري لا يجب أن ينحصر عند توصيف المشهد وتحديد مساراته واستشراف مآلاته اعتماداً على حالة الاشتباك، أو مراقبة ظروف الوضع الراهن وتحولاته، وإنما يجب أن يتسع ليشمل سؤال الرؤية العملية التي يجب أن يبلورها ويعمل وفقها هذا الفاعل السوري لأخذ دوره في المشهد رغم هذه الموازنات الضخمة والمعقدة،
وتلمّسُ هذه الرؤية يمر من خلال تحديد الأسئلة الأساسية التي يمكن أن تستند عليها أي رؤية عملية للمشهد في سوريا، والإجابة عنها بأكبر قدر ممكن من الدقة والموضوعية.