من الإشكالات التي وقعت فيها الحركة الإسلامية عموما، ـــ والتيار الجهادي خصوصا والسلفي بشكل أعم ـــ… الإغراق في تحليل الأحداث والوقائع التي تجري من حولنا وفق النظرية العقدية أو التفسير العقدي للصراع، ومن هنا تَمَّ تفسير أحداث العقدين الأخيرين ضمن دائرة الحرب على الإسلام، أو الحرب الكبرى وبداية الملاحم… تَسْتَلْهِمُ الحركة الإسلامية ذلك من مضمون قوله تعالى: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم”، ومضمون قوله تعالى: “وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد”… ونحو ذلك من الآيات والأحاديث.
وفي سياق هذا النوع من التفسير يقول سيد قطب: “إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة، إنها ليست معركة سياسية، ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية، ولو كانت شيئا من هذا لسهل وقفها، وسهل حل إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام”.
حتى الحرب الدائرة اليوم بين أهل السنة وإيران ترتاح الحركة الإسلامية إلى تفسيرها ضمن إطار العقيدة، ومن هنا يتم نبش التاريخ، ونفض الغبار عن الكثير من الأقوال بقصد تدعيم هذه القضية، وتأجيجها، واستعمالها كأداة من أدوات الحرب.
لا يعني هذا الكلام أننا نتجاهل الخلافات العقدية مع الآخر، أو أننا نتساهل فيها، ونتجاوزها قصدا لتهميشها، لكن المقصود تحديدا هو الحث للوقوف على حقيقة ما يحدث، وتفسيره بشكل موضوعي، وقراءته ضمن السياق العام والظرف الراهن، بعيدا عن القراءة الانطباعية التي تثيرها مشاعر الإنسان ومكنوناته الداخلية.
المقصود بــ التفسير العقدي وإدارة الصراع
والمراد من “التفسير العقدي” بشكل مُجْمَل تلك القراءة الانطباعية للأحداث، والتي غالبا ما تستند إلى عوامل شعورية ذاتية وجدانية تستقر في نفس الإنسان، أهمها على الإطلاق عامل الدين والعقيدة، فتقدم أطروحات جاهزة وأحكاما مسبقة على الأشياء قبل حدوثها، ما يعني عزل تأثيرات الواقع والظروف المحيطة بالحدث عن مَدْلُوْلِه، بحيث تَتَشَكُّل لدى الباحث قناعات لحظية مبنية على تفسيرات إيديولوجية للأحداث، إلا أنها لا تنطلق من تشخيص الواقع بحسب ما هو عليه، ما يجعلها عرضة للنقد العلمي، فَتَفْقِدُ التفسيرات دقتها وعلميتها وموضوعيتها على مسرح الأحداث المتلاحقة.
هذا فيما يتعلق بــ “التفسير العقدي”، وأما ما يتعلق بــ “إدارة الصراع”، فلا شك أن الصراع قاعدة تاريخية مُطَّرِدَة، وسنة من سنن التدافع التي تعيشها الأفراد والمجتمعات والدول والحضارات، لا يحتاج إثباتها أكثر من قراءة التاريخ ومراقبة الأحداث.
إلا أن مفهوم الصراع في علم الاجتماع هو أقرب ما يكون إلى مجموعة من الأفكار التي تبحث في صراعات الأفراد والمجتمعات انتهاء بصراعات الأمم والحضارات، بينما يختلف مفهوم الصراع عند الحديث في سياق العلاقات الدولية؛ لأنه حينئذ سيكون أقرب إلى مجموعة من الأفكار التي تبحث في تفسير السلوك الخارجي الذي تمارسه الدولة مع محيطها الإقليمي والدولي.
وفي هذا المقال أركز على الحديث عن الصراع من خلال المفهوم الثاني دون الأول؛ ذاك أن ظاهرة الدولة الأممية انحسرت من العالم بشكل تدريجي، لتختفي كليا ـــ كدولة ذات حدود سياسية ـــ بعد الحرب العالمية الأولى، ولتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العالم، تجتمع فيها شظايا الدول الأممية ضمن مؤسسات النظام العالمي الجديد، وبفعل عامل الزمن صار لكل دولة خصوصيتها، إلا بقايا دول ذات طموحات أممية، ما زالت تعيش على وقع أحلام الماضي.
أشكال التفسير للصراع
لا أريد هنا التَّعَمُّقَ في أنواع القراءات التفسيرية للأحداث التي تجري من حولنا، بل أريد أن أسلط عليها الضوء إجمالا؛ لأتمكن لاحقا من الحديث عما أريده في هذا المقال، وهو “التفسير العقدي للصراع”.
ولمعرفة أشكال التفسير للصراع لا نحتاج أكثر من الوقوف على أسباب الصراع التي تدور بين الدول، وإنما خصصت الدول في الحديث دون الأمم والحضارات؛ لأن منشأ الصراع الشمولي بين الأمم والحضارات غالبا ما يأخذ طابع التحدي بين الثقافات والعقائد والأفكار والقيم والمنظومات الأخلاقية… وهو ما تبناه صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington في كتابه “صراع الحضارات” The Clash of Civilizations، حيثُ اعتبر أن أساس الصراع بين الأمم نابع من اختلاف الديانات وتباين الثقافات والحضارات… ونقف إجمالا مع أهم أسباب الصراع بين الدول:
- صراع العقيدة: وهو ما يعبر عنه في المصطلحات المعاصرة بـــ “الصراعات الإيديولوجية”، وينشأ عن تعارض القيم والمعتقدات والمذاهب الدينية والمنظومات الفكرية، وتُعَدُّ العقيدة العنصرَ الأهم في الصراعات الحَادَّة؛ لأنها المُشَغِّل الأساسي للقوة الكامنة عند الإنسان، مع ما لها من القدرة على تعبئة الجماهير وحشد الطاقات للمواجهة.
- صراع الهوية: وهو ما يعبر عنه في المصطلحات المعاصرة بـــ “الصراعات العنصرية”، وصراع الهوية أَعَمُّ وأوسع من صراع العقيدة؛ إذ تدخل فيه صراعات الأجناس والأعراق واللغات والعادات، والتي تُعَدُّ إلى جانب العقيدة أهم المُعَرِّفات التي تُعَرَّف بها الأمم.
- صراع الأرض: وهو ما يبحث ضمن ما يسمى في المصطلحات المعاصرة بــ “الجغرافيا السياسية” geopolitics أو السياسة الطبيعية، والتي يُسأل عنها بـــ ما هو مدى تأثير الظروف الطبيعية من البر والبحر ونحو ذلك على الصراعات الدولية والتفاعلات السياسية.
- صراع الثروة: وغالبا ما ينشأ عن وَفْرَة الثروات والموارد الطبيعية كالمياه والنفط والغاز والثروات المعدنية…الخ عند أحد أطراف الصراع، ويزداد هذا الصراع شراسة كلما كان الطرف المقابل أكثر شُحَّا في الموارد الطبيعية.
- صراع الهيمنة والنفوذ: وغالبا ما ينشأ بين الدول الكبرى التي حققت تقدما تكنولوجيا عالميا، ويكون بدافع السيطرة على المواقع الاستراتيجية في العالم، كالممرات المائية، والمضائق، والبحيرات، والجزر الواقعة في البحار والمحيطات؛ وذلك بهدف تأمين حرية التبادل التجاري بين الدول، وضمان حركة الملاحة البحرية العالمية.
وبالنظر إلى هذه الأنواع من الصراعات نلاحظ أن منها ما يكون صراعا وجوديا عدميا، كصراع العقيدة مثلا، وبدرجة أقل صراع الهوية، والتي تُعَدُّ من أعقد أنواع الصراع وأشدها شراسة؛ لأنها تعتمد أسلوب الإفناء، وتقوم على أساس المواجهة الصفرية، التي عادة ما تنتهي باستنزاف جميع الأطراف… فمثل هذا النوع من الصراع لا يمكن حَلُّه بأي حال، بخلاف بقية الصراعات القائمة على أسباب الثروة والهيمنة والنفوذ؛ فإنها قد تُحَلُّ بجملة من التفاهمات وتقاسم الثروات، وهو ما أشار إلى سهولته سيد قطب رحمه الله.
التفسير العقدي للصراع، بداية الظهور وأسباب الانتشار
ليس المقصود الحديث عن جذور التفسير العقدي للصراع؛ إذ هو جزء أساسي من باب الإيمان، يتصل عَقَدِيَّا بمنظومة الولاء والبراء على جهة الخصوص، ويستند حَرَكِيَّا إلى قاعدة “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”، ومن هنا تَتَشَكَّلُ المنطلقات النظرية في التفكير…
المقصود هنا الوقوف مع بداية ظهور هذا النوع من التفسير، وبروزه كأداة بيد الإسلاميين المُتَصَدِّرِيْنَ للشأن العام، حيثُ أعتقد أن منشأ هذه النظرية، وبداية انتشارها وسيطرتها على عقول الشباب في الحركة الإسلامية يرجع إلى عدة أسباب، منها على سبيل الإجمال:
السبب الأول: انتشار موجة ثقافية جديدة في عالمنا العربي، تختلف جذريا عن الموجات الثقافية والمدارس الفكرية التي كانت بارزة قبل عقود في المنطقة العربية، موجة اندفعت من بلاد الحرمين الشريفين على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وتألقت تحت شعار الدعوة إلى التوحيد وصفاء العقيدة، والتي يُعَدُّ أحد أهم أركانها عقيدة الولاء والبراء، التي امتزجت لاحقا بالفعل السياسي لدى بعض العلماء المُتَصَدِّرين لبحث القضايا الكبرى التي عصفت بالأمة العربية والإسلامية… هذا بلا شك لاقى قبولا أو ركونا للقراءة العقدية أو التفسير العقدي لكل الصراعات الدائرة في المنطقة العربية، والتي يقع في الطرف الآخر منها المخالف في الدين أو المذهب… وقد تكون القفزة المالية التي حققتها دول الخليج العربي خلال العقود الفائتة ساهمت في سيطرة ثقافة من نوع خاص، أو أدت إلى نوع من الهيمنة الفكرية على العالم الإسلامي… تلك القفزة المالية قد تكون لعبت دورا أساسيا في تصدير ثقافة المنطقة، وتعميمها في مناطق أخرى من العالمين العربي والإسلامي… ساعد على ذلك انتشار الفكر القومي العربي في بلاد الشام ومصر، وفي بلاد المغرب العربي بدرجة أقل، مما أفسح المجال للحركة الدينية الناشئة في بلاد الجزيرة العربية أن تسلب قلوب وعقول الشباب المتعطش للفكر الديني… ليس هذا فحسب… بل لو قمنا بإجراء دراسة وإحصاء على مستوى البلاد العربية لوجدنا أن أهم المنابر الإعلامية، وأهم مراكز الأبحاث والدراسات تقع في الخليج العربي، أو ترتبط به ارتباطا عضويا أو ماليا، مما ساهم بحدوث فجوة كبيرة جَرَّاء هذا الاتساع في دائرة التأثير لبلاد الجزيرة العربية في الربع الأخير من القرن، والتي قابلها بلا شك انحسار في دائرة التأثير لبلاد الشام ومصر والعراق… يُضَاف إلى ذلك ما فعلته اﻷنظمة العربية في العراق وسوريا ومصر من الحجر على التيارات والحركات الإسلامية ـــ ولو بنسب متفاوتة ـــ مقابل إفساح المجال للتيارات والأحزاب القومية العربية، وفي مقابل إفساح المجال في الجزيرة العربية لتصاعد التيارات الإسلامية السلفية على جهة الخصوص، بحيثُ لو نظرنا إلى حجم الفارق بين الاتجاهين لعرفنا كيف حصلت الفجوة، واتسعت الهوة.
السبب الثاني: انتشار أفكار سيد قطب رحمه الله تعالى في الخمسينات والستينات حتى الثمانينات، وتأثر التيارات الجهادية ـــ والسلفية الحركية عموما ـــ بأفكاره، وقد سبق أن ذكرنا مقتطفا شديد الوضوح من كلامه… ولا شك أن أفكار سيد ظهرت في جماعة الإخوان المسلمين إلا أنها لم تكن سِمَةً بارزة فيهم، وهذا ما سَهَّلَ لاحقا اندماجهم أو تَكَيُّفَهُم مع المنظومة الدولية، واعتماد أسلوب التغيير من داخل النظام العالمي، ضمن رؤية سياسية واقعية لميزان القوى، بينما التيارات الأخرى ـــ الجهادية خصوصا ـــ لم تستطع الاندماج مع المنظومة الدولية أو التَّكَيُّفَ معها، بل ذهبت أبعد من ذلك، لتخوض معركتها الأممية خارج إطار السنن الكونية، وقد يتساءل البعض: كيف قَدَّمْتَ أثر الثقافة النجدية على ثقافة سيد والإخوان؟ والجواب من شقين:
- الأول: أن التفسير العقدي للصراع صار سِمَة غالبة على التيار الجهادي، أو السلفية الجهادية، التي تُدَعِّمُ نفسها من خلال المنظومة العقدية للدعوة النجدية.
- الثاني: أنه ثَمَّةَ فرق شاسع بين رؤية وفكر وثقافة تتبناها وتنتهجها دولة ذات سيادة ونفوذ، وبين جماعة إصلاحية دعوية فكرية سلوكية تعمل على تغيير المجتمع، وتشق طريقها في اﻷمة بصعوبة، مع عدم وَفْرَة اﻷدوات… يضاف إلى ذلك محاربة واضطهاد مستمر من اﻷنظمة والدول.
السبب الثالث: أن التفسير العقدي للصراع، ينبثق من قراءة سهلة سلسة بسيطة لا تحتاج الكثير من التعقيدات، كما أنها لا تحتاج شريحة نخبوية تناقشها من خلال حوارات فكرية مُعَمَّقَة ومُعَقَّدَة… تفسير ينبثق من قراءة جزئية تستند إلى نصوص شرعية ذات مضامين ودلالات عقدية واضحة، في حين أن القراءات التفسيرية الأخرى تحتاج إلى جهد، وشرح، وبحث، وتنقيب عن المعلومات، واستقصاء للدوافع، وذلك من خلال ربط الحدث في سياقه الزماني والمكاني، مع ملاحظة تأثير البيئة والمناخ الذي وقع فيه الحدث… وبقراءة أكثر عمقا يمكننا الربط بين السببين الأول والثالث، حيث نشأت ظاهرة فكرية جديدة نتيجة تأثر الدعوة النجدية بالمدرسة الظاهرية، ما أدى إلى قصور مناهج البحث، وضعف أدوات الاستنباط وتحليل النصوص، تمهيدا لنشأة علاقة متوترة مع القياس… الشيء الذي قد يشرح أسباب التَّجَمُّد الفكري عند السلفية الجهادية، والذي قد يكون وضع الجذور التمهيدية لنشوء تيارات أخرى أكثر حِدَّة وَتَصَلُّبَا.
سؤال وارد وجواب…
قد يَرِدُ سؤال… ما هو الموقف من تصريحات قادة غربيين تؤكد فكرة التفسير العقدي للصراع؟ والجواب… لقد ذكرت غير مرة أني لا أريد من هذا المقال نفي تأثير الجانب العقدي من الصراع، أو اعتباره سببا هامشيا، وأكدت أنه لا أحد يستطيع نفي ذلك مطلقا، بل إن مُجَرَّد محاولة الالتفاف على هذه القضية تعتبر محاولة للتشكيك بنصوص الوحيين.
ما أردناه من هذا المقال هو لَفْتَ الانتباه إلى البحث في مدى تأثير الجانب العقدي فيما يحدث من حولنا، ومدى كون الحروب الدائرة الآن في المنطقة العربية هي حروب دينية المنشأ، على الأقل في الأسباب القريبة، أما الأسباب التاريخية البعيدة فقد لا تكون حاضرة في ذاكرة الشعوب والدول بشكل دائم، وهو ما ينبغي الانتباه له عند إدارة المعركة وبناء التحالفات.
لن أتجاهل كلمة بوش في 17/ سبتمبر/2001 عندما أعلن “الحملات الصليبية” crusades ، ولن أتجاهل ما قاله يوم 21/سبتمبر/2001 “طريقة حياتنا، حريتنا بذاتها، تعرضت للهجوم” our way of life our very freedom came under attack ، ولن أتجاهل التعبيرات والشعارات الحسينية التي تطلقها الدولة الإيرانية والميليشيات الشيعية التابعة لها، إلا أني أقرأ هذا كله في سياق التحشيد والتعبئة الشعبية لخوض “معركة الطاقة”، بحيث يتم إحداث رأي عام مؤيد للحرب؛ لأنه ليس من السهل تعبئة الشعوب للقتال من أجل النفط والغاز… الشعوب تحتاج إلى العقيدة كي تتحرك؛ فهي عامل الدفع والشحن العاطفي الأقوى تأثيرا لدى البشر.
ماذا يريد بوش من هذه الكلمة؟ هل يخوض بالفعل حربا لأجل الصليب؟ هل يخوض حربا لأجل الدفاع عن حريتهم وطريقتهم في الحياة؟ أم أنه يريد إدخال الشعب الأمريكي في معركة كبيرة، ومواجهة شاملة مع المسلمين “الذين يملكون الطاقة”؟ يبدو لي أنه يريد أن يقول لشعبه في خطاب معلن، وواضح، وصريح، وفَجّ، وعدائي: دعونا نقتل المسلمين لأنهم يهجمون علينا، ويستهدفون طريقتنا في الحياة، إلا أنه بالتأكيد لن يقول لهم الشيء الآخر: وهو أننا “نملك الطاقة”.
نعم هي رسائل دينية بامتياز، لكنها لا تخرج عن سياق حشد وتعبئة الجماهير خلف قرارات تصعيدية قادمة، الهدف منها عقود واستثمارات نفطية عابرة للقارات، هي ليست أكثر من استثمار في الدين لصالح تحقيق أهداف وأغراض أخرى، قد تكون معلنة أو غير معلنة، قد يراها البعض في حين لا يراها البعض الآخر.
حتى لا تَتَشَنَّج… يكفيك أن تعرف هذا…
حتى لا تَتَشَنَّج من هذا الكلام يكفيك التَّعَرُّف على بعض الحقائق التي ذكرها الصحفي الإيرلندي جوزيف كليفورد في جريدة الإيريش تايمز Irish Times بتاريخ 4/فبراير/2003 ، حيث ذكر أن عائلة بوش وأكثر إدارته هم شركاء في تجارة النفط Oilmen ، وأن جورج بوش الأب كان حينها موظفا في شركة نفط عالمية “مجموعة كارلايل” Carlysle Group ، ومندوبها في أوروبا هو جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، كما أنه ليس صدفة أن تكون كوندوليزا رايس مستشارة بوش في ذلك الحين موظفة في شركة شيفرون Chevron النفطية الأمريكية الشهيرة، وليس صدفة أن يكون ديك تشيني نائب بوش حينها هو مدير سابق للشركة النفطية العملاقة هاليبرتون Haliburton ، والتي منحته 34 مليون دولار لقاء مساعدتها بإبرام عقد مع الحكومة العراقية لاستصلاح منشآتها النفطية بعد توقيع اتفاق “النفط مقابل الغذاء” مع الأمم المتحدة منتصفَ التسعينات… كيف يمكن أن نتجاهل أن حكومة طالبان رفضت عام 1999 إعطاء امتياز بناء خط أنابيب Pipeline الذي يمر عبر أفغانستان للشركة النفطية الأمريكية يونوكال Unocal ، وغير هذا الكثير مما ينبغي الوقوف عنده بدقة، وإعلانه لجميع الناس.
لا يمكننا بعد البحث والتفتيش إخراج النفط قبل عقدين أو أكثر من المعركة، كما لا يمكننا إخراج الغاز منها الآن، وكما لا يمكننا إخراج طرق النقل البرية والبحرية والممرات المائية والمضائق منها أيضا… لا بد من وضع هذه الأشياء في مكانها الصحيح على خارطة الصراع.
علينا أن ندرك مكان المال والاقتصاد والشركات العابرة للحدود… الشركات متعددة الجنسيات والنفط والغاز والمياه وغير ذلك… علينا أن ندرك مكانها الصحيح على خارطة الصراع… أعتقد أن هذه الأشياء هي الأهم في الصراعات الدائرة اليوم في المنطقة العربية، ولا أرى العالم المتحضر اليوم يملك القدر الكافي من الالتزام الديني ليقارعنا تحت قُبَّة الدين وراية الصليب.
إنها مشكلة كبيرة جدا أن ينسى أو يتناسى جميعُ الإسلاميين في لحظة الصراع أن أوروبا وأمريكا وروسيا دول علمانية لا دينية، أم أنهم لا يتذكرون ذلك إلا عند مناقشة شكل الدولة والديمقراطية وفلسفة الحكم.
قد يقول قائل: ألم تقرأ عن شخصية بوش الصليبية المتدينة؟ أقول: نعم، قرأت… لكن نحن نتكلم عن سلوك دولة لها مؤسساتها، وليس عن سلوك فرد، وفي هذه الحيثية بوش وغيره من المتدينين الأمريكيين سواء.
الذي أفهمه من واقع الغرب أنه علماني لا ديني بالدرجة الأولى، وهذا على مستوى سلوك الدولة بشكل عام، وعلى مستوى سلوك الفرد بشكل أخص، فإذا نَفَذْنَا إلى عمق المجتمعات الغربية سنجد البعد المسيحي، الذي يمتزج بفكرة العداء للإسلام، كما سنجد البعد الكاثوليكي الذي يمتزج بفكرة العداء للأرثوذكس والبروتستانت، لكن هذه الأبعاد تبقى في حالة خمول بسبب سلوك الدولة العلماني، إلا أنها قد تتغير بسبب سلوك الآخر تجاه هذه المجتمعات، فلا شك أن ارتفاع وتيرة استهداف الغرب دينيا من بعض المسلمين الحمقى قد ينهي هذا الخمول، بينما انحسار الفعل الديني الكاثوليكي ضد الأرثوذكس والبروتستانت قد يزيد من هذا الخمول.
بالتأكيد ما ذكرناه حول الغرب يختلف إلى حد كبير عن الحالة الإيرانية، وذلك لأن إيران كدولة تُعَرِّفُ نفسها من خلال البعد الديني العقدي ـــ ولو بحسب الظاهر ـــ، مما يشكل حالة امتزاج بين البعد المذهبي الشيعي وفكرة العداء لأهل السنة؛ لذلك كان الصراع مع إيران أكثر حِدَّة من الصراع مع الغرب، والحرب في العراق نموذج صارخ على دموية الرافضة مقابل دموية الأمريكان.
إنه الغاز أيها المجاهدون
ولإثارة بحث عملي حول ما تقدم، وفتح ثقب في جدار الاسمنت الذي يحول بين ثورتنا والعالم؛ وليدرك الجميع أن الاقتصار على التفسير العقدي للصراع قد تسبب بإشكالات في إدارة المعركة على المدى القريب، وأثر سلبا على طبيعة خطاب الثورة للعالم، حيثُ اقتصرت في تعريف نفسها على خطاب قيمي أخلاقي ما لبث أن اصطدم بأنابيب النفط والغاز، ليتهاوى على جدار الرأسمالية التي لا تفهم إلا لغة الأرقام والأرصدة والحسابات.
في أوائل التسعينات انشغل العالم بظاهرة الاحتباس الحراري، وتم بالفعل عام 1992 عقب ما سُمِّيَ آنذاك بـــ “قمة الأرض” إقرار اتفاقية “كيوتو” للحد من الانبعاثات الغازية، وفي عام 1994 التزم الاتحاد الأوروبي ـــ ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم ـــ بهذه الاتفاقية، ووقع عليها في عام 1998 ، وفي عام 2009 اكتمل توقيع 183 دولة في العالم عليها، ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك… ليصبح العالم على مشارف عهد جديد يتصدر فيه الغاز قائمة العقود الأعلى والأهم في العالم، منذرا بانحسار تدريجي لعصر الذهب الأسود “النفط”، وبداية عصر جديد للذهب المُسَال “الغاز”، ما جعل روسيا تعيد حساباتها الطاقيَّة لتفكر بالعودة مجددا للمنافسة على إدارة العالم من خلال التحكم بملف الغاز.
لقد أدركت روسيا أن أمريكا لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه إلا عندما أمسكت بزمام النفط في العالم، وبدأت تتحكم بالدول المستهلكة والمنتجة على حد سواء، فإذا أرادت الضغط على الدول المستهلكة كالصين أوعزت لــ “أوبك” برفع الأسعار عبر تخفيض الإنتاج، وإذا أرادت الضغط على الدول المنتجة كروسيا أوعزت لــ “أوبك” بخفض الأسعار عبر زيادة الإنتاج.
هنا بدأت روسيا ببناء استراتيجيتها الجديدة معتمدة على الغاز دون النفط، وذلك باعتبار أنها تملك الاحتياطي الأكبر من الغاز في العالم، يضاف إلى ذلك الاحتياطات الضخمة التي تقع في محيطها الاستراتيجي ـــ إيران وأذربيجان وتركمانستان وأوزباكستان… ـــ
ما حدث فعليا أن بوتين بدأ بناء مشروع عودة روسيا كقطب من خلال تأسيس شركة “غاز بروم” عام 1995، بهدف إحكام السيطرة على الغاز المُسَال بدءا من دول المنشأ، وصولا إلى دول الممر، انتهاء بدول المَصَبِّ… وكانت أوروبا في قائمة الدول التي أراد بوتين توريد الغاز لها، باعتبارها تحتل المركز الثاني في قائمة المناطق الأكثر استهلاكا في العالم بعد أمريكا.
قامت روسيا بإطلاق عدة مشاريع بهذا الهدف، أهمها على الإطلاق اثنان:
- الأول: مشروع الأنبوب الشمالي، والذي يتكفل بإيصال الغاز من شمال روسيا إلى ألمانيا.
- والثاني: مشروع الأنبوب الجنوبي، والذي يتكفل بإيصال الغاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى جنوب أوروبا.
إضافة إلى مشاريع أخرى لن أتوسع بالحديث عنها الآن… إلا أن الغاز القطري الذي يسعى للوصول إلى تركيا وأوروبا عبر “سوريا” كان يقلق بوتين جدا…
قامت الولايات المتحدة الأمريكية باعتماد استراتيجية مضادة للمشروع الروسي، وذلك عبر بناء مشروع خط الغاز “نابوكو”، والذي يعد المشروع المنافس لـــ “غاز بروم”، وهنا تبرز أهمية دور إيران وأذربيجان وقطر والسعودية…الخ في إمداد المشروع الأمريكي، لكن ما لم يكن متوقعا هو ما قامت به روسيا من شراء فائضات الغاز التي في محيطها عبر إبرام عقود كبيرة وآجلة مع الدول المنتجة للغاز في المحيط الروسي، وعلى رأسها تركمانستان وأوزبكستان… الخ، والتي كانت من المفترض أن تغذي المشروع الأمريكي “نابوكو”، مما هَدَّدَ بانهيار المشروع الأمريكي الذي بات يواجه مشكلة أساسية تتعلق بالإمداد، استدعى ذلك البحثَ عن مُصَدِّر جديد يقوم بإمداد المشروع، ووقع الاختيار على إيران باعتبارها منطقة مستقرة نسبيا، كما أنها تملك احتياطات ضخمة من الغاز، وهذا أحد أسرار اللهاث الأمريكي وراء الاتفاق النووي معها طيلة الوقت.
تركيا بالنسبة للمشروع الأمريكي تعتبر دولة ممر، أو خَزَّان استراتيجي، وسوريا كذلك… الذي قامت به إيران أنها أبرمت عقدا لتوريد الغاز عبر العراق_سوريا إلى المتوسط، وبهذا تكون أفقدت تركيا ورقة اقتصادية كبيرة جدا، وأَضَرَّت بأمريكا عبر تجاهل خط “نابوكو” الذي يمر عبر تركيا، كما أَضَرَّت بروسيا عبر دخولها كمنافس إلى السوق الأوروبية، على الأقل في حوض المتوسط، وهذا ما دعا روسيا للتدخل في سوريا بهدف تحقيق عدة مكاسب، أهمها:
- منع وصول الغاز الإيراني أو العربي إلى أوروبا عبر المتوسط أو تركيا على المدى القريب.
- السيطرة على آبار الغاز شرق المتوسط، والتي تضم احتياطات ضخمة جدا وفق بعض الدراسات.
باختصار… سوريا هي دولة ممر للغاز العربي إلى أوروبا، بحرا عبر المتوسط، أو برا عبر تركيا، كما أنها دولة ممر للغاز الإيراني عبر المتوسط بحرا إلى أوروبا، كما أنها دولة منشأ بحسب اكتشافات بدايات القرن في شرق المتوسط، مما يعزز من أهميتها خصوصا في تأمين الطاقة لأوروبا… وأدع الحديث باستفاضة عن سوريا وبقية الدول للمقال القادم إن شاء الله تعالى.
تأكيد على نقاط أساسية…
لا شَكَّ أن الصراع في جوهره الحقيقي هو صراع عقيدة، صراع حضارات وقيم ومبادئ وأفكار، لكن هذا على المدى البعيد، أما على المدى القريب فقد يختلط الصراع، وتَبْرُز أسباب أخرى ـــ موارد وثروات ومصالح وهيمنة ونفوذ ـــ تكون أكثر تأثيرا، ومن الخطأ تفريغ الصراع من مضمونه الحضاري البعيد، أو الذهول عن منشأ الصراع الأممي بين الحضارات، واختزاله بأسباب اقتصادية تافهة قياسا بالأسباب الحقيقية “صراع القيم”… لما في ذلك من تَسْطِيْح التاريخ إلى حد السذاجة، ناهيك عن الأثر السلبي في امتصاص الطاقة الكامنة عند المسلمين، وإضعاف القدرة على الاستمرار في المواجهة، لكن في المقابل ـــ وهو الأهم على المدى القريب ـــ لا ينبغي تفريغ الصراع من مضامينه الأخرى، وتجاهل حقائق ومشاهدات ومعلومات تم رصدها بدقة، وإدخالها مصنع تحليل الأحداث.
من الملاحظ أثناء دورة الصراع ـــ والتي تعد طويلة نسبيا ـــ أن الأسباب الحضارية القيمية تظهر على السطح تارة، وتنزل إلى القاع تارة أخرى، بل كثيرا ما يبدأ الصراع باتجاه ثم ينتهي باتجاه آخر، نظرا لتلاشي الهدف بفعل عامل الزمن، أو بسبب انضمام أو طغيان أهداف أخرى أكثر اتصالا بالواقع… بمعنى أن الصراع قد يبدأ في جانب الثروات والموارد لكنه يتطور مع الزمن ليأخذ طابع الصراع الحضاري، وقد يبدأ في جانب العقيدة والقيم ثم ينحسر مع الزمن ليأخذ طابع الصراع على الثروة والهيمنة والنفوذ.
إن إدراك لحظة الصراع مع جذرها التاريخي القريب والبعيد يساعدنا على فهم وإدارة المعركة، ومن ثَمَّ يمنحنا القدرة على تحويل مسار الصراع بما يلائم أهدافنا وينسجم مع قدراتنا؛ فإن المعركة الحضارية القيمية تُعَدُّ أَشْرَسَ بكثير من أي معركة أخرى، وفهم طبيعة المرحلة والمعركة التي نخوضها قد يخفف من حِدَّتِها، خاصة إذا نظرنا إلى حجم الفجوة التكنولوجية بيننا وبين الغرب، قياسا بحالة التَّرَهُّل المادي الذي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم.
من هنا يتوجب علينا الاستفادة من لحظات فتور العامل العقدي في الصراع لدى الخصم؛ لأنه يُفْقِدُهُ أحد أهم عوامل القوة وهو “العقيدة”، وهو ما يحاول الخصم بشكل مستمر الحفاظ عليه كورقة رابحة في الصراع، وللأسف فإن بعض الحمقى والمغفلين من أبناء جلدتنا يقدمون لأعدائنا المزيد من أسباب الشحن العقدي، إما عبر تصريحات نارية عابرة للقارات، وإما عبر التفجيرات والمفخخات، وليست أحداث أوروبا الأخيرة ـــ بروكسل وباريس نموذجا ـــ، أو المفخخات التي ضربت المساجد والحسينيات قبل أعوام في العراق إلا جزءا من هذه الحماقات، والتي منحت أعداءنا المزيد من أسباب الشحن العقدي، وأعطتهم المزيد من المبررات لحشد وتعبئة الطاقات ـــ الغرب والشيعة العرب ـــ ضد أهل السنة.
إذا استطعنا فهم معركة اليوم ضمن إطار “معركة الطاقة” يمكننا حينئذ إدارتها ضمن إطار “تقاسم المصالح”، ومن ثَمَّ يمكن لثورتنا أن تقوم ببناء تفاهمات إقليمية ودولية ضمن هذا الإطار، أما لو تَمَّت إدارة المعركة ضمن إطار “العقيدة” فلا بُدَّ من المواجهة الشاملة مهما تباينت القدرات المادية بيننا وبين أعدائنا؛ لأن بناء التفاهمات في صراع العقيدة مُتَعَذِّر بلا تنازلات.
ختاماً…
علينا إعادة النظر بطريقة تناولنا للأحداث، وكيفية تفسيرنا وقراءتنا لها… لا بُدَّ من قراءة جديدة متعددة الاتجاهات، مختلفة زوايا النظر، تتعامل مع الواقع بواقعية من خلال متابعة الأحداث التي تجري على الأرض، ومعرفة من قام أو تسبب بها، ومتى، وكيف، ولماذا الآن… كل هذه الأسئلة لا بُدَّ من طرحها على طاولة البحث، ومن ثَمَّ الجواب عنها بعيدا عن المواقف المسبقة، وبعيدا عن دائرة ما نحب أو نتمنى… عندما تكون القراءة وفق هذه المعطيات، وتأخذ بعين الاعتبار كافة أسباب الصراع بما فيها العقدي، مع قياس أثر كل سبب منها في الصراع، مع معرفة الأصلي منها والطارئ، هذا يعني أننا نقوم بحل معادلة الصراع رياضيا، مما يثمر مقولات جديدة تستند إلى وقائع وأرقام أكثر منها استنادا إلى قراءة وجدانية نفسية نابعة من قاعدة الولاء والبراء.
إننا أمام معركة كبيرة وسريعة التَّغَيُّر على جميع المستويات ـــ الخطط والأحلاف والأطراف ـــ، ومن هنا لا بد للنخب أن تقوم بالبحث عن طرق وأدوات جديدة غير تقليدية في إدارة المعركة، ولننظر إلى الآخرين، ومنهم بعض حلفائنا القريبين جدا إلينا، لنرى كيف يبحثون عن طرق غير تقليدية، أو طرق جديدة للخروج من المأزق.
ليس بالضرورة أن تكون ابتكاراتُنا مطابقة تماما لابتكاراتهم، لكن لا بُدَّ من فعل شيء جديد غير تقليدي، أما أن نبقى على حالنا بعد خمس سنوات، ندير معركتنا بنفس الأساليب والأدوات، هذا يعني أننا لن نحرز أي تقدم، بل أخشى أننا نسير باتجاه الهاوية.
فلا شك أن الدِّيْنَ حاضر في جميع معارك المنطقة، لكن السؤال الأهم الذي ينبغي أن نجيب عنه، والذي يختصر علينا الكثير من الوقت… هل الدين حاضر في معارك المنطقة كأداة أم كسبب؟