مايو 11, 2024

عرض كتاب: الخبرة الإيرانية.. الانتقال من الثورة إلى الدولة

بينما نحن مُقدمونَ على اهتمامٍ واسع بالشأن الإيراني، وذلك بعد “الاتفاق التاريخي” حول “الملف النووي” بين الغرب ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذا الاهتمام الذي تأخرَ كثيراً في السياق العربي، ليس فقط من ناحية “السياسة الخارجية” الإيرانية وشبكات “الميليشيات” والامتدادات التابعة لها في الوطن العربي والتي نالت بعضَ الاهتمام، إنما في الشأن الداخلي الإيراني بحثاً ودراسةً وتتبعاً، كدراسة النظام السياسي الإيراني، وحالة المجتمع الإيراني من الداخل، و بُنية الدولة والحُكم ومؤسسوها ومفكروها وتطورها التاريخي نشأةً وبناءً ونموذجاً نهائياً.

في هذا السياق البحثي، نلقي نظرة على دراسة مميّزة قامت بها الدكتورة أمل حمادة، كان عنوانها “الخبرة الإيرانية من الثورة إلى الدولة”، هي عبارة عن رسالة دكتوراه قُدّمَت إلى قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وقد طبعتها الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام ٢٠٠٨م. وهي دراسة موسَّعة عن التطور التاريخي للثورة الإيرانية حتى وصلت منتهاها على شكل دولة لها مؤسساتها ونُظمها الناظمة للحياة السياسية والاجتماعية والدينية. فهذا النوع من الدراسات الذي يهتمّ بالتحوّلات والانتقالات الديناميكية من الثورات إلى بناء الدُوَل والحفاظ على مكتسبات الثورة هو ما كان ينقص الشباب العربي في مسيرة التغيير التي خاضوها في الربيع العربي.

ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول مع مقدمة وخاتمة، في الفصل الأول تحاول المؤلفة التأسيس للإطار النظري للبحث، فتدرس مناهج قراءة الثورات -كتاريخ- ومدارس تفسيرها والقاعدة الفكرية القائمة على محاولات التفسير هذه، كما تحاول التأصيل لتفاعلات الثورة مع الدولة والمراحل الانتقالية بينهما بشكل عام. في الفصل الثاني تبحث في أسباب قيام الثورة الإيرانية، وأهم مفكريها -إن كانوا منظرين للثورة أم منظرين للدولة بعد الثورة-. أما الفصل الثالث فتبحث في الدستور الناشيء بعد الثورة والمؤسسات التي تم استحداثها بالتوازي مع المؤسسات التي تم استبقائها -مؤسسات ما قبل الثورة- مع التعديلات التي حصلت عليها. في الفصل الرابع وهو الفصل الأهم،  تقوم المؤلفة بدراسة التفاعلات التي حصلت بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الثورة على اعتبار أن النموذج الإيراني للحُكم نموذج مركب بينهما.

8502915

الفصل الأوّل من الدراسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأوّل منه يُعرّف معنى الثورة والجماعة الثوريّة، ويُلقي نظرة إلى المدارس والاتجاهات التي حاولت تفسير الثورات -وحاولت التنظير لها كالمدرسة الماركسيّة- والتي منها الاتجاه الوظيفي الذي يرى الثورات نتيجة لاختلال في التوازن داخل الدولة وذلك بعدم قدرتها على القيام بوظيفتها والحفاظ على نُظمها وقيمها الاجتماعية، ومنها أيضاً اتجاه “مقارنة الثورات” بقراءة تاريخ الثورات ومحاولة استقراء القوانين الناظمة لها، كما هناك أيضاً الاتجاه الاجتماعي النفسي الذي لا يهتمّ كثيراً بالظروف الموضوعية بقدر ما يُركّز على الأسباب التي تدفع “إنسان الثورة” لكيّ يقوم بعمل ثوري ومحاولة استنكاه الدوافع الجوّانية له.

أما القسم الثاني من الفصل الأوّل،  فيدرس الحالة الانتقالية بين الثورة والدولة، فالتحول لا يكون على شكل خطي وإنما هو عملية مضطربة، خصوصاً في سياق الثورات القائمة على تحالفات ومكوّنات مختلفة، إذْ تبدأ حالة من التفاعل والاختلاف حول الرؤى في بناء النظام السياسي والقانوني، تتحدث في هذا القسم أيضاً عن المشكلات الناشئة نتيجة الفراغ السياسي والدستوري، كما استقرأت المخاطر المهددة للإجماع الثوري والجماعة الثورية التي نجحت في قيادة الجماهير أثناء الثورة، مؤكدة على أنَّ “الجماعة الثورية” التي نجحت في إنجاح الثورة ليست بالضرورة قادرة على بناء الدولة والخروج من حالة السيولة الانتقالية إلى دولة ذات مؤسسات ونُظم حاكمة.

في القسم الثالث والأخير من الفصل الأوّل، ترسم فيه ملامح مفهوم الدولة، كيّ تحدد تلك المعايير التي تميّز بين الحالة الانتقالية السائلة وبين حالة الدولة الصُلبة، كما رصدت مؤشرات التحوّل في المؤسسات داخل الدولة وفي آليات اتخاذ القرار وتنفيذه والأُطر الدستوريّة الحاكمة لهذه الآليّات، وفي الخطاب السياسي الذي تتبناه النخبة السياسيّة الحاكمة. كما حاولت المؤلفة إلقاء نظرة إلى العلاقة بين الدين والدولة، وذلك لضرورات البحث الذي يدرس حالة ثورية في سياق دولة إسلاميّة لها قيمها ومنظومتها الفكرية والثقافيّة وتاريخها المختلف.

بدأت الباحثة في الفصل الثاني بتحرير عوامل قيام الثورة الإيرانية والأسباب التي دفعت نحو نشأتها، وقد قسّمت هذه العوامل إلى ثلاثة عوامل: سياسيّة، اقتصاديّة، واجتماعية ثقافية.  ففي الناحية السياسيّة تحدثت عن أثر التغوّل الأمني لنظام الشاه في دفع الشباب الإيراني للانخراط في حركات المعارضة بشقيها الديني وغير الديني. أما الناحية الاقتصادية فقد وصلت قمة الاحتقان بسبب سياسات اقتصاديّة إلى استعداء قوى اقتصاديّة هامة كالبازاريّة ورجال الدين الأغنياء. أما في الناحية الاجتماعية والثقافية -وهي الأهمّ- فقد كانت هناك ثلاث قوى دفعت نحو احتضان الثورة: قوى التيار الليبرالي التي عارضت غياب الحريات وتزايد القمع السياسي، وقوى اليسار التي عارضت المشاريع التغريبية التي كان ينحاها الشاه، وقوى المؤسسة الدينية التي تأثرت بمقولات الإمام الخميني.

ثم أكملت في ذات الفصل، في تحديد مفكري الثورة، الذين كان لهم أثراً كبيراً في نشأتها والتنظير لها، وقد قسّمت هؤلاء إلى قسمين: القسم الأوّل هو الذي أسهم في تطوير الفكر السياسي الإيراني بما سهّل الثورة ونموذجهم علي شريعتي ونوّاب صفوي، والقسم الثاني هم الذي أسهموا في كل من الفكر والحركة السياسية والثورية وهم -بشكل رئيسي- الخميني وآية الله طالقاني. وهما الشخصيتان الأساسيتان اللتان سُنحَت لهما الفرصة في تطبيق أفكارهما على الواقع العملي وذلك عندما نجحا في قيادة حركة مجتمعيّة ساهمت في عملية التغيير السياسي.

في القسم الأخير من الفصل الثاني، تحدثت المؤلفة عن المفكرين الذي نظّروا للبُعد المقابل من عملية التحول الثوري هذه، ألا وهي “الدولة” ما بعد الثورة، في هذا السياق ركّزت في الحديث حول شخصيتان أساسّيتان وهما: محمد خاتمي وعبد الكريم سروش. وهما اللذان عاصرا دولة النظام الجديد وحاولا تدعيم أسس جديدة للتفاعل داخل المجتمع على كل المستويات القانونية والحياتية، فالأول تمكن من ممارسة ذلك عملياً -إلى حد كبير- في فترة رئاسته، أما الثاني فبقيت أعماله على مستوى دعم التنظير الفكري الصِرف لدولة النظام الجديد وعاكَسَها أحايين كثيرة.

في الفصل الثالث من الدراسة، حددت المؤلفة المجالات والبُنى التي نالها التغيير ما بعد الثورة الإيرانية، فبدأت بالأهمّ منها وهي الإطار الدستوري، وقامت بقراءة الدستور الذي وُضعَ عام ١٩٧٩م وذلك بعد نجاح الثورة، ثم قرأت التعديلات الدستورية التي حصلت عام ١٩٨٩م والتي توافق عليها الخميني مع المجلس (البرلمان الإيراني)، وهو تعديل طرأَ على ثلث مواد دستور عام ١٩٧٩م وقد كان أهم بند من بنود التعديلات الدستورية حينها بأنْ تم إلغاء الثنائية في المؤسسة التنفيذية بين منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وهي انعكاس للتجربة السلبية التي دارت بين رئاسة الوزراء (مير موسوي) ورئيس الجمهورية (خامنئي) في ذلك الوقت.

يأتي الأطار المؤسسي بعد الإطار الدستوري، وقد حصلت عليه تعديلات وتغييرات جمّة وجذرية، وقد قسّمت المؤلفة تلك المؤسسات إلى قسمين: ١) مؤسسات مستحدَثة بالكامل. ٢) مؤسسات موروثة و معدلة. أما المؤسسات المستحدثة فهي مؤسسات اقتصاديّة (كـ:مؤسسة المستضعفين، ومؤسسة الشهيد، ومؤسسة إمداد الإمام، ومؤسسة ١٥ خرداد) والتي أُسست لتخدم الثورة وأهدافها وأفرادها، ومؤسسات سياسية وأمنية كالحرس الثوري الذي يقع على عاتقه حماية الثورة (ثم تصديرها في وقت لاحق) وكالأحزاب السياسية الناشئة (كالحزب الجمهوري الإسلامي، وحزب كوادر الإعمار، وحزب جبهة المشاركة).

أما المؤسسات الموروثة، والتي لا تعني أنها تتطابق في العمل الإداري كما كانت على زمن الشاه، لكن تم استبقائها وتعديل الناحية التنفيذية والتنظيمية فيها وهي مؤسسات تُعبّر عن الدولة أكثر مما هي تُعبر عن الثورة، وهي أيضاً بعض المؤسسات الاقتصادية ومنها بعض المؤسسات البنكية ومؤسسات الأوقاف الإيرانية (كالوقف الرضوي). ومؤسسات سياسية وأمنية أيضاً (كالمؤسسة القضائية و وزارة الخارجية وزارة المخابرات والأمن والجيش الإيراني -الذي يعود إنشاؤه إلى عهد الدولة البهلوية-).

بالإضافة إلى تلك المؤسسات الموروثة، هناك مؤسسات مهمة كمؤسسات التنشئة والتي كان على عاتقها نقل الأفكار والقيم المرتبطة بالثورة إلى الأجيال الجديدة، كالمؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية (التي تعود نشأتُها إلى الدولة الصفوية في القرن السادس عشر). في نهاية الفصل تم التأكيد على نقطة هامة جداً وهي أثر الحرب الإيرانية -العراقية على الأطار المؤسسي الناشئ داخل دولة ما بعد الثورة الإيرانية، والتي تؤكد أنَّ أهم فوائدها اعتبار أنّ الحرب أثّرت في تعزيز شرعيّة هذه المؤسسات والتي أدت في النهاية -أي الحرب- في تجميد عملية التغيير في صيغتها النهائية.

في الفصل الأخير من هذا الكتاب الهامّ،  قامت المؤلفة في استكشاف تفاعلات الانتقال من الثورة إلى الدولة، وتقيس تلك التفاعلات على ثلاث مستويات رئيسة: (١) مستوى مؤسسات الثورة: الحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور وأثرها على الواقع الداخلي والخارجي وتتداخلاتهما مع مؤسسات الدولة (٢) مستوى مؤسسات الدولة: وذلك برصد التغيّر الذي طال مؤسسة الرئاسة والبرلمان (٣) مستوى العلاقة بين المرشد باعتباره رأس النظام السياسي ورئيس الجمهورية المكلَّف بتنفيذ الدستور والذي يُعتبر الرجل الثاني في سلم القيادة بعد المرشد العام وذلك حسب نص الدستور.

أما الحرس الثوري، المؤسسة الجدليّة والذي دار حولها الكثير من الأحاديث ونُسجت الكثير من الأساطير، فترى المؤلفة أنه وإنْ تم اعتباره مؤسسة مستقلة بعد الثورة لكنه عملياً وتاريخياً قام بالعديد من الأعمال ضد نظام الشاه قبل الثورة، إذْ أن النخبة التي شاركت في تكوينه كان لها تاريخ طويل مع المنظمات اليسارية العنيفة (كحركة مجاهدي خلق وحزب الأمم الإسلامية). وقد أوُكل إلى الحرس الثوري العديد من المهامّ الضمنيّة: (١) التدخل في لحظات معيّنة لحسم التنافسات السياسيّة. (٢) حفظ أمن الثورة الداخلي وتأدية دور في التعبئة والضبط للسلوك الاجتماعي. (٣) دور مُوَازن للجيش النظامي الموروث من عهد نظام الشاه.

أما بالنسبةِ إلى مجلس صيانة الدستور، والذي تمّ أنشاؤه في عام ١٩٧٩م واعتماده في دستور ذلك العام كياناً تشريعياً مستقلاً يشترك مع البرلمان في صياغة القواعد التشريعية الضابطة لحركة المجتمع السياسية والاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك أُوكل إليه مهمتين هامّتين: الأولى تفسير مواد الدستور والثانية مهمة الإشراف على كل الانتخابات التي تجري في الجمهورية. وقد حصل بين المجلس وبين مؤسسات الدولة الكثير من التفاعل والتجاذب، فقد قام المجلس برفض العديد من قرارات البرلمان التي تتعلّق بالشأن الاقتصادي والتي كانت تعكس الخلاف بين مؤسسة ثورية (تلتزم بحماية الفقراء والشهداء والذين كانوا وقود الثورة) و مؤسسة دولة كانت تؤكد على حق الملكية والنشاط الاقتصادي المتعلق بالبازار. كما دار خلاف واسع بين المجلس وبين مؤسسة الرئاسة (وذلك في عهد خاتمي).

كانت ساحة الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية مجالاً واسعاً لاستكناه عملية التحول والتغيّر الحاصلة بين الدولة والثورة، فإنه وإنْ كانت مؤسسة رئاسة الجمهورية و مؤسسة البرلمان مؤسسات تعبّر عن الدولة بشكل رئيسي فقد تحوّلت إلى مكان للتجاذبات والتنافسات بين مراكز القوى في النظام (المرشد والحرس الثوري بشكل كبير ومجلس صيانة الدستور بمستوى أقل قليلاً )، وقد حاولت المؤلفة قراءة كل الانتخابات التي حصلت من عام ١٩٧٩م إلى عام ٢٠٠٥م الانتخابات التي فاز فيها أحمدي نجاد، وذلك لاستقراء هذا التفاعل والانجذاب في كلِّ عمليّة انتخابيّة.

في نهاية الكتاب تحاول المؤلفة تلخيص عملية التفاعل بين الثورة والدولة وعملية التحوّل من الثورة إلى الدولة، بمثالَيْنِ معبّرَين وهما العلاقة بين المرشد خامنئي وبين رئيس الجمهورية رفسنجاني والعلاقة بين المرشد خامنئي أيضاً وبين الرئيس محمد خاتمي، وذلك بالاستدلال على عدة قضايا تباينت فيها الآراء منها القضايا الاقتصادية وقضايا العلاقات الخارجية وصلاحيات رئيس الجمهورية والعلاقة مع المجتمع المدني، ثم ضرب مثالاً على أزمة المظاهرات الطلّابية عام  ١٩٩٩م  التي كانت بسبب اقتحام الشرطة للحرم الجامعي، المظاهرات التي هاجمها المرشد خامنئي والتي حاول تفهّمها رئيس الجمهورية محمد خاتمي حينها بمساندته لمشاعر الطلاب وغضبهم.

ضع تعليقاَ