أثناء قراءتي كتاب أورهان باموق “اسطنبول الذكريات والمدينة”، استوقفني كثيراً هذا الحب الكبير عند الكاتب لمدينته، حب الأشياء الجميلة والبشعة من أحياء المدينة، كما هي، قبل تفكيكها وبعد جمعها من جديد، وذكرياته فيها وتاريخها، الذي استفاض في عرضه من وجهة نظره الشخصية، رغم محاولته التوثيق قدر المستطاع عندما تتوفر الوثيقة.
موقف باموق من إسطنبول ذكرني بواقعة جرت معي في بيروت 1987، في ذلك الزمن كنت بصدد تحضير ماجستير في الأدب العربي في الجامعة اللبنانية-الفرع الأول، وكان يجب تسجيل موضوع الرسالة وعنوانها قبل نهاية السنة التحضيرية الأولى، عند أحد الأساتذة كما هي العادة والقوانين الداخلية للجامعة.
توجهت إلى غرفة دكتور الأدب الحديث، الذي اخترته ووافق على الإشراف على رسالتي، قلت له إنني مهتم بالرواية السورية منذ الاستقلال وحتى الآن.
وقد لفت انتباهي البعد الطائفي المقنع بشعارات عديدة، في الروايات الريفية الصادرة حتى ذلك الوقت، لذلك كان عنوان رسالتي المقترح هو “الطائفية في الرواية السورية”.
في الحوار الشفوي الذي دار بيني وبين الأستاذ المشرف، عرف مني أن أغلب الروايات ذات المضمون الطائفي كتبت ونشرت في عصر البعث، فقال لي: إذا وافقت على الإشراف على موضوعك، هل تستطيع حمايتي من غازي كنعان؟ وكان في ذلك الوقت هو الحاكم الفعلي للبنان.
قلت له: لا أستطيع حمايتك ولا حماية نفسي. قال: أنا أعتذر، لا أستطيع الإشراف على رسالتك، ابحث عن مشرف آخر أو غيّر موضوعك.
في ذلك الزمن كانت تربطني علاقة صداقة مع الدكتور رضوان السيد، أستاذ الفلسفة الإسلامية في نفس الكلية، وزميل أستاذي، فرويت له ما حدث بيني وبين الدكتور المشرف، قال: بسيطة، اقترح عليه تغيير الموضوع، وليصبح العنوان “مفهوم المدينة في الرواية السورية المعاصرة”، وفي الواقع ستستعرض وتنقد ما قاله الروائيون الريفيون عن المدينة، وسيقودك تتبع مسارات الأبطال في تلك الروايات إلى اكتشاف كل جوانب تفكيرهم، وأساليب حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وما يحبون ويكرهون، وصولاً إلى موقفهم من المدينة.
عند ذلك لا بد من تسجيل اكتشافك: إنهم كانوا طائفيين في نظرتهم للمدينة وسكانها، ولذلك لم يستطع أبطال تلك الروايات الاندماج في حياة المدينة، والبقاء على هامشها.
ألقت الفكرة أعباء جديدة عليّ ولكنها أعجبتني ولامست وتراً حساساً عندي، لأنني كنت أحد هؤلاء الريفيين الذي لم يستطع اختراق أسوار المدينة، رغم الحياة الطويلة فيها، إلا بعد محاولات عديدة، ولم أنجح إلا بعد أن نظرت إليها من موقع الحب والمحب.
وافق الأستاذ على الإشراف على الموضوع بعنوانه الجديد، ولكن ما لم يكن في الحسبان أن المخابرات السورية كان عندها قرون استشعار، فاعتقلتني لسبب آخر، وبعد السجن هربت إلى كندا دون أن أنهي مشروعي، وسقط الوطن كله وليس المدينة فقط من حساباتي إلى أن وصل إلينا صراخ أطفال سوريا “الشعب يريد إسقاط النظام”.
باموق في كتابه “اسطنبول المدينة والذكريات” أعادني إلى مفهوم المدينة الذي كنت أبحث عنه في الرواية السورية، ووجدته في هذا الكتاب، وفي رواياته الأخرى.
وجاءت الثورة السورية، وموقف الكتاب منها، ليعيد طرح السؤال نفسه أيضاً: هل كان معنى المدينة واضحاً في عقلنا، بل هل كان معنى الوطن كله متجذراً في ثقافتنا، هل كنا حقاً نحب وطننا كما هو بالفعل، وليس كما تخيلناه؟
أغلب كتّابنا الريفيين الذين استقروا في المدن السورية مدحوا جمال الريف، وطيبة الفلاحين، ورومانسية المرأة الريفية، بينما كانوا يهاجمون المدينة القبيحة، والعلاقات المادية الخالية من الروح، والمرأة الشهوانية التي لا تعنيها الرومانسية، ونمط الحياة القاتل للروح، وغير ذلك.
في الوقت الذي عبر فيه باموق عن حبه للمدينة، في مراحل مختلفة من حياته، عن طفولته قال: “وأنا أتأرجح بين النوم واليقظة، كنت ألتحم أكثر بوسادتي ومنزلي وشارعي ومكاني في العالم”.
ولتأكيد حبه لمدينته اسطنبول، وارتباط مصيره الشخصي بمصيرها، كتب “إن قدر اسطنبول قدري، وأنا مرتبط بهذه المدينة لأنها جعلتني ما أنا عليه”.
وفي مكان آخر من الكتاب يكتب “إن هذه البلاد والمدن التي جعلها القدر من نصيبنا، تتوقع منا الحب، فنحبها في النهاية من أعماق قلوبنا”.
هذا الحب الكبير للمدينة لم يجعل باموق ينسى عيوبها، يتذكر بحزن الشغب الذي رعته الدولة “العلمانية” سراً، وشجعت عليه العصابات عام 1955، كي تقوم بالهجوم على مسيحيي المدينة من اليونان والأرمن، وأعمال التحطيم والنهب للمحال والمنازل التابعة لهم واغتصاب نسائهم.
إلا أن هذه الأعمال، رغم أنها كانت جزءاً من روح المدينة في لحظات الفوضى وغياب القانون، إلا أن حيزها كان ضيقاً مقارنة بروح المدينة الرحب والمتسامح.
ولتوضيح هذه النقطة يكتب باموق “كان البعد عن الدين، في ظل الضراوة العلمانية للجمهورية الجديدة التي أسسها أتاتورك، يعني أن تكون حديثاً وغربياً”.
وهكذا “لا شيء في الحياة الخاصة ملأ الفراغ الروحي. بالتخلي عن الدين صار البيت خالياً”، والنتيجة أنه أصبح من السهل جداً الإيحاء إلى العامة أن سبب فقرهم الروحي والمادي هم “الآخرون”، وليست سياسات الدولة.
وأنا أكتب، لم تكن الرواية السورية حاضرة في ذهني، ما هو حاضر فعلاً الثورة السورية وموقف بعض المثقفين منها، الذين لم يتركوا فرصة تمر دون النيل من الشعب “المتخلف” الذي فجر هذه الثورة، ومن الشعارات التي رفعها لتحريض الناس على مقاومة الرصاصة أولاً ثم قذيفة الدبابة والبرميل المتفجر، والسكاكين التي كانت تجز الأعناق بلهجة أراد منها المستبد أن تكون لهجة طائفية لدفع الآخر للرد الطائفي.
نعم، كانت الرواية السورية طائفية، عندما حاول المثقف أن يدفع المواطن السوري إلى أن يكون بعيداً عن “الدين”، وأراد منه أن يكون حديثاً وغربياً!!!.
لذلك كان أستاذي اللبناني معه حق في خوفه ورفضه الإشراف على رسالة تتحدث عن الطائفية المسكوت عنها منذ خمسين عاماً في سوريا.
المصدر: زمان الوصل