هذا المقال منقول من موقع: project syndicate
على مدار السنوات الخمس الأخيرة أو نحو ذلك، كانت المملكة العربية السعودية إما تتبع الإمارات العربية المتحدة أو غائبة ببساطة عن جميع القضايا الاستراتيجية الرئيسية في منطقة الخليج، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. لكن المملكة عادت الآن إلى الظهور باعتبارها قوة إقليمية رائدة ــ مع قائمة أمنيات في السياسة الخارجية تسعى إلى تحقيقها.
تحولت المملكة العربية السعودية إلى الداخل لأن صعود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة الآن، أشعل شرارة عملية إعادة توزيع كبرى للسلطة داخل الأسرة الحاكمة والـبُـنى السياسية والاقتصادية في البلاد. استهلك هذا طاقة مؤسسات الدولة الرئيسية، بينما انتظر العديد من حلفاء المملكة العربية السعودية ليروا من سيخرج من هذه العملية ليعتلي القمة.
كان ابتعاد المملكة عن الأضواء إقليميا أثناء إعادة تنظيم الأوضاع داخليا تصرفا حكيما أيضا، نظرا للبيئة الخارجية ــ وخاصة الضغوط من جانب الولايات المتحدة، التي كانت الحليف الأساسي للمملكة لعقود من الزمن. في يناير/كانون الثاني من عام 2020، أعطى الرئيس دونالد ترمب الضوء الأخضر لخطة سلام في الشرق الأوسط كان من المستحيل أن يتفق عليها الإسرائيليون والفلسطينيون، ناهيك عن العمل على تنفيذها، وطالَب ترمب حلفاء أميركا في منطقة الخليج، وعلى الأخص المملكة العربية السعودية، بدعمها. أبدى بعض المراقبين تأييدهم للاقتراح ظاهريا، وعُـقِـدَت مؤتمرات باذخة لمناقشته في بعض العواصم الإقليمية.
لكن أصحاب العقول الحكيمة في المنطقة كانوا يعلمون أن خطة ترمب ليست أكثر من هواء ساخن سيتلاشى بمجرد خروج مهندسي الاقتراح عديمي الخبرة من البيت الأبيض. رحبت المملكة العربية السعودية بالزوار ونظمت عروض لرقصة السيف التقليدية للترفيه عن الشخصيات الأميركية الرفيعة المستوى، لكنها اختارت بخلاف ذلك البقاء على الهامش.
عندما تولت إدارة الرئيس جو بايدن السلطة، شعر السعوديون بالخطر. لم تكن القضية الحقيقية نية بايدن المعلنة بالتعامل مع المملكة على أنها “دولة منبوذة” بعد أن خلص إلى قرار مفاده أن الأمير محمد بن سلمان وافق على قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018. في حقيقة الأمر، شعر صناع السياسات في الرياض بالغضب الشديد إزاء إيمان إدارة بايدن الراسخ بأن أميركا يجب أن تعيد توجيه نفسها استراتيجيا في الشرق الأوسط من خلال التحول بعيدا عن ضماناتها الأمنية لدول الخليج والتي ظلت قائمة لفترة طويلة وتعزيز تفاهم جديد مع إيران. كان هذا أشبه بمحاولة إحياء الـفِـكر الذي أدى إلى التوصل إلى الاتفاق النووي في عام 2015 مع إيران في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما.
كان تنصيب بايدن الحدث الثاني خلال عشر سنوات الذي أقنع المملكة العربية السعودية بأن الولايات المتحدة من الممكن أن تغير فجأة أحد مواقفها الطويلة الأمد في السياسة الخارجية، كما حدث أيضا في أعقاب الانتفاضات العربية في عام 2011، عندما قررت أميركا التخلي عن حلفاء قدامى، وعلى رأسهم الرئيس الـمِـصري حسني مبارك، وتأييد موجة التغيير التي اعتبرتها المملكة العربية السعودية، وقوى تقليدية أخرى في العالم العربي، شديدة الخطورة. خلص صناع السياسات السعوديون إلى أن المملكة (والأسرة الـمَـلَـكية) لا ينبغي لها أن تعمد على الولايات المتحدة لضمان أمنها، وهذا يساعد في تفسير الجهود الجازمة التي بذلتها المملكة لتأمين ساحتها الخلفية.
الواقع أن محمد بن سلمان ذهب إلى ما هو أبعد من مجرد تهميش المنافسين وإعادة ترتيب بنية السلطة في المملكة. فقد عمل بمهارة أيضا على تحويل أساس حكم النظام من خلال إنهاء تحالفه مع الطائفة الوهابية المتزمتة من الإسلام الـسُـنّـي. في الوقت ذاته، دعا إلى إصلاحات اجتماعية ــ تتعلق بحقوق النساء، والتفاعلات الاجتماعية، والترفيه ــ في المملكة التي ظلت طوال تاريخها ترتدي عباءة التقشف الثقافي. الآن، يعمل الأمير محمد بن سلمان على بناء هياكل سلطة جديدة، ودوائر أنصار، ومصدر للشرعية.
في الوقت الحاضر، يوجه محمد بن سلمان طاقاته أيضا إلى الشؤون الإقليمية. لم تكن جولته في مِـصر، والأردن، وتركيا في يونيو/حزيران مجرد استعراض للنفوذ المالي الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية في وقت حيث تعاني كل بلدان الشرق الأوسط غير المصدرة للنفط تقريبا من صعوبات اقتصادية متزايدة الوطأة. الأمر الأكثر أهمية هو أن رحلته هذه أثبتت أن المملكة عادت مرة أخرى لتتخذ مكانها بين أكثر القوى نفوذاً في المنطقة.
كانت زيارة محمد بن سلمان لتركيا انتصاراً بارزاً للمملكة، ليس فقط بسبب توتر العلاقات الثنائية بعد مقتل خاشقجي، الذي جرى تنفيذه في القنصلية السعودية في إسطنبول. لأكثر من عقد من الزمن، كانت تركيا الداعم الأكبر ــ والقاعدة الرائدة ــ للقوى السياسية الإسلامية التي اعتبرتها المملكة العربية السعودية تهديدا للاستقرار الإقليمي. لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مواجهة أزمة اقتصادية متزايدة العمق في الداخل، أقر بالحاجة إلى تحسين العلاقات بين البلدين.
لكن أكبر انقلاب دبلوماسي تتجه نحوه المملكة العربية السعودية سيكون زيارة بايدن للمملكة هذا الأسبوع. في حين قد تكون رحلته هذه راجعة إلى حد كبير إلى الارتفاع الأخير في أسعار الطاقة والذي نتج عن غزو روسيا لأوكرانيا، فإنه سيؤكد على أن المملكة لا يجوز بأي حال تجنبها، ناهيك عن معاداتها.
سوف تستخدم المملكة العربية السعودية هذه المكاسب لـتأمين ثلاثة أهداف. أولا، ستؤكد بمهارة أنها القوة العربية والـسُـنّـية الرائدة. وهذا أكثر من مجرد سبب لتعزيز مهابتها؛ فهو يجعل المملكة محاورا أساسيا في أي صفقة دبلوماسية مع إيران. ثانيا، تريد المملكة التأثير على مسار التعاون العربي الإسرائيلي، وخاصة في ما يتصل بالقضية المتزايدة الأهمية المتمثلة في صادرات الغاز الطبيعي من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. وثالثا، يعتزم السعوديون الاضطلاع بدور مهم في تشكيل النظام الجديد الذي سيظهر في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وخاصة مستقبل لبنان والعراق، وكذا في تحديد وتيرة عودة سوريا إلى السياسة العربية.
قبل ما يقرب من خمسين عاما، أي قبل أن يشرع في جولته الأولى في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج في أعقاب حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر/تشرين الأول)، أشار وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى أن الرياض ستكون وجهته الأكثر أهمية من نواح كثيرة. ولا تزال بصيرته صادقة اليوم. فمع عودة المملكة العربية السعودية إلى الحظيرة الإقليمية، يشكل فهم ديناميكياتها الداخلية وأهدافها الخارجية أمرا بالغ الأهمية، بقدر ما كان في أي وقت مضى.
طارق عثمان: مؤلف كتاب “الإسلاموية: ماذا يعني ذلك للشرق الأوسط والعالم” (مطبعة جامعة ييل، 2016) ومصر على حافة الهاوية (مطبعة جامعة ييل، 2010).