تأتي أهمية هذه الدراسة من المكانة بالغة الأهمية التّي يتبوأها كلا الباحثين الأمريكيين البروفيسور جون ميرشايمر[1] والبروفيسور ستيفن والت[2] في حقل التنظير في العلاقات الدولية، إذ ينتمي الباحثان كما هو معروف إلى المنظور الواقعي عموما وإلى تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة على وجهٍ أخص -بشقيها الدفاعي (والت) والهجومي (ميرشايمر)- والذّي يُعد أكثر التيارات النظرية تأثيراً ونفوذا في هذا الحقل المعرفي، فلطالما وُصفت الواقعية بالتيار السائد (MainStream). يناقش الباحثان في هذه الدراسة ما يعتبران أنّها الإستراتيجية الأمثل لإدامة التفوق الأمريكي في المستقبل المنظور أو ما يسميّانه بإستراتيجية “التوازن خارج المجال”، أي خارج مجال القسم الغربي للعالم الذّي يشهد صعودا لقوى كبرى أخرى منافسة للولايات المتحدة على مكانة الهيمنة الكونية. لا تُعد هذه الدراسة “دراسةً مدرسية” تُكتب فقط لطلاب الجامعات لتفسير أو فهم هذا العالم، وإنّما ينتمي هذا النوع من الدراسات إلى تلك الدراسات التّي تُقدّم إستشارات نظرية لصنّاع القرار.
يتبوء البروفيسور جون ميرشايمر منصب أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، أمّا البروفيسور ستيفن والت فهو أستاذ بمدرسة جون كيندي للعلوم السياسية بجامعة هارفرد. وقد سبق لكلا الباحثين الإشتراك في كتابة دراسات عديدة، أكثرها صيتا وشهرة كتابهما المشترك: “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” سنة 2006، والذّي أحدث ضجّة داخل الأوساط الأكاديمية والرسمية على حدّ سواء، وتسبّب في تعرّض الباحثين لتهمة معاداة السامية.
ترجمة وتحرير: جلال خشيب[3]
للمرة الأولى في الذاكرة الحديثة، يُسائل عدد من الأمريكان بشكل واضح إستراتيجية بلدهم الكبرى، ففي شهر أبريل 2016، وجد إستطلاع بيو (Pew Poll) أنّ 57 %من الأمريكيين متفقون على أنّه على الولايات المتحدة أن “تتعامل مع مشكلاتها الخاصة وأن تترك الآخرين يتعاملون مع مشكلاتهم بالشكل الأنسب الذّي يقدرون عليه”، فخلال الحملة الإنتخابية وجد كل من الديمقراطي بيرني ساندرز(Bernie Sanders) والجمهوري دونالد ترامب (Donald Trump) تقبلاً من الجماهير كلّما ناقشوا ولع الولايات المتحدة بترويج الديمقراطية ودعم الأحلاف الدفاعية والتدخل العسكري، تاركين المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون لتُدافع عن الوضع الراهن.
ينبغي ألاّ يبدو نفور الأمريكان من الإستراتيجية الكبرى السائدة أمراً مفاجئا، نظرا لسجلّها السيء عبر الربع قرن الأخير. في آسيا، قامت دول كالهند، باكستان وكوريا الشمالية بتوسعت ترسانتها النووية، كما أنّ الصين تتحدّى الآن الوضع القائم في المياه الإقليمية هناك. في أوروبا، قامت روسيا بضمّ القرم، كما أنّ العلاقات بين الولايات المتحدة وموسكو صارت في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، ولا تزال القوات الأمريكة تُقاتل في أفغانستان والعراق دون أيّ علامة نصر في الأفق، وبالرغم من فقدانه أغلب قادته الأصليين، فقد إنتشر تنظيم القاعدة عبر الإقليم بأكلمه، أمّا العالم العربي فقد سقط في الإضطرابات –يرجع ذلك في قسم كبير منه إلى قرارات الولايات المتحدة في تغيير النظام في كل من العراق وليبيا وإلى جهودها المتواضعة في القيام بنفس الشيء في سوريا- كما برزت الدولة الإسلامية أو داعش من رحم هذه الفوضى، كما أنّ محاولات الولايات المتحدة المتكرّرة للتوصّل إلى سلام إسرائيلي-فلسطيني باءت بالفشل، تاركةً حلّ الدولتين –إحتمالاً- أبعد بكثير ممّا كان عليه. في غضون ذلك، عرفت الديمقراطية حالة تراجع في جميع أنحاء العالم، كما أنّ إستخدام الولايات المتحدة للتعذيب، عمليات القتل المستهدف وغيرها من الممارسات الأخلاقية المشبوهة، كانت قد شوهّت صورتها باعتبارها مدافعا عن حقوق الإنسان والقانون الدولي.
لا تتحمّل الولايات المتحدة لوحدها مسؤولية كلّ هذه الإخفاقات، إلاّ أنّ لها يدا في معظمها. إنّ هذه النكسات لهي نتيجة طبيعة للاستراتيجية الكبرى المضلّلة للهيمنة الليبرالية التّي ظلّ الديمقراطيون والجمهوريون يُتابعونها لسنوات. تُدعِّم هذه المقاربة ضرورة أن تستعمل الولايات المتحدة قوتها ليس فقط لحلّ المشكلات الكونية، ولكن أيضا لتعزيز نظام عالمي مبني على منظمات دولية، حكومات تمثيلية أسواق مفتوحة وإحترام لحقوق الإنسان. “كأمة لا غنى عنها”، فإنّ المنطق يذهب للقول أنّ لدى الولايات المتحدة الحق، المسؤولية والحكمة لإدارة السياسة المحلية في أيّ مكان. في جوهرها، تُعدّ الهيمنة الليبرالية (liberal hegemony) إستراتيجية كبرى تعديلية، بدلا من دعوة الولايات المتحدة لمجرد المحافظة على توازن القوة في أقاليم أساسية، فإنّها تُلزم الأمريكان بترويج الديمقراطية في كلّ مكان والدفاع عن حقوق الإنسان متى تعرّضت للتهديد.
هناك طريقة أفضل من ذلك، وهي متابعة إستراتيجية “التوازن خارج المجال” (Offshore Balancing)، فبإمكان واشنطن أن تتخلّى عن جهود طموحة لتشكيل بقية المجتمعات وتركّز على ما يهمّها فعلا، أي: الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة في القسم الغربي من العالم ومواجهة مهيمنين محتملين في أوروبا، شمال شرق آسيا والخليج الفارسي. فبدلا من سياسة العالم وحراسته، سوف تشجّع الولايات المتحدة بقيّة البلدان على أخذ زمام المبادرة لمراقبة –وعرقلة- القوى الصاعدة، والتدخل لحظة الضرورة وحسب. لا يعني ذلك التخلّي على مكانة الولايات المتحدة بإعتبارها القوة العظمى العالمية الوحيدة أو التراجع إلى “قلعة أمريكا”. بدلا من ذلك، وعبر إذّخار قوة الولايات المتحدة، سوف تُحافظ إستراتيجية التوازن خارج المجال على الريادة الأمريكية لأمد بعيد في المستقبل، كما أنّها تُحافظ على –مكسب- الحرية داخل الديار.
وضع الأهداف الصحيحة:
تُعتبر الولايات المتحدة القوة الكبرى الأكثر حظّا في التاريخ الحديث. لقد كُتب على بقية الدول الرائدة أن تعيش إلى جانب خصوم مهدّدين في حديقتها الخلفية –حتّى المملكة المتحدة، فقد واجهت إحتمال تعرّضها للغزو عبر القناة الإنجليزية في مناسبات عديدة- إلاّ أنّ الولايات المتحدة لم تعش هذا الوضع لأكثر من قرنين من الزمن. كما أنّ القوى البعيدة لا تُشكّل تهديدا كبيرا نظرا لوجود محيطيْن عملاقيْن كعائق في الطريق. مثلما ذكر ذات يوم السيد جان جولي جوسيراند (Jean Jules Jusserand) السفير الفرنسي في الولايات المتحدة بين 1902-1924: “في الشمال لدى –الولايات المتحدة- جار ضعيف، في الجنوب، هناك جار ضعيف آخر، في الشرق سمك وفي الغرب سمك أيضا”. علاوة على ذلك، تفتخر الولايات المتحدة بوفرة الأراضي والمصادر الطبيعية وحيوية السكان، التّي أتاحت لها تطوير الإقتصاد الأضخم عالميا والجيش الأكثر إقتدارا أيضا، كما أنّ لديها الآن أيضا آلاف الأسلحة النووية، التّي تجعل من إمكانية الهجوم على الأراضي الأمريكية أمرا أقل ترجيحا.
لقد فتحت هذه البَرَكَات الجيبوليتيكية أمام الولايات المتحدة مجالا أعظم لإرتكاب الخطأ: في الواقع، فإنّ دولة آمنة مثلها فقط سيكون لديها التهوّر –الكافي- لتُحاول إعادة تشكيل العالم على صورتها. لكن سنَحت لها –هذه البركات- أيضا أن تظّل قوية وآمنة من دون متابعة إستراتيجية كبرى مكلفة وباهضة الثمن. إنّ إستراتيجية التوزان خارج المجال تؤدّي هذه الوظيفة بالضبط. إنّ إهتمامها الرئيسي ينبغي أن يكون الحفاظ على الولايات المتحدى قوية قدر الإمكان بإعتبارها الدولة المهيمنة في الكون، من الناحية المثالية. قبل كل شيء، فإنّ ذلك يعني المحافظة على الهيمنة في القسم الغربي من العالم.
لكن، خلافا للإنعزاليين، فإنّ المؤمنون بإستراتيجية التوازن خارج المجال يعتقدون أنّ هناك أقاليما خارج مجال القسم الغربي للعالم، تستحق أن يُبذل لأجلها الدم والثروة الأمريكية دفاعا عنها. اليوم، هناك ثلاث مناطق أخرى تهّم الولايات المتحدة: أوروبا، شمال شرق آسيا والخليج الفارسي. تُعتبر المنطقيتيْن الأُولتين بمثابة المراكز الأساسية للقوة الصناعية والأمكان التّي تتواجد عليها بقية القوى العالمية، أمّا المنطقة الثالثة، فتُنتج حوالي 30% من النفظ العالمي.
في أوروبا وشمال شرق آسيا، يُعتبر صعود مهيمن إقليمي بإمكانه أن يسيطر على إقليميه بمثابة الشاغل الأساسي. فلدى مثل هذه الدولة وفرة في السطوة الإقتصادية، القدرة على تطوير أسلحة متطورة، إمكانية الدفع بالقوة حول العالم، وربّما حتّى الوفرة المالية للإنفاق أكثر من الولايات المتحدة في سباق التسلح. يمكن لهذه الدولة أن تتحالف حتّى مع بلدان في القسم الغربي من العالم وأن تتدخّل بالقرب من التراب الأمريكي. لذلك، ينبغي أن يكون الهدف الأساسي للولايات المتحدة في أوروبا وآسيا هو المحافظة على توازن القوة الإقليمي. حتّى تبقى الدولة الأكثر قوة في كلّ إقليم –لحدّ الآن توجد روسيا والصين على التوالي- خائفة جدّا بخصوص جيرانها من التجوّل في القسم الغربي من العالم. في الخليج، وفي الوقت نفسه، فإنّ للولايات المتحدة مصلحة في عرقلة صعود مهيمن يمكنه أن يتدخّل ليَحُول دون تدفّق النفط من المنطقة، وبالتالي، إلحاق الضرر بالإقتصاد العالمي وتهديد الإزدهار الأمريكي.
إنّ إستراتيجية التوزان خارج المجال لهي إستراتيجية كبرى واقعية ذات أهداف محدودة. رغم ذلك، فهدف تعزيز السلام يُعدّ إحدى هذه الأهداف. هذا لا يعني أنّ على واشنطن أن ترحّب بالنزاع في أي مكان من العالم أو أنّها لن تكون قادرة على إستخدام وسائل دبلوماسية أو إقتصادية لتثبيط مساعي الحرب. لكنّها لا ينبغي أن تُلزم القوات العسكرية الأمريكية بآداء هذا الهدف لوحده. كما أنّ وقف الإبادات الإنسانية، على غرار تلك التّي حلّت برواندا سنة 1994، لا يُعدّ من أهداف إستراتيجية التوازن خارج المجال، إلاّ أنّ تبنّي هذه الإستراتيجية لن يستبعد –القيام- بمثل هذه العمليات، مع أنّ مثل هذه العمليات تعتبر أمرا غير مجدي والقادة الأمريكان واثقفون أنّ التدّخل لن يزيد الطين إلاّ بله.
كيف يمكن لها أن تعمل؟
تحت مظلّة إستراتيجية التوازن خارج المجال، يمكن للولايات المتحدة أن تُوزان وضع جيشها بناءًا على توزيع القوة في الأقاليم الأساسية الثلاث. فإذا لم يكن هناك مهيمن إقليمي في الأفق في أيّ من أوروبا، شمال آسيا والخليج، فليس هناك داعي لنشر قوات برية أو جوية هناك، إذ أنّ هناك نوعاً ما حاجة إلى إرساء عسكري واسع على أرض الوطن. ولأنّ الأمر يأخذ سنوات عديدة لأيّ بلد حتّى يُحصّل إمكانية السيطرة على إقليميه، فبإمكان واشنطن أن تُلاحظ قدومه وسيكون لها وقت كافي للإستجابة. في هذه الحالة، ينبغي على الولايات المتحدة أن تلتفت إلى القوى الإقليمية –هناك- بإعتبارها خط الدفاع الأول، تاركةً لهم مهمة المحافظة على توازن القوة في جوارهم الإقليمي. ورغم أنّ بإمكان واشنطن أن توفّر المساعدة للحلفاء وتتعهد بدعمهم إذا ما كانوا معرّضين لخطر الإحتلال، فإنّ عليها أن تكبح جماحها من نشر أعداد واسعة من القوات الأمريكية في الخارج. يمكن في بعض الأحيان أن يكون هناك معنى ما للمحافظة على بعض الأصول عبر البحار، على غرار بعض الوحدات العسكرية صغيرة الحجم، تسهيلات، جمع معلومات إستخباراتية، معدّات مُسبقة الإعداد، لكن في العموم، ينبغي على واشنطن أن تُرحِّل المسؤولية للقوى الإقليمية، طالما لدى هذه القوى مصلحة عظمى في الحيلولة دون أن تسيطر أيّ دولة عليها.
لكن، إذا لم تتمكن هذه الدول من إحتواء المهيمن المحتمل في جوارها الإقليمي، فإنّ على الولايات المتحدة أن تُساعد في إنجاز هذه المهمة، عبر نشر قوات قتالية إلى الإقليم لتحويل التوازن لصالحها. قد يعني ذلك أحيانا إرسال قواتها قبل إندلاع الحرب، فأثناء الحرب الباردة مثلا، حافظت الولايات المتحدة على أعداد واسعة من قواتها البرية والجوية في أورويا، إعتقادا منها أنّ بلدان غرب أوروبا ليس بوسعها إحتواء الإتحاد السوفياتي في إقليمها. في أوقات أخرى، يمكن للولايات المتحدة حتّى أن تنتظر ثمّ تتدخل بعد إندلاع الحرب، ما إذا تبدّى أنّ طرفا ما من المرجّح أن يبرز كمهيمن إقليمي. مثل هذا الوضع كان أثناء الحربين العالميتين: فلم تتدخل الولايات المتحدة إلاّ بعدما بدى من المرجح أن تهمين ألمانيا على أوروبا.
الحاصل، أنّ الهدف هو البقاء بعيدا عن المجال الخارجي قدر الإمكان، مع إدراك أنّه في بعض الأحيان يصير الأمر ضروريا للتدخل في هذا المجال. لكن إذا ما حدث ذلك، فعلى الولايات المتحدة أن تجعل حلفاءها يبذلون -جهودهم- قدر المستطاع لحمل العبئ الثقيل عنها وأن تسحب قواتها في أقرب وقت تقدر عليه.
تحظى إستراتيجية التوازن خارج المجال بفضائل عدّة، فعن طريق تقليص المساحات تلتزم القوات الأمريكية بالدفاع عن بقية الدول ودفعها إلى الضغط بوزنها أكثر، إنّها تقلّص حجم الموارد التّي يجب على الولايات المتحدة أن تخصّصها للدفاع، كما أنّها تتيح مزيدا من الإستثمار والإستهلاك داخل الديار، وتضع بشكل أقل حياة الأمريكيين على طريق الخطر. اليوم، يمتطي الحلفاء بشكل روتيني الحماية الأمريكية ويستفيدون منها، هذا مشكل نمى فقط منذ نهاية الحرب الباردة، مثلا، داخل الناتو، تُشكّل الولايات المتحدة الآن ما نسبته 46% من مجموع الناتج المحلي للحلفاء، مُساهمة بحوالي 75% من إنفاقه العسكري. مثلما علّق عالم السياسة باري بوزان (Barry Posen) ساخرا: “هذه رفاهية للأغنياء”.
يمكن لإستراتيجية التوازن خارج المجال أن تُقلّص أيضا خطر الإرهاب. تُلزم مقاربة “الهمينة الليبرالية” الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية في أماكن غير مألوفة، تتطلّب في بعض الأحيان إحتلالا عسكريا، كما أنّها تنطوي دوما على التدخّل في الترتيبات السياسية المحليّة. تعزّز هذه الجهود بشكل دائم من الإستياء الوطني، ولأنّ الخصوم جدّ ضعفاء لمواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر، فإنّهم يلجأون في بعض الأحيان إلى الإرهاب. (إنّه لمن السيء تذّكر أنّ أسامة بن لادن –خلال قيامه بالتخطيط لهجمات الحادي عشر من أيلول- كان مُحفَّزا في قسم لا بأس به بتواجد القوات الأمريكية على أرض وطنه المملكة العربية السعودية). بالإضافة إلى ذلك، ولإلهام الإرهابيين، فقد سهلّت مقاربة الهيمنة الليبرالية من عملياتهم: اللجوء إلى تغيير النظام لنشر القيم الأمريكية، تقويض المؤسسات المحلية وإنشاء مناطق غير خاضعة للحكومة، أين يمكن للمتطرفين العنيفين الإزدهار.
يمكن لإستراتيجية التوازن خارج المجال أن تُخفِّف من حدّة هذه المشكلة عبر تحاشي الهندسة الإجتماعية والتقليل من بصمة التواجد العسكري الأمريكي. يمكن للقوات العسكرية الأمريكية أن تتمركز على تراب أرض أجنبية فقط حينما يكون بلد ما في إقليم حيوي مهدّد من قِبل مهيمن ما. في هذه الحالة، فإنّ الضحية المحتلمة ستنظر للولايات المتحدة على أنّها المخلِّص بدلا من أن تكون في نظرها محتلاّ. وحينما يتمّ التعامل مع التهديد، يمكن للقوات العسكرية الأمريكية أن تتراجع عودةً عبر الأفق وألاّ تبقى وراء التدخل –كطرف- في السياسة المحلية. عبر إحترام سيادة بقية الدول، فسوف تكون إستراتيجية التوازن خارج المجال أقلّ إحتمالا لتعزيز المحاربة الأمريكية للإرهاب.
نبذة تاريخية مُطمئِنة:
من الممكن أن تبدو إستراتيجية التوازن خارج المجال كأنّها إستراتيجية راديكالية اليوم، إلاّ أنّها وفرّت منطقا توجيهيا للسياسة الخارجية الأمريكية لعقود عديدة وخدمت البلاد بشكل جيّد. خلال القرن التاسع عشر، إنشغلت الولايات المتحدة بالتوسّع عبر أمريكا الشمالية، بناء دولة قوية وإرساء الهيمنة في القسم الغربي من العالم. بعدما أتمّت هذه المهام مع نهاية القرن، صارت مهتمّة فورا بالحفاظ على توازن القوة في أوروبا وشمال آسيا. مع ذلك، فقد جعلت القوى الكبرى في هذه الأقاليم تراقب بعضها البعض، ولم تتدخل عسكريا إلاّ حينما إختّل ميزان القوة مثلما حدث في كلتا الحربين العالميتين. أثناء الحرب الباردة، لم يكن للولايات المتحدة خيار إلاّ أن تتجّه إلى الداخل في أوروبا وشمال شرق آسيا، حينما لم يتمكن حلفاءها في هذه الأقاليم من إحتواء الإتحاد السوفياتي بأنفسهم. لذلك، فقد تقدّمت الولايات المتحدة على حلفاءها وأرست قدرات عسكرية في كلا الإقليمين، كما خاضت الحرب الكورية لإحتواء النفوذ السوفياتي في شمال شرق آسيا.
لكن في الخليج الفارسي، بقيت الولايات المتحدة في الخارج، خارج المجال، تاركةً زمام المبادرة للمملكة المتحدة في منع أيّ دولة من السيطرة على هذا الإقليم الثريّ بالنفط. بعد الإعلان البريطاني بالإنسحاب من الخليج سنة 1968، إلتفتت الولايات المتحدة لشاه إيران وإلى المملكة السعودية لآداء هذه المهمة. حينما سقط الشاه سنة 1979، شرعت إدارة كارتر في بناء قوة إنتشار سريع، كقدرة عسكرية خارج المجال، مُصمّمة لمنع إيران أو الإتحاد السوفياتي من الهيمنة على الإقليم. لقد ساعدت إدارة ريغن العراق أثناء حرب البلاد مع إيران سنوات 1980-1988 لأسباب مشابهة. لقد بقيت القوات العسكرية الأمريكية خارج المجال إلى غاية 1990، حينما إستولى صدّام على الكويت مهدّدا قوة العراق، واضعًا كلّ من العربية السعودية وبقية دول الخليج المنتجة للنفط في خطر. لإستعادة توازن القوة الإقليمي، أرسلت إدارة جورج بوش الأب قوة عسكرية فورية لتحرير الكويت وسحق آلة صدّام العسكرية.
بإختصار، ولمدّة قرن تقريبا، فقد حالت إستراتيجية التوازن خارج المجال دون بروز مهيمنين إقليميين خطرين، كما حافظت على توازن القوة الذّي عزّز الأمن الأمريكي. بصراحة وعلى نحو معبِّر، حينما حاد صنّاع القرار الأمريكيين عن هذه الإستراتيجية –مثلما فعلوا في الفيتنام المكان الذّي لم يكن فيه للولايات المتحدة أيُّ مصلحة تُذكر- كانت النتيجة فشل مكلف.
إنّ الأحداث المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة تُعلّمنا نفس الدرس. في أوروبا، بمجرد إنهيار الإتحاد السوفياتي، لم يعد للمنطقة مهيمن إقليمي على المدى البعيد. ينبغي على الولايات المتحدة أن تُقلّص بشكل مطرد من تواجدها العسكري، زرع علاقات وديّة مع روسيا وأن تجعل الأمن الأوروبي بيد الأوربيين أنفسهم. في الواقع، فإنّ توسِعت الناتو وتجاهلها للمصالح الروسية، يُساعد على إشعال شرارة النزاع حول أوكرانيا ويقود موسكو لأن تصير أقرب إلى الصين.
في الشرق الأوسط، وبطريقة مماثلة، كان على الولايات المتحدة أن تتراجع إلى الخارج بعد حرب الخليج وأن تترك العراق وإيران يوازنان بعضهما البعض. في الواقع، فقد تبنّت إدارة كلينتون سياسة “الإحتواء المزدوج” (Dual Containment)، التّي تطلّبت الإبقاء على قوات برية وجوية في السعودية لمراقبة العراق وإيران في الوقت نفسه. تبنّت إدارة جورج بوش بعدها إستراتيجية أكثر طموحا حتّى أطلق عليها –مقاربة: “التحول الإقليمي” Regional Transformation))، والتّي أنتجت خسائر فادحة وفشلا في أفغانستان والعراق.
لقد كرّرت إدارة أوباما نفس الخطأ حينما ساعدت على قلب نظام معمر القذافي في ليبيا وحينما فاقمت من الفوضى في سوريا عبر الإصرار على رحيل بشار الأسد، مُقدِّمة المساعدة لخصومه. لقد كان التخلّي عن إستراتيجية التوازن خارج المجال بعد الحرب الباردة بمثابة وصفة حقيقية للفشل فعلا.
آمال الهيمنة الجوفاء:
يُرتِّب المدافعين عن الهيمنة الليبرالية عدداً من الحجج غير المقنعة دفاعا عن قضيتهم. إحدى الإدعاءات المألوفة تقول بأنّ القيادة الأمريكية المفعمة بالحيوية وحدها قادرة على الحفاظ على النظام حول العالم. إلاّ أنّ القيادة الكونية لا تتوّقف عند ذاتها وحسب: مرغوب فيها فقط بقدر ما تنتفع بها الولايات المتحدة مباشرة.
إدّعاء آخر يُحاجج بأنّ القيادة الأمريكية أمر ضروري لتجاوز مشكلة الحركة الجماعية للفواعل المحلية عندما تفشل في التوازان ضدّ المهيمن المحتمل. إلاّ أنّ إستراتيجية التوازن خارج المجال تُدرك هذا الخطر، وتدعو واشنطن إلى التدخّل إذا لزم الأمر. لا يعني ذلك حظر واشنطن عن تقديم النصيحة للدول الصديقة في الأقاليم الرئيسية أو تقديم المساعدات المادية.
يُحاجج مدافعون آخرون عن “الهيمنة اللبيرالية” بأنّ القيادة الأمريكية تُعدّ أمرا ضروريا للتعامل مع التهديدات الجديدة والتقليدية الناجمة عن الدول الفاشلة، الإرهاب، شبكات الإجرام تدفّق اللاجئين وما شابه. ويُحاججون بأنّ الأمر لا يقتصر فقط على توفير حماية –غير كافية- للمحيطيْن الأطلسي والهادئ في مواجهة هذه المخاطر ولكن توفير تكنولوجيا عسكرية حديثة أيضا لجعل الأمر أكثر سهولة بالنسبة للولايات المتحدة للدفع بالقوة نحو الخارج حول العالم والتعامل مع هذه المخاطر. اليوم تُعدّ “القرية الكونية” بإختصار، أكثر خطورةً ولكنّها أسهل على الإدارة.
تصرّ هذه الرؤية على مثل هذه التهديدات وتُبالغ في قدرة واشنطن على القضاء عليها. يمكن أن تكون الجريمة، الإرهاب والمشكلات المشابهة أمرا مزعجا، إلاّ أنّها تهديدات وجودية جدّية وناذرا ما توفّر لنفسها حلولا عسكرية. في الحقيقة، فإنّ التدخل المستمر في شؤون الدول الأخرى –خاصة التدخلات العسكرية المتكرّرة- تولّد إستياءًا محليا وتشجع على الفساد، وبالتالي تجعل هذه المخاطر العابرة للقوميات أخطارا أسوء بكثير. إنّ الحلول طويلة المدى لهذه المشكلات يمكن أن تكون فقط حوكمة محلية ذات كفاءة، وليس جهودا أمريكية غليظة لحراسة العالم.
بغضّ النظر إن كانت حراسة العالم رخيصة كما يزعم المدافعون عن الهيمنة اللبيرالية أم لا، وبغضّ النظر عن الدولارات التّي أُنفقت أو الأراوح التّي أُزهقت، فقد كلفّت حربا أفغانستان والعراق ما بين 4 إلى 6 تريليون دولار ومقتل حوالي 7 آلاف جندي أمريكي وجرح أكثر من 50 ألف. يتعرّض المحاربون القدامى لهذين الحربين إلى معدلات عالية من الإحباط والإنتحار، مع ذلك، فإنّ الولايات المتحدة تُظهر القليل فقط في مقابل تضحياتهم هذه.
يخاف المدافعون عن هذا الوضع القائم أيضا أن تتيح إستراتيجية التوازن خارج المجال لبقية الدول أن تحتل مكان الولايات المتحدة على ذروة القوة الكونية. على العكس من ذلك، فإنّ هذه الإستراتيجية سوف تُطيل هيمنة البلد إلى أمد أبعد عن طريق إعادة تركيز جهوده على الأهداف الجوهية. خلافا للهمينة اللبيرالية، فإنّ إستراتيجية التوازن خارج المجال تتجنّب إهدار الموارد على “حملات صليبية” مُضرّة، والتّي من شأنها أن تتيح للحكومة أن تستثمر أكثر على المدى البعيد في مقومات القوة والإزدهار: كالتعليم، البنية التحتية، الأبحاث والتنمية. فلنتذكر أنّ الولايات المتحدة صارت قوة عظمى عبر الإبتعاد عن الحروب الخارجية وبناء إقتصاد ذو طراز عالمي، وهي نفس الإستراتيجية التّي تتبعها الصين عبر العقود الثلاثة السابقة. في غضون ذلك، خسرت الولايات المتحدة تريليونات من الدولارات، واضعة ريادتها في خطر على المدى البعيد.
تتمسّك حجة أخرى بمقولة أنّ الجيش الأمريكي يجب أن يحمي العالم لإبقاء السلام والحفاظ على إقتصاد عالمي منفتح. يقود المنطق إلى أنّ الإنكماش –على الذات- سوف يجدّد المنافسة بين القوى العظمى، فهو بمثابة دعوة هدّامة بين المنافسين الإقتصاديين وهو يُطلق في النهاية شرارة لحرب كبرى ولن يكون بإستطاعة الولايات المتحدة أن تبقى بمعزل عنها، فالأفضل هو الحفاظ على لعب دور دركي العالم بدلا من المُخاطرة بتكرار سيناريو ثلاثينات القرن العشرين.
لا تُعتبر مثل هذه المخاوف مخاوف مقنعة. تفترض هذه الحجة بالنسبة للمبتدئين أنّ الإنخراط العميق للولايات المتحدة في أوروبا كان سيمنع إندلاع الحرب العالمية الثانية، هو إدعاء من الصعب أن يتناسق مع رغبة أدولف هتلر غير المتزعزعة للحرب. سوف تحدث حروب إقليمية في بعض الأحيان بغضّ النظر عمّا تفعله واشنطن، ولكن ليس على الولايات المتحدة أن تتورط إلاّ إذا كانت مصالحها على المحك. في الحقيقة، فقد بقيت الولايات المتحدة في بعض الأحيان خارج الحروب الإقليمية –على غرار الحرب الروسية-اليابانية، الحرب الإيرانية-العراقية والحرب الراهنة في أوكرانيا- داحضة الإدعاء القائل بحتمية الإنزلاق إليها. وإذا ما دُفع البلد إلى خوض قتال مع قوة كبرى، فمن الأفضل له أن يتأخر في الدخول إلى هذا القتال وأن يترك البلدان الأخرى تتحمّل وطأة التكاليف. فكونها آخر قوة كبرى دخلت كلا الحربين العالميتين، فقد برزت الولايات المتحدة كأقوى طرف من البقية، ذلك أنّها إنتظرت وتأخرّت عن دخول الحرب.
الأكثر من ذلك، فإنّ التاريخ الحديث يُلقي ظلالا من الشكّ على الإدعاء القائل بأنّ القيادة الأمريكية تحفظ السلام. فخلال ال25 سنة الماضية، تسبّبت الولايات المتحدة في العديد من الحروب في الشرق الأوسط أو ساعدت على إندلاعها، كما غذّت العديد من النزاعات الصغرى في أمكان أخرى من العالم. فإذا كانت الهيمنة الليبرالية تفترض تعزيز الإستقرار الكوني، فإنّها أدّت عملا ضعيفا.
كما أنتجت هذه الإستراتيجية كثيرا فيما يتعلق بالمنافع الإقتصادية. ونظرا لأنّها تحظى بمكانة محمية آمنة في النصف الغربي من العالم، فإنّ الولايات المتحدة حرّة في التجارة والإستثمار أينما وُجدت فرص مربحة. لأنّ كلّ البلدان لها مصلحة مشتركة في نشاط ما، فواشنطن ليست بحاجة لأن تلعب دور دركي العالم حتّى تبقى منخرطة إقتصاديا مع البقية. في الحقيقة، فإنّ الإقتصاد الأمريكي كان سيصير بشكل أفضل اليوم لو لم تُنفق الحكومة أموالا طائلة، محاولةً حكم العالم.
يدعي المؤيدون للهيمنة الليبرالية أيضا، بأنّ على الولايات المتحدة أن تبقى ملتزمة عبر العالم بأكمله لمنع الإنتشار النووي: فإذا ما قلصّت دورها في الأقاليم الأساسية أو إنسحبت كليا، حسبما يدّعي هؤلاء، فإنّ البلدان المتعودّة على الحماية الأمريكية سوف لن يكون أمامها خيار لحماية نفسها إلاّ عبر الحصول على أسلحة نووية.
لا تُوجد إستراتيجية كبرى من المرجّح لها أن تُثبت نجاحا كليّا في منع الإنتشار النووي، إلاّ أنّ إستراتيجية التوازن خارج المجال بإمكانها أن تقوم بمهمة أفضل مقارنة بالهيمنة الليبرالية. قبل كل شيء، فقد فشلت هذه الإستراتيجية في إيقاف كل من الهند وباكستان من تكثيف قدراتهما النووية، أو الحيلولة دون أن تصبح كوريا الشمالية عضوا جديدا في النادي النووي. أو منع إيران من تحقيق تقدّم كبير في عملياتها فيما يخصّ ملفها النووي. تسعى البلدان عادة إلى تحصيل القنبلة النووية خوفا من تعرضّها للهجوم من قِبل الآخرين، إنّ جهود الولايات المتحدة في تغيير النظام لم تتسبّب إلاّ في زيادة مثل هذه المخاوف. فعبر تحاشي تغيير النظام والتقليص من وطأة القوة العسكرية الأمريكية، فإنّ بإمكان إستراتيجية التوازن خارج المجال أن تمنح للساعين المحتملين حجّة أقل لتحصيل السلاح النووي.
علاوة على ذلك، ليس بإمكان الفعل العسكري أن يمنع دولة عازمة على تحصيل أسلحة نووية في نهاية المطاف، بإمكانه فقط أن يكسب مزيدا من الوقت.
لقد كانت الصفقة الأخيرة مع إيران بمثابة تذكير أنّ الضغوطات المتناسقة متعدّدة الأطراف والعقوبات الإقتصادية الصارمة، لهي أفضل وسيلة لإحباط الإنتشار النووي من الحرب الوقائية أو تغيير النظام.
لنكون متأكدين، لو قامت الولايات المتحدة بتقليص ضماناتها الأمنية، فمن الممكن أن تسعى عدد من الدول غير المحصّنة إلى تحصيل ردع نووي خاص بها، وهي محصّلة غير مرغوب فيها. إلاّ أنّ كل الجهود الخارجية لمنعها من المؤكد أن تكون في أغلب الأحوال جهودا مكلفة وغير ناجحة. إلى جانب ذلك، فمن الممكن ألاّ تكون بالغة الخطورة كما يخشى المتشائمون. إنّ الحصول على القنبلة النووية لا يُحوِّل بلدانا ضعيفة إلى قوى عظمى أو يُمكّنها من إبتزاز الدول المنافسة. لقد إجتازت عشر دول العتبة النووية منذ سنة 1945، ولم ينقلب العالم رأسا على عقب. سوف يبقى الإنتشار النووي مدعاةً للقلق بغضّ النظر عمّا تقوم به الولايات المتحدة. إلاّ أنّ إستراتيجية التوازن خارج المجال توّفر أفضل إستراتيجية للتعامل معه.
وهم الديمقراطية:
يرفض نقّاد آخرون إستراتيجية التوازن خارج المجال بسبب إيمانهم أنّ للولايات المتحدة إستراتيجية أخلاقية مُلحّة تهدف لترويج الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. فهُم يرون أنّ نشر الديمقراطية سوف يُخلّص العالم بشكل واسع من الحرب والدكتاتوريات، مُحافظة على الولايات المتحدة آمنة، كما أنّها تُخفّف من المعاناة.
لا أحد يعرف أنّ عالما مكوّنا من ديمقراطيات لبيرالية سوف يثبت السلام، إلاّ أنّ عملية نشر الديمقراطية عبر فُوّهة البندقية ناذرا ما ينفع، كما أنّ الديمقراطيات الناشئة معرضّة بالأخص للنزاع. بدلا من تعزيز السلام، فلتُنهي الولايات المتحدة خوض الحروب اللامنتهية. الأسوء من ذلك، أنّ التغذية القسرية للقيم اللبيرالية في الخارج بإمكانها أن تجعل هذه القيم مُعرضّة للتساوم داخل الديار. إنّ الحرب الكونية على الإرهاب وما إرتبط بها من جهود بهدف زرع الديمقراطية في أفغانستان والعراق، أدّت إلى تعذيب المساجين، عمليات القتل المستهدفة، والمراقبة الإلكترونية واسعة النطاق على المواطنين الأمريكان.
يرى بعض المدافعين عن –مقاربة- الهمينة البيرالية، أنّ رؤية حاذقة للإستراتيجية بإمكانها أن تحول دون العديد من الكوارث التّي حدثت في أفغانستان، العراق وليبيا. إنّهم يُخادعون أنفسهم. يحتاج ترويج الديمقراطية إلى هندسة إجتماعية واسعة النطاق للمجتمعات الأجنبية. الأمر الذّي لا يستوعبه الأمريكان. في العادة، يخلق تفكيك وإعادة تشكيل المؤسسات السياسية القائمة، لا محالة أطراف رابحة وأخرى خاسرة. عندما يحدث ذلك، فإنّ المسؤولين الأمريكيين –الذّين يؤمنون أنّ مصداقية بلدهم هي اليوم على المحك- ينزَعون إلى إستخدام القوة العسكرية الأمريكية المهيبة في أمل منهم لإصلاح المشكلة، هكذا تنجرّ البلاد إلى مزيدا من النزاعات.
إذا ما أراد الشعب الأمريكي تشجيع نشر الديقراطية اللبيرالية، فإنّ الطريقة الأمثل للقيام بذلك هي إرساء مثال أحسن. من المرجّح أن تسعى البلدان الأخرى إلى محاكاة الولايات المتحدة إذا ما رأت فيها مجتمعا عادلا، مزدهرا ومنفتحا. هذا ما يعني القيام بجهود أكبر لتحسين ظروف ذلك داخل الديار، وجهود أقل في التلاعب بالسياسة على المستوى الخارجي.
الإشكالية المُلهِية:
يُوجد أيضا أولئك الذّين يعتقدون أنّه ينبغي على واشنطن أن ترفض الهيمنة اللبيرالية على أن تُبقي حجم كبير من القوات الأمريكية في أوروبا، شمال شرق آسيا والخليج الفارسي، فقط حتّى تحول دون إنفلات المشكلات. يُحاججون بأنّ هذه السياسة ذات التأمين المنخفض سوف تُنقذُ أروحا وتوّفر أموالا على المدى البعيد، سوف لن يكون على الولايات المتحدة أن تركب الموجة بهدف الإنقاذ بعدما تنشب الحرب. هذه المقاربة –التّي تُدعى أحيانا “بالإنخراط الإنتقائي” (Selective Engagement)- تبدو جذّابة إلاّ أنّها لن تعمل أبدا.
بالنسبة للمبتدئين، فمن المرجّح أن تعود –هذه المقاربة في أصولها- إلى الهيمنة اللبيرالية. فما إن تلتزم الولايات المتحدة بالمحافظة على السلام في الأقاليم الأساسية، فسوف يميل القادة الأمريكان إلى نشر الديمقراطية أيضا، بناءًا على الإيمان واسع الإنتشار بأنّ الديمقراطيات لا تُحارب بعضها البعض. لقد كان هذا المنطق الكامن وراء تَوْسِعًتْ الناتو بعد الحرب الباردة، مع هذا الهدف المعلن: “أوروبا واحدة وحرّة”. في العالم الحقيقي، فإنّ الخط الذّي يفصل الإنخراط الإنتقائي عن الهيمنة اللبيرالية خط يمكن مسحه بسهولة.
يفترض المؤيّدون للإنخراط الإنتقائي أيضا أنّ مجرد تواجد القوات الأمريكية في العديد من الأقاليم سوف يضمن السلام، وبالتالي لا داعي أن يقلق الأمريكان بخصوص الإنجرار إلى نزاعات بعيدة. بعبارة أخرى، فإنّ تمديد نطاق الإلتزامات الأمنية أبعد وأوسع يفرض مخاطر قليلة.
إلاّ أنّ هذه الفرضية مُغرقة في التفائل: فمن المؤكد أن يتصرّف الحلفاء بطريقة رجعية متهوّرة، كما يمكن للولايات المتحدة ذاتها أن تُشعل النزاعات. في الحقيقة، فقد فشل الإلهاء الأمريكي في منع حدوث حروب البلقان سنوات التسعينات، الحرب الروسية-الجورجية سنة 2008 والنزاع الحالي في أوكرانيا. في الشرق الأوسط، تعتبر واشنطن مسؤولة بشكل واسع عن العديد من الحروب الراهنة. أمّا في بحر الصين الجنوبي، فيعتبر النزاع اليوم إحتمالا حقيقيا بالرغم من الدور الإقليمي الجوهري للبحرية الأمريكية هناك. إنّ تموضع القوات الأمريكية حول العالم لا يعني ضمان السلام بشكل آلي.
كما لا تُعالج مقاربة الإنخراط الإنتقائي مشكلة ترحيل المسؤولية. فلنقل أنّ المملكة المتحدة تقوم الآن بسحب جيشها من القارة الأوروبية، في الوقت الذّي يواجه فيه الناتو ما يعتبره تهديدا متناميا قادما من روسيا. مرة أخرى، من المتوقع تعامل واشنطن مع المشكلة، رغم أنّ السلام في أوروبا ينبغي أن يعني إلى أبعد حدّ قوى الإقليم ذاتها.
الإستراتيجية في خِضمّ العمل:
كيف يمكن لإستراتيجية التوازن خارج المجال أن تبدو في عالم اليوم؟ تقول الأخبار السارّة أنّه من الصعب التنبؤ بوجود تحدّي جدّي للهيمنة الأمريكية في القسم الغربي من العالم، وإلى الآن، لا وجود لمهيمن محتمل يتربّص في أوروبا أو الخليج الفارسي. أمّا الأخبار السيئة فتقول: أنّ الصين تستمر بصعودها المذهل، ومن المحتمل أن تسعى إلى الهيمنة في آسيا. ينبغي على الولايات المتحدة أن تشرع في مباشرة جهود جبّارة للحيلولة دون نجاحها في ذلك.
من الناحية المثالية، سوف تعتمد واشنطن على القوى المحلية لاحتواء الصين، إلاّ أنّه من الممكن لهذه الإستراتيجية ألاّ تعمل. ليس فقط بسبب إحتمالية أن تصير الصين أكثر قوة من جيرانها، ولكن نظرا لأنّ هذه الدول أيضا تتموقع – جغرافياً – بعيدة عن بعضها البعض، جاعلة من الصعوبة بمكان تشكيل إئتلاف توازني فعّال. على الولايات المتحدة أن تنسّق جهود هؤلاء وعليها أيضا أن تُلقلي بثقلها إلى جانب هؤلاء. في آسيا، على الولايات المتحدة أن تكون فعلا “الأمة التّي لا غنى عنها”.
في أوروبا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تُنهي وجودها العسكري وتعيد الناتو إلى الأوربيين. ليس هناك سبب جيّد في إبقاء القوات الأمريكية في أوروبا، فليس لأيّ بلد هناك قدرة الهيمنة على الإقليم. فكلا المتنافسيْن ألمانيا وروسيا يفتقدان إلى القوة النسبية، كما أنّ عدد سكانهم في تناقص مستمر، ولا وجود لمهيمن آخر في الأفق. الأمر المسلّم به أنّ ترك الأمن الأوروبي في يدّ الأوروبيين من شأنه أن يزيد من إحتمالية حدوث مشكلات هناك. مع ذلك، ففي حالة ما إذا نشب نزاع، فإنّه لن يهدّد المصالح الأمريكية الحيوية هناك. وبالتالي، فليس هناك سبب بالنسبة للولايات المتحدة في إنفاق بلايين الدولارات كلّ عام (وتعريض حياة مواطينها للخطر) فقط بهدف منع ذلك.
في الخليج، على الولايات المتحدة أن تعود إلى إستراتيجية التوازن خارج المجال التّي خدمتها بشكل جيّد منذ العمل بإستراتيجية الإحتواء المزدوج. لا توجد الآن قوة لها مكانة تسمح لها بالهيمنة على الإقليم، لذلك، فبإمكان الولايات المتحدة أن تحرّك قواتها رجوعا عبر الأفق.
فيما يتعلّق بداعش، فعلى الولايات المتحدة أن تترك للقوى الإقليمية –هناك- أن تتعامل مع هذه المجموعة وتحصر جهودها الخاصة في توفير الأسلحة، الدعم الإستخباراتي والتدريب العسكري. تُمثّل داعش تهديدا جدّيا إلاّ أنّها تُعتبر مشكلة صغيرة بالنسبة للولايات المتحدة، وإنّ الحلّ الوحيد بعيد المدى –لهذه المشكلة- هو إقامة مؤسسات محلّية أفضل، وهو شيء لا يمكن لواشنطن أن توفرّه.
في سوريا، على الولايات المتحدة أن تترك لروسيا زمام الأمور. سوريا مستقِرة تحت حكم الأسد أو مقسّمة إلى دويلات صغيرة متنافسة سوف تُشكّل خطرا ضئيلا على المصالح الأمريكية. إنّ لكلّ من الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين تاريخا ثرّيا من العمل مع نظام الأسد، كما أنّ وجود سوريا مقسّمة وضعيفة لن يُهدّد توازن القوة الإقليمي. فإذا إستمرت الحرب الأهلية، فسوف تكون بمثابة مشكل كبير بالنسبة لموسكو، رغم أنّه ينبغي على واشنطن أن تكون مستعدة للمساعدة في التوسط لتسوية سياسية.
من الآن، على الولايات المتحدة أن تُباشر علاقات أحسن مع إيران. ليس من مصلحة واشنطن أن تتخلّى طهران عن الإتفاق النووي وتتسابق لأجل الحصول على القنبلة النووية، وهي النتيجة التّي ستصير أكثر إحتمالا إذا خشيت طهران من تعرّضها لهجوم من قِبل الولايات المتحدة، وبالتالي فإنّه من العقلانية إصلاح ذات البين. علاوة على ذلك، سوف ترغب الصين في إيجاد حلفاء لها في الخليج كلّما تنامت طموحاتها، ومن المحتمل أن تكون إيران الحليف رقم واحد على القائمة. (من الأشياء المبشّرة بذلك، في شهر يناير الماضي قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة طهران ووقّع على 17 إتفاقية مختلفة). إنّ للولايات المتحدة مصلحة واضحة في إحباط التعاون الأمني الصيني-الإيراني، الأمر الذّي يتطلّب الوصول إلى إيران.
لإيران أكبر عدد من السكان وإمكانيات إقتصادية أعظم بكثير من جيرانها العرب، ومن الممكن لها في النهاية أن تأخذ مكانة المهيمن على الخليج. ففي حالة ما إذا بدأت التحرك في هذا الإتجاه، فعلى الولايات المتحدة أن تُساعد بقية دول الخليج لتتوازن ضدّ طهران، متفحصّة جهودها الذاتية وتواجدها العسكري الإقليمي، نظرا لعِظم هذا الخطر.
بيت القصيد:
إنّ إتّباع هذه الخطوات جميعا، سيُتيح للولايات المتحدة بشكل ملحوظ تقليص إنفاقها الدفاعي. حتّى وإن كانت القوات الأمريكية ستظّل في آسيا، فإنّ الإنسحاب من أوروبا والخليج الفارسي سوف يحرّر مليارات الدولارات، مثلما ستفعل تخفيضات الإنفاق على محاربة الإرهاب وإنهاء الحرب في أفغانستان والعراق وغيرها من التدخلات ما وراء البحار. ينبغي على الولايات المتحدة أن تُحافظ على أصول بحرية وجوية جوهرية متواضعة لكن أن تُحافظ –في المقابل- على قوات برية مؤهلة، وأن تقف مستعدة لتوسِعَتْ قدراتها كلّما تطلّبت الظروف ذلك. لكن في المستقبل المنظور، يمكن للحكومة إنفاق مال أكثر على الاحتياجات المحلية أو تترك –هذا المال- في جيوب دافعي الضرائب.
لقد وُلدت إستراتيجية التوازن خارج المجال من رحم الثقة بالتقاليد الجوهرية للولايات المتحدة والإدراك المستمر بمزاياها. إنّها تستغل موقع البلد الجغرافي المتميّز، كما أنّها تُدرك المحفّزات القوية التّي تجعل الدول الأخرى تتوازن ضدّ الجيران أصحاب القوة المفرطة أو الطموحات. فيما يتعلق بقوة النَزعَة القومية، فهي لا تُحاول فرض القيم الأمريكية على المجتمعات الأجنبية، فهي تركّز على تجسيد مثال سوف يرغب الآخرين في محاكاته. مثلما كان الأمر في الماضي، فإنّ إستراتيجية التوازن خارج المجال ليست إستراتيجية تُلاصق بشكل أقرب المصالح الأمريكية وحسب، ولكنّها أيضا إستراتيجية تصْطّفُ بشكل أفضل مع الأولويات الأمريكية.
[1] جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأمريكية، ورائد تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة في شقها الهجومي.
[2] ستيفن والت، أستاذ الشؤون الدولية بمدرسة جون كيندي التابعة لجامعة هارفرد الأمريكية، ورائد تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة في شقها الدفاعي
[…] جون ميرشايمر وستيفن والت، «بالتوازن خارج المجال» (Offshore Balancing)؛ والذي يحرض الولايات المتحدة على التخلي عن […]
[…] more restrained U.S. foreign policy). للوهلة الأولى قد تبدو إستراتيجية “التوازن خارج المجال” “Offshore balancing” (الإسم الآخر لمقاربة الكبح وضبط النفس) […]
[…] والأوروبيّين على حدٍّ سواء. ينتقد المقال أيضًا مقاربة “التوازن خارج المجال”(Offshore Balancing) ، ودعوتها واشنطن لتفكيك الكثير من تحالفاتها وقواعدها […]
price of tadalafil
التوازن خارج المجال: استراتيجية التفوق الأمريكية الكبرى idrak – إدراك
college essay help nyc
التوازن خارج المجال: استراتيجية التفوق الأمريكية الكبرى idrak – إدراك