خالد تركاوي
نبتت جذور اقتصاد الحرب في سورية مع استلام البعث للسلطة خلال ستينيات القرن الماضي، فبعد الانقلاب الأكثر دموية في تاريخ سورية والذي حصل من خلال انقلاب الجناح اليساري في الحزب على الجناح اليميني، سيطر حافظ الأسد على المؤسسة العسكرية من خلال وزارة الدفاع، فيما سيطر زميله من نفس الجناح (صلاح جديد) على المؤسسة المدنية المتمثلة بمؤسسات الحزب، فمع مطلع السبعينيات عزل الجناح المدني بقيادة صلاح جديد حافظ الأسد عن السلطة العسكرية، ولكن الأخير رفض الانصياع للأوامر واعتقل من أمر بعزله من الأكثرية الحزبية، لينطلق التاريخ السوري الحديث من ترسيخ جذور المؤسسة العسكرية ومن ثم الأمنية في مختلف مفاصل الدولة، والاحتياط أو الاستعداد الدائم لانقلاب قادم أو ثورة شعبية.
وطيلة عهد الأسد الأب، سيطرت الأجهزة الأمنية على المؤسسات المدنية في الدولة، وتملك الجيش مؤسسات معامل الدفاع والإنشاءات العسكرية وغيرها من المؤسسات الحيوية، وظلت المشتريات الحكومية حكراً على مؤسسات الجيش أو مؤسسات مرتبطة بالأمن، كما أن مراكز البحث العلمي والتطوير تم حصرها بيد وزارة الدفاع، ففي دمشق ظلت البحوث العلمية في جمرايا وبرزة تتبع وزارة الدفاع، حتى أن الطالب الراغب بدراسة قسم من أقسام البحوث العلمية، كان بمجرد دخوله إلى المعهد يعيش حياة عسكرية ويتلقى تدريبات أمنية. وقد تم توجيه كل هذه المؤسسات لترسيخ حكم الأسد وليس لخدمة السوريين، فالتعيين في المناصب العليا يأتي على أساس الولاء وليس الكفاءة، حيث يشترط الدستور أن يكون الوزراء ورئيس الوزراء من البعثيين وتشترط الأفرع الأمنية أن يكونوا من المؤيدين للأسد الأب، وتم تعيين كبار المؤيدين للأسد في إدارة المؤسسات الاقتصادية الكبرى التي تتبع للدولة -بناءً على نهج الحزب الاشتراكي المتبع – مع استبعاد كل من يشكل خطراً على الأسد، أو يبقى في المنطقة الرمادية مهما كانت كفاءته، ورغم مرور سورية بأزمة اقتصادية كبيرة مطلع التسعينات إلا أن الأسد لم يفسح المجال لما اسماه صغار البرجوازيين بالمساهمة بتخفيف العبئ على الشعب إلا عبر نظامه وضمن قنواته، حيث اضطر أغلب التجار لعقد صفقات شراكة مع رؤساء الأفرع الأمنية، ووجد الأسد في دخوله إلى لبنان متنفساً كبيراً لإدخال المواد التي عجز جهازه الإنتاجي عن تأمينها للسوريين، فانتقل الجيش المصنّع إلى مرحلة الجيش التاجر، حيث كان صغار التجار وعموم أفراد الشعب المقتدرين يشترون موادهم الرئيسية من عناصر الجيش أو ضباطه المتواجدين في لبنان.
ومع استلام الأسد الابن للسلطة وإدارة ظهره للاشتراكية، حافظ بشار على سيطرته على مركزية الاقتصاد السوري بيده، تحسباً لأي اضطرابات قادمة، فخرج أولاد المسؤولين إلى الواجهة مستفيدين مما جمعه أباءهم من أموال مغتصبة من السوريين في حقبة الأسد الأب، واستفادوا من نفوذ أباءهم للانطلاق لافتراس الأسواق مكونين شركات في مختلف المجالات العقارية والتجارية والإعلامية والصناعية، وقد ساند هؤلاء الأسد باعتبارهم جزءاً من السلطة في أول احتجاجات خرجت ضده، فمولوا الحرب ولا يزالوا يعملون بنفس الطريقة حتى هذه اللحظة.
على جانب أخر، كان الأسد الأب يعلم أن الاقتصاد لا يمكن أن يتم استحواذه بالسيطرة على مؤسسات الدولة وحسب، ولكن يجب إجراء تغييرات من نوع أخر في بنية المدن الصناعية والتجارية الرئيسية، فشجع على “ترييف” المدن الرئيسية، فنشأت في دمشق أحياء جديدة من سكان محسوبين على طائفة الأسد كحي المزة86 وحي تشرين في دمشق، وحي الزهراء والنزهة في حمص، ومساكن هنانو في حلب، وأحياء أخرى من لون واحد نشأت في مختلف المدن السورية وكان أساسها عائلات الضباط المكلفين باستلام القطع العسكرية في هذه المدن نفسها.
ومع بدء الثورة السورية ضد الأسد الابن مطلع 2011 لعب الاقتصاد المتمركز في قلب النظام عن طريق الذئاب الشابة، أو عن طريق السيطرة على مؤسسات الدولة الرئيسية دوراً محورياً في قمع الاحتجاجات، فعلى سبيل المثال رامي مخلوف الذي أنشأ جمعية البستان منتصف 2011 سارع على الفور لتمويل قوى اللجان الشعبية -التي تحولت إلى الدفاع الوطني- فيما بعد عن طريق هذه الجمعية، وعلى جانب أخر كان للسكان الجدد الموجودين في محيط المدن الكبرى دور كبير في الوقوف في وجه هذه التظاهرات، حيث تحول معظمهم إلى موارد بشرية في منظومة النظام العسكرية والأمنية بدافع الحفاظ على حقوقهم ومكتسباتهم، فالأكثرية في حال تولت الحكم فلن يبقَ للأقلية مزاياها السابقة بحسب رواية النظام لمؤيديه.