أطلقت الحكومة الفرنسية الأسبوع الماضي مبادرة تهدف إلى الوصول إلى حالة سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك عبر تنظيم مؤتمر دولي في باريس متعلق بالأمر. ولعل الملفت في الأمر أن أياً من الفلسطينيين أو الإسرائيليين لم تتم دعوتهم للاجتماعات التمهيدية ضمن المبادرة الفرنسية، بل تم دعوة مسؤولين أوروبيين وآخرين من الشرق الأوسط لتمهيد الطريق لإجراء محادثات مباشرة بين الطرفين في المستقبل القريب بناء على اعتماد حل الدولتين.
بنيامين نتنياهو وكثير من المسؤولين الإسرائيليين أكدوا انخفاض سقف توقعاتهم من هذه المبادرة خاصة أنها تستثني اسرائيل في اجتماعاتها الأساسية. فيما أكد نتنياهو أن المفاوضات المباشرة هي السبيل الوحيد لتسوية الصراع مطلقاً عرضاً لاستئناف المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين.
على الطرف الآخر، يمثل المؤتمر للفلسطينيين انتصاراً مزدوجاً خاصة وأنه يقلص دور الولايات المتحدة من وسيط رئيسي إلى مجرد مشارك عادي في المؤتمر. وينبع منطق التفاؤل الفلسطيني هنا من أنهم قد يجدون تعاطفاً أوسع من الجهات الأخرى خاصة بين حلفائهم الأوروبيين. ولعل ما يدعم هذا التوجه أيضاً نتائج التصويت الماضي في الأمم المتحدة على حصول فلسطين عضوية بمجلس الامن والذي حظي بدعم أوروبي واضح. ووفق تصريح سابق لنبيل شعث، المسؤول الكبير في حركة فتح فإن كل شيء أفضل في المفاوضات طالما خرجت عن السيطرة الأمريكية.
على صعيد آخر، سيساعد تحريك عملية السلام بعيداً عن المفاوضات الثنائية باتجاه مفاوضات متعددة الأطراف في تثبيت وربط معالم الدولة الفلسطينية المستقبلية. وكانت مجموعة من كبار مسؤولي فتح والسلطة الفلسطينية يعملون تحت مظلة المجموعة الاستراتيجية الفلسطينية قد أصدروا دراسة في عام 2015 بعنون ” طريق التدويل” تؤكد على أن أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تتم وتنفذ وفق إشراف وقرارات دولية” وبالفعل في سبتمبر الماضي دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى ” إطلاق محادثات سلام جماعية ومتعددة الأطراف” والتي من شأنها أن تكون شبيهة بالمفاوضات الصعبة التي شهدتها مناطق كالبلقان وإيران وليبيا. وبعبارة أخرى يأمل الفلسطينيون عبر مؤتمر باريس أن يبدأوا بالاستعانة بمصادر خارجية من أجل اتمام مفاوضات الوضع النهائي في إطار المجتمع الدولي.
وتعود أصول الاستراتيجية الفلسطينية هذه إلى ما حدث في الاتفاق النووي مع إيران الصيف الماضي، ففي المحادثات التي أدت إلى الوصول إلى الاتفاق شاهد الفلسطينيون كيف جلس قادة العالم للتوقيع على اتفاق دبلوماسي تعترض عليه إسرائيل بشدة. وبعد ثلاثة أشهر من توقيع الاتفاق – في نوفمبر 2015- دعا محمد شتيه، وهو مسؤول بارز في حركة فتح وأحد المخضرمين في أروقة المفاوضات، دعا إلى عقد مؤتمر دولي مماثل للمفاوضات النووية مع إيران مضيفاً:” لماذا لا يكون هناك مؤتمر دولي خاص بفلسطين كذلك المؤتمر الذي عقد لأجل إيران؟”.
وعلى الرغم من أن هذه النسخة من مؤتمرات السلام قد تبدو جديدة إلا أن الجهود الفلسطينية لنيل الاعتراف الدولي لا تعد كذلك، فمنذ عام 2011 بدأت القيادة الفلسطينية في معازلة فكرة تقديم مشروع قرار انضمام فلسطين كدولة عضو في مجلس الأمن. وتوجت جهود الفلسطينيين بترقية منزلة فلسطين إلى دولة مراقبة غير عضو في مجلس الأمن. وبحلول العام 2014، تمكن الفلسطينيون من الحصول على تسجيل في عشرات المنظمات الفلسطينية وهو ما شجعهم لاحقاً على الذهاب إلى مجلس الأمن في محاولة لقرار آخر متعلق بالدولة الفلسطينية. وعندما فشلت تلك المحاولة وقعت السلطة الفلسطينية على نظام روما الأساسي وانضمت إلى محكمة الجنايات الدولية، وهي الخطوة التي أمل عبرها الفلسطينيون في مواصلة توجيه الاتهامات لاسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضدهم.
ولكن، بعد الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام لا شيء. فلسنوات روج المسؤولون الفلسطينيون أن خطتهم المسماة ” فلسطين 194″ تهدف إلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية. إلا أنهم بعد أن أنجزوا ذلك صارت آمالهم المرتبطة بالانجاز المستقبلي مجرد وعود جوفاء. وقال مسؤول كبير في حركة فتح عما 2013 أن الانضمام إلى المحكمة سيكون بمثابة الورقة الرابحة التي من شأنها أن تحول ميزان القوى ضد إسرائيل من خلال تهديد قادتها بالمحكامات الدولية ضمن إطار القانون الدولي. فيما وصف قيادي آخر بفتح أن المحكمة كانت بمثابة “الملاذ الأخير” والتي من شانها أن تدفع باتجاه انعاش محادثات السلام ونقلهما من الفضاء الثنائي إلى الفضاء الدولي.
ولكن بمجرد انضمام الفلسطينينيين للمحكمة الجنائية الدولية، وجدوا أنفسهم تحت تعذيب القانون الدولي، المدعي العام فاتو بنسوده لم ينهي حتى الآن التحقيقات الأولية الطويلة في أحداث حرب غزة عام 2014. وفعلاً يخشى المسؤولون الإسرائيليون من انضمام الفلسطينيين إلى المحكمة الجنائية الدولية لكنهم يدركون أيضاً أن أي ملاحقة لهم لن تبدأ قبل سنوات طويلة. هذا عدا عن أن التحقيقات الأولية تبحث في سوء السلوك المزعوم والذي تتهم به بعض الأطراف حماس والأطراف الفلسطينية الأخرى خلال الحرب، وحتى لو أصدرت المحكمة أي حكم فإنه لن يخدم بشكل مباشر في إنشاء أي دولة فلسطينية.
إذاً هذا هو السبب الحقيقي في تحويل الفلسطينيين لتركيزهم نحو المجتمع الدولي، ففي وقت سابق من هذا العام، وقبل أن يصبح مؤتمر باريس أمراً واقعاً، قام عباس بتقديم مقترح لمجلس الأمن الدولي – شبيه بذلك الذي اعترضت علىيه أمريكا في 2011- والذي يقضي بتجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية. وعلى الرغم من عدم نجاح الفلسطينيين في إيصال مسودة القرار لمرحلة التصويت، إلا أن المسؤولين الأمريكيين ألمحوا إلى إمكانية عدم استخدامهم لحق النقض “الفيتو” مستقبلاً ضد قرار شبيه بالمشروع المطروح، نظراً للعلاقة السيئة الحالية بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل. وبهذا فإن هناك سبب وجيه لدعم توجه الفلسطينيين مجدداً لمجلس الأمن بمشروع قرار جديد قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي باراك اوباما. وهو ما تضمنه تقرير الفريق الاستراتيجي الفلسطيني عام 2015 والذي حث على متابعة انعقاد مؤتمر دولي متعدد الأطراف بالاضافة إلى التركيز على ” قرارات الأمم المتحدة المتعاقبة”.
يرى الفلسطينيون نافذة فرصة واضحة عبر قرار الاتحاد الاوروبي لمقاطعة المنتجات المصنعة داخل المستوطنات الإسرائيلية، وهو ما جاء في تزامن مع اعتراف جل البرلمانات الأوروبية بدولة فلسطينية وهو ما عزز شعر القادة الفلسطينيين بموجة متنامية من الدعم الدبلوماسي. وسيعزز تردد إدارة أوباما في أخذ زمام المبادرة في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني على تدويل القضية ونقلها لحلبة صراع أوسع من ذي قبل.
قد تدفع قمة باريس هذه كلاً من الفلسطينيين والإسرائيليين إلى الانضمام إلى محادثات السلام في وقت لاحق من هذا العام، بحيث ينتجون شيئاً أكثر من الكلام الفارغ لدعم عملية السلام. وبغض النظر عن نتائج قمة باريس هذه فإنها بلا شك تمثل انتصاراً حقيقياً للفلسطينيين لا يمكن تجاهله.
جرانت روميلي: باحث أمريكي مشارك في مركز الدفاع عن الديمقراطيات. يكتب للعديد من المواقع والمجلات العالمية ومختص بدراسة السياسة الفلسطينية والعلاقة الإسرائيلية – الفلسطينية.