هذا المقال منقول عن موقع نداء بوست
باسل حفار – آذار/مارس 2022
لا يختلف اثنان هذه الأيام حول أهمية وتَبِعات الغزو الروسي لأوكرانيا باعتباره واحدةً من أكبر الأزمات التي تعيشها أوروبا منذ زمن طويل، ورغم أنه من المبكر حالياً الحديث عن تَبِعات دقيقة لحدث بهذا التعقيد على المشهد في سورية، إلا أن خصوصية وضع أوكرانيا بالنسبة لسورية، تحتم علينا نحن السوريين الاستعداد مبكراً للانعكاسات المباشرة أو غير المباشرة للأزمة الأوكرانية على المشهد في سورية.
أحد أهم أوجه الربط بين المشهدين في أوكرانيا وسورية يتعلق بالفاعلين الرئيسيين في كل منهما، إذ يتشارك الفاعلية في كِلا المشهدين عدد من القوى الدولية في مقدمتها روسيا والولايات المتحدة، وإن اختلفت طبيعة وأدوار هؤلاء الفاعلين وغيرهم من الفاعلين الثانويين في هذا المشهد أو ذاك، فإنّ ديناميكيات الصراع في أوكرانيا لا بد وأن تمتد إلى سورية بدرجة ما، أما الوجه الآخر للربط بين الحالتين فيتلخص برغبة روسيا في كِلتا الحالتين بفرض قواعد جديدة للتعامل مع الغرب بشكل عامّ وحلف الناتو على وجه التحديد.
تعاني سورية -بمختلف مناطقها- مما يعاني أو يتخوف منه العالم أجمع هذه الأيام، من نقص في إمدادات بعض المواد الأساسية مثل القمح والشعير والسكر والحديد وموادّ البناء وغيرها، ومن ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الارتفاع العالمي في سعر النفط والغاز، وتختلف طريقة تعاطي كل منطقة في سورية بحسب الجهة المسيطرة، فالنظام مستمر في الاعتماد على الروس والانفتاح أكثر على الإيرانيين الذين يبدون مستعدين لتعويض أي فراغ أو تراجُع في الدور الروسي قد ينتج عن ظروف الحرب في أوكرانيا، أما الشمال السوري الذي يقع تحت سيطرة المعارضة، فيعتمد كلياً على الواردات التي تصله من تركيا أو عَبْرها، وبالتالي يمكن القول إنّ الوضع في الشمال يعتمد بدرجة كبيرة على الوضع في تركيا نفسها وعلى قدرة تركيا على تحقيق توازُن بين ما تحتاجه على صعيدها الداخلي وقدرتها على توفير احتياجات هذه المنطقة، أما مناطق سيطرة “قسد” فتعتمد على ما يصلها من مناطق الشمال ومناطق النظام ومخزون القمح من الأراضي الزراعية الواقعة تحت سيطرتها وهي مساحات شاسعة بطبيعة الحال.
عملياً يبدو أنّ النظام في سورية ومناطق سيطرته على وجه الخصوص، قد يكون الأكثر تضرراً من الأزمة الحالية مقارنة بباقي الأطراف في سورية، بسبب علاقته بروسيا واعتماده بشكل كبير عليها -بشكل رسمي أو غير رسمي- في تجاوُز العقوبات المفروضة عليه والالتفاف عليها، وبالتالي فمعظم الطرق والأساليب التي كان ينتهجها النظام لتجاوُز العقوبات قد تكون مجمَّدة أو مهدَّدة حالياً، بسبب التضييق الشديد الذي يُفرض على روسيا وشركاتها وأذرعها.
وتُوصف إيران بأنها قد تكون أحد أشد المستفيدين من الأزمة الأوكرانية لعدة أسباب، في مقدمتها توجه الأنظار إليها كمزود بديل للطاقة بعد تدهور العلاقات بين الأوروبيين والروس وإعلان الولايات المتحدة نيتها حظر الواردات الروسية من الطاقة، والأمر نفسه تقريباً بالنسبة للأوروبيين الذين أعلنوا عن عزمهم على الاستغناء عن الغاز الروسي بحلول عام 2030، وتخفيض حجم الاستيراد بمقدار الثلث قبل نهاية هذا العام، كل هذا من شأنه أن يقوي موقف الإيرانيين على عدة مستويات، خصوصاً في ظل التوتر في العلاقات “الأمريكية – السعودية” حيث تخوض السعودية والولايات المتحدة حرب طاقة باردة على خلفية موقف إدارة بايدن من السعودية ومن ملف حقوق الإنسان فيها وقضايا أخرى، وعدم استجابة السعودية للمطالبات الأمريكية بزيادة كميات إنتاج الطاقة مما ساهم في رفع أسعار الطاقة عالمياً.
الأمر الآخر الذي قد يصبّ في مصلحة إيران هو التوتر في العلاقات بين روسيا وإسرائيل نتيجة الوضع المعقَّد الذي يمنع إسرائيل -إلى حد ما- من اتخاذ موقفٍ أكثر وضوحاً ودقةً إلى جانب الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت يوتر علاقاتها مع روسيا وهو ما يحد من قدرتها على توجيه ضربات عسكرية للجهات والمصالح الإيرانية داخل الأراضي السورية؛ لأنها تأتي نتيجة تفاهُم وتنسيق معين مع روسيا تبلور خلال الفترة الماضية على مستوى الوضع في سورية.
كل هذا عدا كون إيران المرشح الوحيد لدى النظام لتعويض أي تراجُع مؤقت أو دائم في الدور الروسي وهو ما يعطيها الفرصة لترسيخ أقدامها أكثر في سورية وتوسيع دورها وربما تحقيق مكاسب إضافية قد تكون قد فاتتها في خضمّ التنافس الروسي.
أما تركيا فتسعى في هذه الأزمة إلى لعب دور دبلوماسي محوري، مستندة إلى العلاقات التجارية في عدة مجالات مع أوكرانيا ولأن سياسة الانحياز في الصراعات العالمية غالباً ما تتعارض مع المصالح الأمنية والاقتصادية لتركيا، بينما سياسة الانحياز الفاعل التي تُعَدّ من سمات السياسة الخارجية التركية، فمن شأنها أن تجنب تركيا -إلى حد كبير- تَبِعات التوتر الروسي مع الغرب وانعكاساته على الملف السوري والليبي وغيرها من الملفات التي تهم تركيا، وكل هذا من شأنه أن يعزز مكانة تركيا الدولية ويخدم مساعيها في تبوء مكانة دولية أكبر وأكثر تأثيراً، وفي نفس السياق وفيما يخص سورية فإن نزوع تركيا للنشاط دبلوماسياً في هذه الأزمة ينعكس أيضاً على الوضع في سورية من حيث إنه يرسخ إستراتيجية تجميد الوضع الراهن في الشمال السوري التي تشرف عليها تركيا، على اعتبار أن تحوُّل مناطق سيطرة المعارضة لمنصات لشنّ هجمات أو التحرش بالمصالح الروسية سيتعارض مع تفاهُمات تركيا مع روسيا وسيهدد موثوقية تركيا أمام روسيا بشكل كبير ويتعارض مع طبيعة الدور الدبلوماسي الذي تريد تركيا لعبه في الأزمة الأوكرانية، وفي العالم ككل.
لذلك فإن سيناريو تجميد الوضع الراهن يبدو اليوم، أرجح بكثير من سيناريو التصعيد ضد مصالح روسيا، ليس فقط لأن تركيا تعارض التصعيد -في المرحلة الحالية على الأقل-، بل ولأن المحيط الإقليمي عانى كثيراً خلال الفترة الماضية من تَبِعات الوضع في سورية، أضف إلى ذلك أن روسيا وبالرغم من انشغالها بالحرب في أوكرانيا إلا أنها لا زالت تحتفظ بأصول عسكرية كبيرة كمّاً ونوعاً في سورية وسواحلها، وبالتالي فإنّ قدرتها على الرد كبيرة وفتّاكة، ومن نافلة القول أنّ التعويل على المساندة الغربية في هذا التصعيد والمواجهة أمرٌ غير واقعي، فإذا كان الغرب يرفض الاصطدام مع روسيا في أوكرانيا فمن الأَوْلَى أنه لن يبادر لذلك في سورية، وقد سبق وخاضت المعارضة معارك ضارية ضد الروس والإيرانيين وقدمت تضحيات كبيرة وأظهرت صموداً قل نظيره ولكن الغرب اكتفى بالمشاهدة والتنديد، وحتى عندما تدخلت تركيا بشكل فاعل إلى جانب المعارضة في معركة درع الربيع واستخدمت المسيرات التركية، لم تتمكن من تحقيق تقدُّم يُذكر على روسيا وبالكاد استطاعت المعارضة الحفاظ على مناطق سيطرتها.
وتمتد حالة التجميد هذه والتي بدأت فعلياً قبل الحرب على أوكرانيا منذ 24 شهراً -بعد حرب درع الربيع 2020- إلى مسار الحل السياسي، الذي يبدو أبعد ما يكون اليوم عن تحقيق أي تقدُّم ملموس خصوصاً إذا استمر بالآليات والتمثيل الذي كان عليه طوال الأشهر الماضية، لأن روسيا اليوم أكثر تمسُّكاً بنفوذها في سورية، وهي أقل مرونة تجاه أي حل يقلل من مستوى أو حجم هذا النفوذ، وهي تعرب صراحة اليوم عن اعتبارها لسورية على أنها منطقة تابعة لها، وبالتالي قد تكون احتمالية قيام الروس بحملة عسكرية تجاه مناطق المعارضة ليست مرجحة ولكن احتمالية أن يكون هناك حل سوري شامل في هذه المرحلة أمرٌ مستبعَد أيضاً.
وبعكس وضع النظام الذي حرص على أن يصطفّ بشكل حادّ إلى جانب روسيا وحرص على المبالغة في إظهار التأييد والدعم بدرجة مستفزة للغرب، فإن المعارضة أظهرت موقفاً متوازناً مناهضاً للدور الروسي في أوكرانيا وسورية، ولكنها لم تنجرف في التخندق مع الطرف الآخر، هذا التموضع للمعارضة في مقابل التموضع الطرفي للنظام يفتح أمامها المجال للاستفادة من الاستعداد المحتمل على المستوى الإقليمي والدولي للانفتاح على المعارضة السياسية من جديد، وتقديم التسهيلات والدعم اللازم لترسيخ أقدامها أكثر ميدانياً وسياسياً، في المقابل فمن المتوقع أنّ هذا الموقف الحادّ من طرف النظام إلى جانب روسيا والتنسيق العالي المستوى مع إيران الذي بادر إليه مع بداية إرهاصات الأزمة الأوكرانية سيكون له تَبِعاته السلبية على استعداد دول المنطقة للانفتاح عليه والتطبيع معه، على اعتبار أنّ عدداً من هذه الدول تعتبر نفسها حلفاء أو أصدقاء للولايات المتحدة، وحتى تلك التي لا تعتبر نفسها من أصدقاء المعسكر الغربي فهي لا تحبذ اتخاذ موقف مناوئ للغرب وبدلاً من ذلك فإن دول المنطقة العربية تفضل الحياد والتوازن في المواقف، لما قد يترتب على التخندق مع أحد الطرفين من تَبِعات سلبية مستقبلاً.
إذن وباختصار شديد يمكن القول: إنه وعلى صعيد الدول الفاعلة في الشرق الأوسط فإن إيران من المحتمل أن تكون مستفيداً أساسياً من الأزمة الأوكرانية على الصعيد الميداني والاقتصادي، أما تركيا فقد بدأت بالفعل بالخَطْو نحو دور دبلوماسي فاعل، بينما السعودية تناور في (حرب طاقة باردة) مع الولايات المتحدة، وعلى صعيد سورية واعتماداً على المعطيات التي توفرت في الأيام الأولى من هذه الحرب فإن احتمالية التحرك ميدانياً في سورية ضد روسيا غير مرجَّحة وسلبياتها أكبر من إيجابياتها، واحتمالية قيام النظام وحلفائه بحملات عسكرية ضد المعارضة أيضاً ليست كبيرة، بالمقابل فقد يكون هناك استعداد إقليمي ودولي للانفتاح سياسياً من جديد على المعارضة، أما احتمالات التوصل لحل سياسي شامل فقد انخفضت أكثر مما كانت عليه في السابق لأن روسيا والنظام بعد أوكرانيا أكثر عناداً عما قبلها.
ويبقى السؤال المهمّ الآن: كيف يمكن للمعارضة أن تستمر في موقفها المناهض لروسيا وتُحوِّله إلى إجراءات عملية، وأن تتحرك بفاعلية في هذه المرحلة من الأزمة الأوكرانية أو المرحلة التالية (مرحلة ما بعد أوكرانيا)، بما يحقق أكبر قدر من المكاسب للقضية السورية، دون أن تُعرِّض مناطقها لخطر الانتقام من قِبل النظام وحلفائه من ناحية، ودون أن تصبح طرفاً في النزاع إلى جانب الغرب من ناحية أخرى؟