نحن السوريين بحاجة ماسة في هذه الأيام إلى التداعي والتكاتف أكثر من أي وقت مضى، ليس بسبب التصعيد الروسي ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وماقد يترتب عليه، فهذا اللقاء وما جرى فيه والتطورات التي تصاحبه من تصعيد عسكري وتراشق بالتصريحات، ما هي إلا تحصيل حاصل لتطور أهم يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه سوريا.
طوال الفترة الماضية، كانت التقلبات الجوهرية للدور الأمريكي في سوريا محدودة جداً ولكنها ذات أثر خطير وممتد، وغالباً ما كانت مستمدة من سياسات عليا مقررة منذ فترة ولكن الإعلان عنها وبدء تطبيقها هو ما يثير الجلبة حولها عادة.
التطور المهم الذي تصر الولايات المتحدة على الإعلان عنه مؤخراً هو التصنيف الصريح للمواجهة مع الصين وروسيا -على المستوى العالمي- كأولوية على أي شيء آخر بما فيها صراعات وقضايا الشرق الأوسط،
هذا التطور دفع دول وفواعل منطقة الشرق الأوسط في فترة ترامب للإفصاح عن رغباتهم التنافسية ونزعتهم لتحييد الآخر والاستفراد بالمنطقة، لدرجة أن حروباً كادت أن تنشب فيما بينهم، وبدلاً من أن تقتنص دول المنطقة الفرصة لتطور حالة من التعاون البيني الذي يخفف على الأقل من حاجتها للتواجد الأجنبي في منطقتها من الأصل، فقد بادرت هذه الدول، إلى مقاطعة بعضها البعض وسرعان ما بدأت “حرباً باردة” ضد مصالح بعضها البعض وأظهرت حالة من العدائية والنزعة للمواجهة والتحييد وصلت حدّ الاستقواء بالعدو الإسرائيلي والتناوش في المحافل والمحاكم الدولية.
بطبيعة الحال فتح هذا السلوك الباب على مصراعيه لـ “إسرائيل” لتمضي في العديد من الخطط المعلقة، فتم طرح صفقة القرن وتمرير “اتفاقيات أبراهام”، وقرار ضم الجولان، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وقرار ضم “إسرائيل” إلى القيادة الأميركية العسكرية الوسطى، فيما كانت دول ذات دور محوري في المنطقة تصارع للحفاظ على مكانتها مثل قطر، أو تكافح لمعالجة تحديات النمو والتطور ومجاراة الأحداث من حولها مثل تركيا، أو مشغولة برد صواريخ الحوثيين التي باتت تسقط على عاصمتها مثل السعودية، وسط ذهول وصمت شعوب المنطقة التي فقدت كثيراً من قدرتها على الحشد والفعل، بعد التضييق على جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من القوى الشعبية الحية في المنطقة.
وسط هذا كله كانت روسيا ترسّخ وجودها، فبعد تدخلها المباشر في سوريا، وسّعت من انتشارها في الشرق الأوسط عبر ليبيا ومصر ودول الخليج وحتى القضية الفلسطينية، مع التركيز على علاقاتها التنافسية مع تركيا، وعلاقاتها المتطورة مع الصين، مما جعلها عاملاً لا يمكن تجاهله.
وبالعودة إلى تطورات الموقف الأمريكي والأولويات الجديدة للولايات المتحدة فقد كانت التوقعات طوال الفترة الماضية تتأرجح بين اعتماد الولايات المتحدة على تركيا أو تفويض إسرائيل لمتابعة مصالحها في المنطقة، ولكن إسرائيل لا تفضل أن تكون أداة تنفيذ مباشرة بيد الولايات المتحدة، بينما لا تعتبر الولايات المتحدة تركيا دولة “صديقة” بالدرجة الكافية للاعتماد عليها كلياً في إدارة مصالحها، وفي الوقت نفسه فإن الاعتماد على تركيا سيعني تأجيج الصراع مع روسيا في منطقة ليست على قائمة الأولويات الرئيسية للولايات المتحدة ناهيك عن إثارة سخط بعض دول المنطقة.
وهنا برز توجه جديد -العديد من المنظرين والمقربين من صناع القرار في الولايات المتحدة يناقشونه بجدية بالغة- يتضمن تفاهماً أمريكياً-روسياً على مستوى منطقة الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا، يسمح بانسحاب أمريكي محدود ويؤمن وضع “قسد”، ويهدئ مخاوف الإسرائيليين في الجبهة الجنوبية، ويخفف العقوبات عن نظام الأسد ويسمح بالتطبيع معه وربما يعيد تقديمه -جزئياً- للمنظومة الدولية بعد التوقف بدرجة معينة عن مظاهر الانتقاص من سيادته.
التفصيل المفقود هنا في الحسابات الأمريكية هو ملف إعادة الإعمار، والمعارضة السورية التي لا يُنظر إليها -للأسف- على أنها ذات تموضع خاص بها في المشهد وبالتالي فإنّ أي تضعضع في الموقف التركي سوف ينعكس عليها مباشرة،
هذا النهج الأمريكي في التعاطي مع الملف السوري والذي يشار إليه حالياً بخطة “تثبيت الوضع الراهن”، يمثل تطوراً خطيراً في مسار الأحداث في سوريا ويفتح المجال لكل الخيارات “السيئة” فهو يطلق يد روسيا للضغط على تركيا والتنازل في سوريا لصالح النظام، كما أنه يعيد موضعة تركيا كلاعب ثانوي إلى جانب روسيا التي سيترسخ دورها أكثر، وسيعني أن تركيا فشلت في لعب دور أكثر ندية -كما عبر عنه الرئيس أردوغان- إلى جانب الولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط ناهيك عن لعب دور رئيسي على المستوى العالمي أيضاً.
إذاً نحن قد نكون على أعتاب تطور غير مسبوق في الدور الأمريكي – الروسي، لا يعالج فقط احتمالية حدوث اشتباك وتضارب في مصالح القوى العظمى في سوريا، بل يطور العلاقة إلى مستوى من التوافق والتفويض الذي سيطلق يد روسيا في سوريا ضمن حدود ترسمها الولايات المتحدة وتركز فيها على تأمين مصالحها ومصالح شركائها -قسد- وحلفائها -إسرائيل-، دون التطرق بدرجة كافية إلى تفاصيل المشهد الأخرى مما يجعلها إلى حدٍ كبير رهنَ التوجهات الروسية التي قد تصب في مجملها في مصلحة النظام.
من هنا -وليس من التفاهمات الدولية أو الأممية- تنبع صعوبة المرحلة المقبلة في سوريا، وحاجة السوريين للتعاضد جيداً لمواجهة أي انعكاسات سلبية لتطورات الموقف الأمريكي، قد يكون أهونها حل وإضعاف كيانات ذات أهمية سيادية بالنسبة للمعارضة مثل الجيش الوطني والحكومة المؤقتة، أو تغيير نسب وطبيعة السيطرة على الأرض، أو تعطيل آلية وصول المساعدات، أو فتح المجال أمام تواجد إداري للنظام في مناطق المعارضة، أو اشتراط رفع علم النظام على المعابر وغيرها من مؤسسات الدولة حتى لا تصبح أهدافاً للقصف، أو إعادة تشكيل وتموضع المعارضة وفق تسويات مشابهة لتسويات الجنوب السوري ينتج عنها تهجير أعداد كبيرة من السوريين من مناطق إدلب وغصن الزيتون نحو درع الفرات أو نبع السلام، وغيرها من الشروط التي قد يصر عليها الروس و تبدو “مبتذلة” -كما تصفها مراكز التفكير في الولايات المتحدة- ولكنها في الحقيقة ستكون ذات أثر سلبي جداً على مكتسبات السوريين في صراعهم ضد الاستبداد، ومقدمة لخطوات أسوأ بكثير تتعلق بعودة سيطرة النظام الأمنية والعسكرية على المناطق المحررة.
أثبتت الفترة الماضية، أن التفاهمات الثنائية بين تركيا وروسيا -أو الثلاثية التي تشمل إيران أيضاً-، ليست أكثر من شماعة يتحجج بها كل طرف للمضي بخططه كلما سنحت له الظروف المناسبة للتقدم، ولا يمكن اعتبارها بحد ذاتها محرك الأحدث أو الخطة التي تجري وفقها، وحتى العلاقة ذاتها بين تركيا وروسيا لا يمكن وصفها بأكثر من “تحالف هش”، ولا يجب أن ننسى أن التفاهمات بين الجانبين إنما تبلورت في ظروف المواجهة وتحت ضغط التصعيد وتفتقر إلى الكثير من التفاصيل، وحتى تلك التفاصيل التي جرى التطرق لها، غير مبتوت بها بشكل واضح، وبالتالي لا تنفك بين الفينة والأخرى تنفجر بوجه أصحابها وفي مقدمتهم نحن السوريون قبل أي أحد آخر.
وإذا كانت تفاهمات وقرارات دولية مثل “بيان جنيف” و “قرار مجلس الأمن 2254” اللذان تم إقرارهما بعد إجماع وإصرار دولي واسع وتضمنا نصوصاً صريحة تتعلق بمستقبل سوريا وانتقال السلطة وغيرها من التفاصيل الحساسة في المشهد السوري، قد تم تجاوزهما لا بل والدوس عليهما في أكثر من مناسبة، فمن الأولى أن لا نبالغ في الاستناد لاتفاقات ثنائية تركية روسية -أو ثلاثية بإضافة إيران المنبوذة دولياً وإقليمياً- يجري خرقها جهاراً نهاراً بنفس الأيادي التي وقعت عليها.
إن الاستناد إلى نصوص التفاهمات والاتفاقات الدولية وحدها، لفهم المشهد في سوريا وتقدير الموقف أو استشراف مستقبله، ينطوي على مخاطرة كبيرة، ولا يرضى به مهندسو هذه الاتفاقات أنفسهم فلا داعي لأن نكون ملكيين أكثر من الملك.
وكما أثبتت الفترة الماضية من الصراع في سوريا أن الاستناد إلى نصوص التفاهمات لادعاء وجود نتيجة محسومة ومسار دقيق لمستقبل الأحداث، ليست منهجية صحيحة، فقد أثبتت الفترة الماضية أيضاً أن مساحة الفعل المتاحة في المشهد السوري -بعد سماح المنظومة الدولية للنظام بالبقاء واستعادة السيطرة التي تتوجت بسيطرته على حلب- إنما تكمن في هوامش الوقت والحركة التي تتيحها هذه التفاهمات والظروف المحيطة بها، والناتجة عن تقاطع المصالح -المؤقت غالباً- للجهات الفاعلة.
وهذا يعني أننا بحاجة إلى التركيز أكثر على إدراك هذه الهوامش وتعظيمها ومراكمة المكاسب وصولاً إلى تشكيل رقم صعب لا يمكن تجاوزه، قادر على خطّ المسار الخاص به ودفع الآخرين للسير به، بدلاً من الاستمرار في متابعة هؤلاء الآخرين -أياً كانوا- في مساراتهم وتوجهاتهم الخاصة، أو التعذر بـ “النتائج المحسومة” للتنحي وترك المشهد للآخرين بالكلية.