أبريل 26, 2024

فورين أفيرز: داخل مدارس “داعش” غير الكفؤة فشل النظام التعليمي للجماعة

اجتذب تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أيضاً بـ”داعش”) انتباهاً كبيراً إلى نظامه التعليمي في السنوات الأخيرة؛ نظراً للطابع المروع لمنهجه والدور الذي يُعتقد أنه يؤديه في تلقين الأطفال وتجنيدهم. ففي أشرطة الفيديو الدعائية التصويرية، أظهرت داعش “الأشبال” (وهو المصطلح الذي تستخدمه المجموعة لوصف المقاتلين القاصرين، والذين يبدو أن معظمهم يبلغون أقل من عشر سنوات من العمر) يشاركون في تدريباتٍ عنيفةٍ، وحتى في إعدام سجناء. وتغطي “الكتب المدرسية” التي توزعها الجماعة كملفات بي دي إف، من خلال قنوات الإعلام الاجتماعي الخاصة بها، مجموعةً واسعةً من المواضيع مثل الجغرافية والتاريخ وبرمجة الحاسوب والكيمياء والرياضيات والإنجليزية، ولكنها تستخدم تدريباتٍ أوليةً لتخفيف حساسية الأطفال تجاه العنف، كمسائل حسابية تنطوي على عدّ الرصاصات أو عدد جنود داعش و”غير المؤمنين” في ساحة المعركة، على سبيل المثال.

ومع ذلك فإن معظم ما هو معروف عن النظام التعليمي لداعش يقوم على دعاية الجماعة نفسها. ورغم أن تحليل مثل هذه المواد يفتح نافذةً على كيف تريد داعش للعالم أن يرى نظامها التعليمي (صارمةً ومنظمةً وقاسيةً في استمالة الجنود الأطفال)، فإن هناك فجوةً كبيرةً بين العالم الافتراضي للجماعة والواقع على الأرض. ففي المقابلات التي أجريت من خلال طرفٍ ثالثٍ مع أكثر من أربعةٍ وعشرين من المعلمين المدنيين والأهالي  الذين فرّوا من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا (على وجه التحديد دير الزور والرقة وريف حلب) إلى جنوبي تركيا، وجدتُ أن النظام المدرسي لدى داعش في الحقيقة مختلٌ تماماً، وغير موجود تقريباً في بعض المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.

“أي تعليم؟”

فرّ بعض المعلمون والعائلات الذين تمت مقابلتهم من داعش في وقت مبكر من 2014، حينما كانت الجماعة لا تزال تسيطر على مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض في العراق و سوريا. في حين تمكن آخرون من الهرب منذ وقت قريب. وأظهرت إفاداتهم جميعاً صورةً عن كيفية تطور نظام داعش التعليمي على مر السنين.

قالت أمينة، وهي امرأة من دير الزور علَّمت في فترةٍ مبكرةٍ من عهد داعش (تم تغيير اسمها وأسماء جميع من تمت مقابلتهم لأجل هذه المقالة)، إن “ديوان” التعليم (قسم التعليم لدى داعش) “كان فشلاً ذريعاً”، حيث أخفق حتى في تزويد المدارس بالأساسيات كالمناهج. أما سالم، وهو معلمٌ آخر من دير الزور، فقد قال: “إنه لمن الخطأ أن ندعوه حتى بديوان التعليم”.

وعندما كان أحمد، وهو معلم ابتدائية من الميادين في الريف الشرقي لدير الزور، يعمل في مدرسة لداعش في 2014 ويعلم طلاب صفه الثالث الابتدائي، كان يخوض معركةً شاقّة حيث لم يكن هناك منهجٌ ولا أدوات تعليم؛ وذلك لأنه بعد استيلاء قوات داعش على دير الزور في تموز/يوليو 2014، قام المديرون بغلق مدارس المدينة حتى أنهى جميع المعلمين “دورةً في الشريعة” لمدة شهرين، للتأكد من أنهم على دراية جيدة بأيديولوجية داعش؛ نظراً لأن العديد منهم رفضوا قسم الولاء للجماعة.

ورغم أن المعلمين وُعدوا بنسخٍ مطبوعةٍ من منهجٍ شاملٍ جديدٍ يحتوي الرياضيات والإنجليزية والكيمياء لطلبة المرحلة الثانوية، فإن المواد لم تصل قط، كما اقتصرت دورات اللغة الإنجليزية على أطفال المقاتلين الأجانب دون السوريين. وفي نهاية المطاف تم تزويد المعلمين بنسخٍ إلكترونية من المناهج الدراسية، ولكن فقط إذا أحضروا ذواكر مؤقتة “فلاش USB”  خاصة بهم. وعندما فعلوا ذلك اكتشفوا أن المحتوى مخصص حصرياً للعقيدة الإسلامية.

وعلى الرغم من توزيع داعش الصحيح للمواد التعليمية على الإنترنت، فقد قال المعلمون إنهم لم يتلقوا تلك الوثائق إلكترونياً أو مطبوعة، ولم يكن البعض يدركون حتى بوجود هذه المصادر؛ نظراً لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الإنترنت إلا قليلاً. وقال آخرون إنهم سمعوا عن المناهج الدراسية على الإنترنت، ولكنهم لم يتلقوا إلا نسخاً ناقصةً من الكتب المدرسية الإلكترونية. ووفقاً لما ذكره أحمد، فإن داعش حظرت بالفعل الكتب المدرسية المطبوعة من أي نوع في مدرسته؛ لأن المناهج المطبوعة الوحيدة التي كان يمكن الوصول إليها في ذلك الوقت صدرت إما عن الحكومة السورية للرئيس بشار الأسد، أو الحكومة المؤقتة السورية التي تديرها المعارضة السورية. ومنعت داعش تدريس هذه المواد أو أي بدائل لها في مدارسها.

وفي تلك الحالات النادرة التي تم فيها توزيع ملفات بي دي إف لكتب داعش المدرسية، كان من المتوقع أن يغطي الطلاب والمعلمون على حد سواء تكاليف الطباعة، لذلك كان عدد النسخ المطبوعة قليلاً جداً. وأكدت كل من سميرة، وهي أم، وفادية، وهي معلمة، وكلتاهما من الرقة، أن النسخ الإلكترونية التي شاركتها السلطات التعليمية المحلية كانت غير مكتملة، وتتكون في معظمها من مادة العقيدة.  ولذا لم يكن من المستغرب أن أكثر لازمةٍ كانت تُسمع عند سؤال الأشخاص الذين تمت مقابلتهم عن النظام التعليمي في الأراضي التي تسيطر عليها داعش هي “أيّ تعليم؟”.

تكاليف التعليم

انبثقت العديد من مشاكل مدارس داعش من عدم رغبة الجماعة في تحمل تكاليف إعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية، وخاصة في مناطق مثل دير الزور، حيث كان الضرر الذي لحق بالمدارس واسع النطاق. وقال عمر، وهو معلمٌ من الرقة، إن داعش كانت “مقتصدة”. وقال: “لم يرغبوا في الإنفاق على التعليم”. و”إن فتح المدارس يتطلب الكثير من المال، لإعادة تأهيل المدارس، وللكتب، ولجلب الديزل للتدفئة، ولدفع الرواتب، إنه أمر باهظ التكاليف وهم لم يكونوا راغبين في القيام بذلك”.كما إن هجرة المدنيين من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش وما يترتب على ذلك من معدلات حضور منخفضة، قد عرقلت داعش عن الاستثمار في المدارس. كما وقع ديوان التعليم لدى داعش في مشاكل توظيفٍ جادّة. فعلى سبيل المثال كافح الديوان من أجل توظيف معلمين مؤهلين ومديرين مختصين. لكن لم يكن لدى بعض المجندين سوى شهادة الثانوية العامة، ورفض معظمهم أن يعلنوا الولاء لداعش.

كما كان على داعش إنشاء نظامٍ للسجلات لتتبع التسجيل والالتحاق بالمدارس ورصد المتسربين، وكلها عناصر أساسية في الإدارة التعليمية، لكنهم لم يقوموا بأي من هذه الأمور. واعترف أحمد بأنه لم يكن على دراية بأعمار طلابه أو درجاتهم بسبب عدم وجود وثائق، ولم تطلب سلطات داعش مطلقاً تسجيل حضور التلاميذ. وقالت آلاء، وهي مدرّسة في الباب في ريف حلب، إن الامتحانات كانت قليلة، وكان محو الأمية الأساسي هو الهدف في المرحلة الابتدائية.

وفي الرقة أفادت سميرة وابنها أن مديري المدارس على المستوى المحلي يتمتعون باجتهادٍ تقديريٍ كبير لوضع مناهجهم الخاصة؛ ممَّا يدل على عدم وجود تنسيق بين مختلف محافظات داعش، وحتى داخل الرقة نفسها. واستناداً إلى محادثاتها مع أولياء أمور الطلاب الملتحقين بالمدارس الابتدائية والثانوية العشر الرئيسية في الرقة، وهي العاصمة الفعلية لخلافة داعش، خلصت سميرة إلى أن لكل مدرسة منهجاً مختلفاً.

وعلى خلاف قطاع الرعاية الصحية الذي كانت داعش متحمسة جداً للاستثمار فيه؛ بسبب حاجتهم لمعالجة المقاتلين الجرحى، كان التعليم ذا أولويةٍ منخفضة بالنسبة لداعش. وقال أمير من الرقة:  “على خلاف ديوان الصحة الذي كان يسعى لأطباء مرخصين وصحييّن مهنيين، فإن تنظيم الدولة الإسلامية لم يلتمس الخبراء في التعليم”. وكان رئيس ديوان التعليم في الميادين مقاتلاً مغربياً نُقل إلى هناك بعد إصابته في معركة، ولم تكن تنقصه الخبرة في إدارة المدارس فقط، بل لم يكن قد أنهى تعليمه، فقد كان آخر ما وصل إليه هو التعليم الثانوي. وتظهر حقيقة أن داعش قد استعمل ديوان التعليم كموقع أنقاض للمقاتلين غير المهرة أو غير المؤهلين، عدم أهمية المؤسسة في استراتيجية الجماعة.

وعندما قدّم المعلمون اقتراحات للتطوير تم توقيفهم على الفور. ففي عام 2014 بعد أن خاطب المعلمون مسؤولاً في مجال التعليم في داعش في ريف حلب، موصين بفتح مدارس إضافية لاستيعاب العدد المتزايد من المشردين داخلياً والطلاب غير المسجلين، حذرهم المسؤولون بعدم إسداء المشورة للسلطة العليا مرة أخرى.

في الواقع يخشى تنظيم داعش من مدرسيه ويحتقرهم؛ لأن معظمهم لم يتعهدوا بالولاء للجماعة. وقالت معلمة من دير الزور إنها وُبخَت، مع زملائها الحاضرين في دورة الشريعة التدريبية، لوجود “عقلية البعثيين وبشار الأسد” لديهم. ويوضح الحادث جنون الشك لدى داعش بشأن تسلل الخونة والجواسيس إلى صفوفه. لم يثق تنظيم داعش باحترام المعلمين لسلطته، فضلاً عن التمسك بالمعايير التي تضمنت فصولاً دراسيةً معزولةً، ومبادئ توجيهية صارمة للملابس. وفي العديد من الحالات، كان هناك ما يبرر عدم ثقة داعش بالمدرسين، فقد قال المعلمون الذين تمت مقابلتهم وغيرُهم إنهم غير مستعدين لنشر أيديولوجية الجماعة. ووفقاً لأمير، فقد علّم بعض المعلمين دروسهم غير الدينية سراً . ومع بدء اعتراف داعش بعدم قدرتهم على مراقبة المدارس وتنظيمها، وتزايد قلقهم إزاء عصيان المعلمين، كان الحل هو إغلاق المدارس واحدةً تلو الأخرى.

وكان ديوان التربية والتعليم في سوريا ومديريات التربية المحلية في كل مقاطعةٍ من مقاطعات داعش، منذ عام 2015 إلى عام 2016، متوقفة بشكل أساسي. وبحلول عام 2016 أغلقت جميع مدارس داعش تقريباً، وكان ذلك تحولاً طبيعياً نظراً لانخفاض معدلات الحضور، ومحدودية عدد أعضاء هيئة التدريس، وتدني رواتب المعلمين، وحقيقة أن مُدناً مثل الرقة تتعرض للقصف من قبل قوات مناهضةٍ لداعش. غير أن جهاز الدعاية عبر الإنترنت التابع للمجموعة استمر في إنتاج الكتب المدرسية الإلكترونية اللامعة، ليخلق وهماً عن نظامٍ منظم.

المنافسة مع ديوان الدعوة والمساجد

كانت آلة التجنيد الحقيقية لداعش هي ديوان الدعوة والمساجد والتي تدير مراكز الشريعة التدريبية والمساجد وخطب الجمعة وما يسمى نقاط الإعلام، أو مراكز الدعاية ذات الشاشات الكبيرة التي كانت تعرض لقطات من المعارك وقطع الرؤوس وخطب زعيم داعش أبو بكر البغدادي والهتافات والأغاني الإسلامية. وتم وضعها في مناطق شعبية عالية الحركة، مثل ساحات البلدة والأسواق.

انجذب الأطفال إلى هذه النقاط الإعلامية التي غالباً ما تشبه دور سينما في الهواء الطلق، واعتبروها مصدراً للترفيه. وقال المعلمون الذين تمت مقابلتهم إن الأطفال بدؤوا في التهرب من المدرسة لقضاء بعض الوقت في هذه النقاط الإعلامية، لكنهم كانوا يعلمون أنه لن تكون هناك جدوى من إثارة هذه المخاوف مع داعش. وقال أحمد: “كان ديوان الدعوة والمساجد ذا أولوية عالية لدى مسؤولي داعش”. “نحن في ديوان التعليم لم نكن ذوي أهمية، يمكن أن يمسحوا بنا الأرضية ولن ينبس أحدٌ ببنت شفة”.

وفي الواقع كانت دورات الشريعة للأطفال والشباب مقررةً عمداً في الصباح لإبقاء الطلاب بعيداً عن الفصول الدراسية. ووفقاً لـ”آلاء” قدّم ديوان الدعوة والمساجد “الوجبات الخفيفة والموسيقى لتشجيع الأطفال على الانضمام إلى داعش”؛ لتشكيل جيل من الأعضاء “لا يعرفون سوى القتال”. وعندما تنتهي دورات الشريعة والعروض الإعلامية، يقوم المسؤولون بدعوة الأطفال بحماس للانضمام إلى الجماعة كأشبال الأسد. ثم يقوم الإمام بإحضار المتطوعين الشباب إلى مكتب التجنيد المحلي، حيث يسجلون في دورةٍ تدريبيةٍ لمدة 90 يوماً في الشريعة الإسلامية. وقالت فادية، وهي معلمة من الرقة، إنه عندما قرر الأطفال الانضمام إلى داعش، فعلوا ذلك عبر إمامهم أو مدرس القرآن، وليس عبر مدرسيهم.

ولأن داعش أعطت الأولوية لنشاط ديوان الدعوة والمساجد لتلقين الأطفال وتجنيدهم، فقد كان التعليم غير معروفٍ تقريباً في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش. وكما قال معلم من دير الزور: “إذا لم أكن معلماً، لم أكن لأعرف حتى الآن بشيء يدعى ديوان التعليم”. ليس هذا مفاجئاً، لأن داعش لم تبذل جهداً كبيراً لنشر النظام التعليمي بين السكان المحليين. وقيل للمعلمين أن ينشروا أخبار المدارس شفهياً. ولم تتمكن المدارس القليلة التي ظلت مفتوحة، في غياب الدعاية الرسمية، من اجتذاب العديد من الطلاب.

ويشكك ضعف النظام التعليمي في داعش في ادعائها بأنها دولة تعمل بشكلٍ متكامل وليست مجرد منظمةٍ عسكرية. وعلى الرغم من أن دعاية داعش تسلط الضوء على أهمية تعليم جيل الخلافة القادم، فإن الحقيقة القاتمة هي أن الأطفال يتم تقييمهم في المقام الأول كمقاتلين محتملين على ما يبدو.

وبعد انهيار داعش في سوريا سيحتاج صناع القرار إلى معالجة الفراغ التعليمي الذي تعرض له جيلٌ من الأطفال السوريين على مدى السنوات العديدة الماضية.

المصدر: فورين أفيرز

الكاتب: كنانة قدور

الرابط: https://www.foreignaffairs.com/articles/syria/2017-10-13/inside-isis-dysfunctional-schools

ضع تعليقاَ