أبريل 26, 2024

المركز الوطني لدراسات الأمن القومي: الآثار الاستراتيجية لإعادة سيطرة بغداد على كركوك

استعادت الحكومة العراقية السيطرة على كركوك من أيدي الأكراد بعملية عسكرية. وقد تم هذا التحرك السريع بعد أن توصلت إيران، بقيادة قائد قوة القدس قاسم سليماني، إلى اتفاق بين قادة الاتحاد الوطني الكردستاني -المنافسين السياسيين للرئيس الكردي مسعود بارزاني- والحكومة العراقية، حول انسحاب قوات البيشمركة من مواقعها في كركوك. ويمثل فقدان كركوك ضربة قاتلة لاقتصاد المنطقة، ويضعف بشدة قدرة الأكراد على تحقيق تطلعاتهم للاستقلال. ولهذه التطورات تداعيات على العديد من الاستراتيجيات؛ وبعضها يتجاوز حتى الساحة الداخلية في العراق لينعكس أيضاً على إسرائيل. يسلط هذا التحرك الضوء، أولاً وقبل كل شيء، على قدرة إيران على النهوض بمصالحها وتعزيز مشاركتها ونفوذها بشكل عام، وتأثير الحرس الثوري وقاسم سليماني خصوصاً على الحكومة العراقية. ومن ناحية أخرى، من الصعب على الإدارة الأمريكية ترجمة تصريحاتها إلى فعل من أجل العمل ضد ترسيخ إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

بعملية عسكرية سريعة جرت من 16-17 تشرين الأول/أكتوبر، استعادت الحكومة العراقية السيطرة على كركوك من أيدي الأكراد، الذين سيطروا على المنطقة في عام 2014. تعد محافظة كركوك الغنية بالنفط مركز الخلاف، وموضوعاً للمفاوضات بين الحكومة العراقية والحكومة الإقليمية الكردية منذ سنوات. بيد أن الحكومة المركزية فى بغداد تجنبت حتى الآن مواجهة عسكرية فى المنطقة، حيث تتركز الجهود المشتركة في السنوات الأخيرة هناك لتعزيز الحملة ضد الدولة الإسلامية. وفي خلفية إعادة السيطرة هناك استفتاء 25 أيلول/سبتمبر في المنطقة الكردية، الذي أكد الرغبة الكردية في الاستقلال بحصوله على موافقة الأغلبية العظمى، أي ما يقارب 93 في المئة من الناخبين. ويجدر بالذكر أن النيات الكردية قد قوبلت بمعارضة واسعة من الحكومة في بغداد، ومن جيران المنطقة الكردية مثل إيران وتركيا، فضلاً عن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة.

تم الانتهاء من العملية العسكرية دون وقوع عدد كبير من الضحايا من صفوف  مقاتلي البيشمركة (القوات العسكرية الكردية)، والتي انسحبت من مواقعها دون أي مواجهة. وذلك بعد مفاوضات بين مسعود بارزاني (من الحزب الديمقراطي الكردستاني) ومنافسه من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بوساطة إيرانية، وبعد أن قام قائد قوة القدس، قاسم سليماني، بالتفاوض مع الحكومة العراقية. وفي الوقت نفسه قامت قوات ميليشيات الحشد الشعبي، وهي منظمة شاملة للميليشيات الشيعية في العراق مدعومة من إيران وتتعاون مع الجيش العراقي في حربه على الدولة الإسلامية، بدخول منطقة كركوك.

ويشكل الانسحاب الكردي من منطقة كركوك ضربة قاتلة لاقتصاد المنطقة، بسبب فقدان احتياطيات النفط الهائلة في المنطقة. ووفقاً للسلطات الدولية للنفط، فإن حقول النفط في المنطقة قد أنتجت حتى الآن نحو 590.000 برميل من النفط من نحو 790.000 برميل يومياً ينتجها الأكراد، بإيرادات سنوية تبلغ نحو 8 مليارات دولار. وقوضت، نتيجة لذلك، قدرة الأكراد على تحقيق تطلعاتهم إلى الاستقلال. وتضر هذه الخطوة بموقف الرئيس بارزاني، وتؤثر على صورته بين الأكراد، وتزيد من الانتقادات حوله وحول سياسته، وقد تخلق أزمة قيادية في المنطقة.

وعلاوة على ذلك، فإن الاختلافات في الرأي بين عناصر السلطة الكردية أصبحت أكثر وضوحاً. وفي ضوء الانقسام بين قوات البيشمركة، اتهم قادة البيشمركة المنتمون إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني أيضاً الاتحاد الوطني الكردستاني بالخيانة. وليس واضحاً ما تم ضمانه لقادة الاتحاد الوطني الكردستاني غير استمرار الدعم الإيراني لهم، ولكن استعدادهم للعمل ضد جهود بارزاني للاستقلال هو أمر واضح.

حالياً هناك هدوء في معظم أحياء كركوك، ولكن التوتر وإمكانية حدوث تصعيد لا تزال مرتفعة. وعلى الرغم من تصريحات رئيس الوزراء العراقي بأن قوات “الحشد الشعبي” غادرت المنطقة، وأنه يتطلع الآن لمواصلة الحوار مع القيادة الكردية، فإن نيات الجانبين ما زالت غير واضحة. بل وقام عناصر من البيشمركة بالتوعد بالانتقام، والدليل على عدم ثقة الأكراد في نيات الحكومة هو قيام  الآلاف منهم بالفرار من كركوك بعد الأحداث.

على أية حال، فإن نجاح العملية في كركوك هو تتويج لجهود رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لتسليط الضوء على معارضة العراق لاستقلال بارزاني. ويذكر أن التردد في الشروع في تحرك عسكري كان قد أضر به سياسياً، أما الآن فمن المرجح أنه سيصبح في نظر الشعب قائداً حازماً وموثوقاً وشجاعاً يعزز مصالح الدولة. وذلك استعداداً للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في منتصف عام 2018، والمواجهة المتوقعة بينه وبين سلفه نوري المالكي. ومن المرجح أن يسعى العبادي، الذي يحرص على الحفاظ على علاقة طيبة مع كل من الإدارة الأمريكية وإيران، على تأكيد تعاونه مع طهران؛ نظراً لقرب منافسه من إيران.

وعلى الرغم من أن إيران نفت تورطها فى العملية العراقية لتحرير كركوك فإنها لا تخفي ارتياحها للنتائج، والدليل على ذلك قيام  المتحدثين الإيرانيين بتأييدها. ووفقاً لهم، يجب على الرئيس الكردي أن يعترف بأخطائه، والتراجع عن تطلعاته لقيادة الأكراد للاستقلال.

قادت إيران، التي تخوفت من تداعيات استقلال المنطقة وتأثيرها على سلوك الأقلية الكردية في إيران، مع تركيا جهود المقاومة الإقليمية لخطط الرئيس الكردي. وإعادة السيطرة العراقية على كركوك والإمكانية العملية التي من شأنها أن تقوض عملية استقلال المنطقة تزيد من تعزيز مشاركة إيران ونفوذها بشكل عام، والحرس الثوري وقاسم سليماني خصوصاً، والتعاون مع الحكومة العراقية وإظهار قدرتها على المناورة في الساحة العراقية الداخلية. ومن المحتمل أن تأثير إيران والحرس الثوري سيزداد حتى قبل الانتخابات في العراق، على اعتبار أن القرب من إيران سيكون له تأثير على نجاح المرشحين. هذا بالإضافة إلى الدعم الإيراني المستمر للميليشيات الشيعية المقاتلة في العراق.

أما أنقرة فقامت بدورها بإصدار تصريحات قوية ضد بارزاني، ووصفت الاستفتاء بأنه تحرك غير مسؤول و”خائن”. وقد ازدهرت العلاقات التجارية التركية مع المنطقة الكردية، في السنوات الأخيرة، بما في ذلك استخدام تركيا كطريق لتصدير النفط من المنطقة بطريقة تتجاوز بغداد. وقد سارعت بغداد وطهران وأنقرة إلى المساعدة على استعادة  كركوك من أيدي الأكراد كنوع من التعبير عن معارضتها للاستفتاء.

يذكر أنه يوجد في كركوك أيضاً عدد كبير من التركمان، وتعتبر أنقرة نفسها حامية لهم. وتريد أنقرة حماية السكان التركمان في تلك المنطقة في ضوء عمليات التعريب والتكريد التي تم تسجيلها على مر السنين. وفي الوقت نفسه، فإن الضعف الاقتصادي للحكومة الاقليمية الكردية يمكن أن يستخدم ضد المصالح الاقتصادية لتركيا. وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن أنقرة منذ عدة سنوات متسامحة مع تزايد النفوذ الإيراني في العراق، ولا سيما بسبب تعزيز الميليشيات الشيعية. ومن المحتمل أن تزداد التوترات الحالية في هذا السياق في المستقبل.

إن معالجة الإدارة الأمريكية للتحرك في كركوك، وحتى مسألة الاستفتاء على الاستقلال في المنطقة، التي عارضتها، تؤكد مرة أخرى أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة كان ولا يزال الحفاظ على الوحدة العراقية وهزيمة الدولة الإسلامية، ولا يوجد في الوقت الراهن دليل على أن الإدارة تقوم بتغيير استراتيجيتها وأهدافها في هذه السياقات. وأكد متحدثون أمريكيون مراراً في الأيام الأخيرة أن “الدولة الإسلامية لا تزال العدو الحقيقي للعراق، وتشجع الولايات المتحدة الأطراف على التركيز على الحملة ضد التنظيم”.

ويبدو أن تصريحات الرئيس دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة لن تقف جانباً  في الصراع الكردستاني العراقي، والفراغ الذي تتركه هذه السياسة (الذي كان بارزاً أيضاً في فشل الإدارة في التوسط بين الأكراد والحكومة العراقية) يعزز المفهوم بين مختلف القوى في المنطقة بأن الحكومة ليس لديها إرادة لحل النزاع، على الرغم من تصريحات ترامب أنه يعتزم القيام بذلك لتوسيع مشاركته في التعامل مع النفوذ الإيراني في العراق، والمساعدة العسكرية والاقتصادية التي تقدمها للميليشيات الشيعية. علاوة على ذلك فإن الانطباع السائد هو أن التحركات الإيرانية تتفق في الواقع مع المصالح الأمريكية؛ الحفاظ على الحدود الحالية للعراق ومواصلة الحملة ضد الدولة الإسلامية.

إن التطورات في كركوك تترتب عليها آثار محتملة تتجاوز الساحة العراقية، ولها تأثير على إسرائيل أيضاً؛ بسبب التأثير المحتمل على المناطق الواقعة على حدودها. ومن المتوقع أن تؤدي الهزائم التي لحقت بمراكز الدولة الإسلامية في العراق وسوريا إلى إحياء الصراعات القديمة والجديدة، بما في ذلك الصراع العراقي الكردستاني، وحث جميع القوى في المنطقة وخارجها على التحرك بسرعة لحماية مصالحها والنهوض بها.

وبينما لا تزال الولايات المتحدة تؤكد من جديد أن الجهود يجب أن تستمر في التركيز على الدولة الإسلامية، فإن هذه العناصر، التي ترأسها إيران، لا تنتظر بل تعمل بسرعة وحزم على تمهيد الطريق لعصر ما بعد الدولة الإسلامية. وسوف يتم قريباً، بعد الانتهاء من عملية إعادة السيطرة على الرقة من أيدي الدولة الإسلامية، اختبار الاستراتيجية الهجومية التي أعلن عنها الرئيس ترامب في خطابه في 13 تشرين الأول/أكتوبر، في مواجهة السلوك الإقليمي لإيران في سوريا أيضاً، والجهود التي تبذلها جميع الأطراف المعنية في استغلال هذه التطورات لتحقيق أهدافها.

المصدر: المركز الوطني لدراسات الأمن القومي

الكاتب: الداد شفيط، جليا ليندنشتراوس

الرابط: www.inss.org.il/he/publication

ضع تعليقاَ