أبريل 26, 2024

موشيه ديان: بعيونٍ تركية .. كيف خسر الغرب تركيا

 

أدت  تحقيقات ايرغينيكون والتي تم على اثرها تم استبعاد دور القوات التركية المسلحة كلاعب سياسي وترشيح أحمد داود أوغلو لوزارة خارجية تركيا في عام 2009، إلى تغيير تدريجي ولكنه جذري في اتجاه السياسة الخارجية التركية. وبينما اتهم كثيرون في تركيا وخارجها أنقرة بتغيير سياستها الخارجية من الغرب إلى الشرق، نفت الحكومة التركية هذه الادعاءات. ورغم هذا الإنكار كان من الواضح جدا أن السياسة الخارجية الموجهة نحو الغرب، التي كانت تقودها القوات التركية المسلحة، قد حلت محلها دبلوماسية مستقلة وعثمانية جديدة. وقد تجلى هذا الخيار الاستراتيجي في عام 2010، عندما صوتت تركيا ضد معاقبة إيران في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إلا أن هذا الموقف غير الغربي، بالإضافة إلى الخطابات المناهضة لإسرائيل وأوروبا، مهد الطريق لاضطراب العلاقات بين الغرب وتركيا بشكل عام، وبين واشنطن وأنقرة على وجه الخصوص.

وقد برز عمق تدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة من خلال اعتقال ميتين توبوز، الموظف في سفارة الولايات المتحدة من أصل تركي، بتهمة  التجسس والإرهاب، بالإضافة إلى الرد الأمريكي بتعليق إصدار تأشيرات دخول للمواطنين الأتراك من قبل السفارة الأمريكية في أنقرة. وقد ردت الحكومة التركية من جانبها بحظر تأشيرات الدخول للمواطنين الأمريكيين.

كان هناك فى الماضى عدد من الأزمات الدبلوماسية المعروفة؛ مثل خطاب جونسون والحصار الأمريكي عقب التدخل العسكري التركي في قبرص، ورفض البرلمان التركي للممر العسكرى الأمريكى للعراق عام 2003، مع ذلك، وبالرغم من فرض عقوبات على أنقرة، فإنه لم  يتم فرض عقوبات على الشعب التركي. ولكن إدارة ترامب قامت بكسر هذا النمط، وأسهمت من ثم في الوصول إلى مستويات وإجراءات جديدة لم يسبق لها مثيل. وعلاوة على ذلك فإن هذا الفعل قد ألحق المزيد من الذل بتركيا كدولة، وسيعزز حتماً المشاعر العامة المعادية للولايات المتحدة في تركيا، والتي ارتفعت من 71 إلى 82 في المئة بعد تنصيب ترامب.

وعلى الرغم من كون الولايات المتحدة وتركيا عضوتين في  الناتو، ومن تجارة الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية وقاعدة الجيش الأمريكي فى إنجيرليك، فإنه ليس سراً أن  كلا البلدين كان لهما خلافات كثيرة عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط وتركيا نفسها.

يذكر أن العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، وبين الغرب وتركيا على نطاق أوسع، بدأت تسوء بعد احتجاجات حديقة غيزي في أيار/مايو 2013، ولم يفسر الانتقاد المتزايد من العواصم الغربية مثل واشنطن وبرلين على أنه مشورة صادقة من شركاء سياسيين. واعتبر أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بعد تجاهل قضايا وحشية الشرطة وانتهاكات الحقوق المدنية والبيئية، أن الاحتجاجات كانت محاولة للإطاحة بحكومته الشرعية. ولذلك فإن الانتقادات الغربية للانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان والقيود المفروضة على الحق في التظاهر قد فسرت على أنها محاولة لزعزعة استقرار الدولة التركية المزدهرة.

وفي ظل التأثير القوي لاحتجاجات حديقة غيزي ازداد موقف إدارة أردوغان السلبي تجاه الولايات المتحدة والغرب أكثر، عقب الانقلاب العسكري ضد الرئيس محمد مرسي المنتسب إلى الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013، إذ اعتبر أردوغان أن الاعتراف الغربي بحكومة السيسي علامة تحذير. وتضامنَ أردوغان  مع مرسي من خلال وصف مرتكبي الانقلاب المصري كمرتكبي انقلاب ضد الحكومة التركية نفسها. وكان أردوغان ومؤيدوه أكثر قلقاً عندما قام فتح الله غولن بتدبير قضية الفساد في 17 كانون الأول/ديسمبر 2013. وعلى الرغم من وجود أدلة ملموسة تنفي ارتباط غولن بتلك القضية، فإن  دوائر حزب العدالة والتنمية تنظر إلى اتهامات الفساد الموجهة ضد المسؤولين الحكوميين على أنها مؤامرة سياسية مفتعلة من قبل فتح الله غولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا؛ للتأثير على الانتخابات البلدية التي جرت بعد ذلك. وبعبارة أخرى؛ من خلال عدم تسليم غولن إلى تركيا واستضافته بدلاً من ذلك في الولايات المتحدة، تم النظر إلى الإدارة الأمريكية على أنها أول الساعين وراء التأثير على نتائج الانتخابات.

بدأت هذه الصورة السلبية تنعكس في سياسة الأمن القومي في تركيا. ففي 26 أيلول/سبتمبر 2013، منح وكيل وزارة الدفاع التركية شركة صينية لاستيراد وتصدير الآلات الدقيقة عرضاً بقيمة 3.4 مليارات دولار، لتزويد تركيا بأول بطارية صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية. وحقيقة أن تركيا تسعى إلى تنويع مصادرها من الأسلحة عن طريق مزودين غير تابعين لمنظمة حلف شمال الأطلسي هو إعلان واضح عن عدم الثقة في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وقام  الناتو، كما هو متوقع، بالاحتجاج على عملية الشراء هذه. وأعلنت الوزارة، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بعد ضغط دبلوماسي، أن الصفقة الصينية باطلة لأن التكنولوجيا الصينية يزعم أنها غير كافية للمشروع. وبينما أعلنت تركيا عن نيتها إطلاق نظامها الوطني الخاص بالقذائف المضادة للصواريخ الباليستية، إلا أنها لم تخف اهتمامها بـS-400 الروسي.

وعلى الرغم من ذلك، تدهورت العلاقات الروسية التركية بسرعة نتيجة القصف الروسي للتركمان الذين يعيشون شمالي سوريا، والاختراق الجزئي للقوات الجوية الروسية للمجال الجوي التركي. وصلت هذه الأزمة إلى نقطة حرجة عندما أسقطت طائرة تركية من طراز F-16 طائرة حربية روسية من طراز سو-24 في عام 2015. وشعرت تركيا، في أعقاب الأزمة، بخيبة الأمل مرة أخرى من قبل حلفائها في الناتو. وبينما امتنعت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عن  إصدار بيان جريء ضد روسيا، تم سحب  بطاريات الباتريوت الإسبانية في أضنة، وبطاريات الباتريوت الألمانية في كهرمان مرعش في ظل التهديدات الصاروخية الروسية والسورية. أثبت هذا الوضع لتركيا أنها تقف وحدها؛ ونتيجة لهذا اتخذت أنقرة قراراً استراتيجياً بإصلاح علاقاتها مع موسكو.

وإثر محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، أثرت عدم إدانة القادة الغربيين -ولا سيما الرئيس الأمريكي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل- للانقلاب والقائمين عليه، على مسار أنقرة. كانت محاولة الانقلاب الفاشلة، بالنسبة إلى أردوغان ومؤيديه، بمنزلة اختبار حقيقي للقادة الغربيين، وهو ما فشلوا فيه جميعاً في نظر أردوغان عندما لم يقوموا بالتعليق ولم يدينوا الانقلاب على الفور. وفي نظر حزب العدالة والتنمية، كان بعض القادة الغربيين على استعداد لقبول الانقلاب، كما فعلوا مع انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر عام 2013.

أدى ذلك إلى قيام أردوغان بزيارته الأولى بعد الانقلاب الفاشل إلى فلاديمير بوتين في سانت بطرسبرغ. وفتح الزعيمان فصلاً جديداً في علاقاتهما؛ ممَّا مهد الطريق في نهاية المطاف لنشر تركيا لقواتها المسلحة في سوريا بما أطلق عليه “عملية درع الفرات”. ووضعت تركيا نفسها، مع هذه الخطوة الجريئة، في معارضة للاستراتيجية الأمريكية الكبرى في سوريا، التي تعتبر “حزب الاتحاد الديمقراطي” السوري حزباً مشروعاً. فمن وجهة النظر التركية، يعتبر هذا الكيان استمراراً لحزب العمال الكردستاني تحت اسم مختلف. وفي ضوء ذلك، لم تتسامح تركيا مع إمكانية تشكيل منطقة كردية متاخمة لحدودها الجنوبية اعتبرتها تشكل “حصاراً” يحد من ارتباط تركيا بالعالم العربي. مرة أخرى تم النظر إلى الولايات المتحدة؛ نتيجة كونها راعية لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، على أنها العدو غير المباشر من قبل الجمهور التركي؛ فالصور الكثيرة لمقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي بجانب الأعلام الأمريكية قد أثارت المشاعر العامة التركية ضد الولايات المتحدة.

بدأت هذه الصورة تزداد سوءاً مع الاستفتاء الكردي الذي أجري مؤخرا في شمالي العراق. ويمكن القول إن تركيا تعاني من “متلازمة سيفر”؛ أي الاعتقاد  بأن القوى الغربية ترغب في تفكيك تركيا كما فعلت بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا رأت المؤسسة الحاكمة التركية رغبة حكومة إقليم كردستان في تقرير المصير جزءاً من مؤامرة غربية طويلة الأمد.

و تميل الدوائر الموالية لحزب العدالة والتنمية، في هذا الصدد، إلى التفريق بين أسرة البارزاني والأمة الكردية. فمن وجهة نظرهم تم شراء  بارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني من قبل الغرب، وبشكل أكثر دقة من قبل بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإسرائيل. ووفقاً لهذا الرأي، فقد ضعف الغرب بشكل ملحوظ بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008؛ ولذلك خططت القوى العظمى الغربية لفتح “صندوق باندورا” المثير، من خلال محاولة إنشاء كردستان المستقلة الغنية بالنفط، من أجل زعزعة استقرار الاقتصادات المزدهرة في “أوراسيا” (الصين وروسيا والدول الأربعة المجاورة للمنطقة الكردية)

ولأن الأعلام الإسرائيلية كثيراً ما ترفرف في شوارع أربيل، فإن دوائر حزب العدالة والتنمية صورت إسرائيل واليهود كمشتبه بهم وراء التخطيط  لاستفتاء حكومة إقليم كردستان. في الواقع، اتهموا علناً وكالة الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد، بتدبير العملية برمتها. وأصبحت القصص الأكثر شعبية في أنقرة هي  نظريات المؤامرة التي تدور حول طموحات إسرائيلية مفترضة لبناء إسرائيل الكبرى باستخدام الأكراد بالوكالة، وبناء خط أنابيب نفط كركوك حيفا من أجل استغلال موارد النفط في المنطقة.

في هذا السياق، ظهر المثقف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي كشخصية رئيسية لآلية الدعاية الموالية للحكومة، وتم تسميته بلورانس الجديد نسبة للورانس العرب. والصور التي تجمعه بالقائد الكردي بارزاني أو قيامه بمراقبة قوات البيشمركة، تم تصويرها كما لو كان ليفي يقود القوات الكردية في الواقع. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الصحافة التركية كانت قد صورت ليفي في الماضي باعتباره العقل المدبر لانقلاب السيسي في مصر.

وقد قادت كل هذه التطورات تركيا إلى إعادة تحديد موقعها على طول الطيف الاستراتيجي. وبينما تنخرط تركيا إلى حد كبير في الأسواق الغربية وفي سلسلة التمويل العسكري، وفي حين لا تزال تسعى إلى الحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، على الأقل على الورق، تجد تركيا نفسها أبعد من أي وقت مضى عن المعسكر الذي كانت تنتمي إليه منذ الأيام الأولى للحرب الباردة. والزيارات الأخيرة للواء الإيراني محمد باقري ورئيس فنزويلا المثير للجدل مادورو لا تحتاد إلى تفسير.هذه الصورة الاستراتيجية الجديدة تدفع تركيا بعيداً عن الغرب إلى أحضان روسيا والصين، حيث لا تواجه أي انتقادات على سجلها للديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولا تزال تركيا تسعى، من خلال الاقتراب من الشرق، إلى تعظيم مصالحها في الغرب. وتسعى، دون الانفصال عن الناتو والغرب، إلى تعزيز اقتصادها من خلال التعاون مع رؤية “حزام واحد طريق واحد” الصينية، التى تسعى لربط الصين بأوروبا عبر الطرق التجارية التي تمر عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وتحاول في الوقت نفسه حماية نفسها باستخدام الناتو في حين تسعى للحصول على اثنتين من بطاريات S-400 جديدة من روسيا.

وستكون لهذه السياسة أيضاً تداعيات خطيرة؛ فالابتعاد عن الغرب سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز الدوائر القومية الإسلامية والأوروآسيوية في البلاد، وقد يؤدي ذلك إلى اختراق واسع النطاق من قبل هذه الكيانات لآلية الدولة التركية، الأمر الذي سيسهل بدوره تقارب تركيا مع إيران وروسيا. الخلاف مع الغرب وخطابات أردوغان المناهض للغرب قد يفتح نافذة  جديدة من الفرص ويكون مصدراً للدعم الشعبي في الداخل، ولكنه يحد أيضاً من قدرة تركيا على مواجهة حزب العمال الكردستاني؛ فلن تستفيد أنقرة من المعلومات الاستخبارية الأمريكية اللحظية في سوريا وإيران كما كانت في الماضي. وردود الفعل السلبية هذه ستدفع تركيا حتماً وبقوة نحو الأسلحة الروسية.

على الرغم من كل ما ذكر أعلاه، فإن المشكلة الأساسية بالنسبة لتركيا هي أنه في حين أن هناك عدم ثقة  شبه كاملة في العلاقات بين القادة الغربيين وأردوغان، فلا يمكن لتركيا أن تثق في عدوها التاريخي روسيا. وروسيا، من جانبها، لا يمكن أن تنسى بسهولة إسقاط طائرتها الحربية. وأخيراً وليس آخراً، فإن الصينيين لن يثقوا بسهولة بالأتراك بسبب موقف تركيا المؤيد للأويغور بشأن مسألة شينجيانغ. بعد ذكر كل هذا، يبدو أن تركيا ستحاول تعظيم مصالحها باستخدام كل طرف كوسيلة ضد الآخر، في حين تعمل في الوقت نفسه بشكل مستقل قدر الإمكان. وفي نهاية المطاف قد تتعرض تركيا لخطر العزل.

المصدر: مركز موشيه ديان للدراسات

الكاتب: حاي إيتان كوهين ياناراوجاك

الرابط: http://dayan.org/content/through-turkish-eyes-how-west-lost-turkey

ضع تعليقاَ