مايو 3, 2024

عن العلاقة التكاملية بين داعش والبعث

ستراتفو ر

لا يخفى على أي متابع للإرهاب بشكل عام و لتنظيم داعش بشكل خاص كمية الربط الكبيرة التي يقوم بها العديد من المحللين بين حزب البعث العراقي المنحل و هذه التنظيمات المختلفة. و لا يسعنا التأكد بجد إن كانت هذه الاتهامات تنطلق بهدف تقويض الجاذبية التي يحظى بها التنظيم لدى بعض المتتبعين أو أنها اعتراف حقيقي بالدور المتزايد الذي تقوم به فلول حزب البعث العراقي المنحل لدعم التنظيمات الإرهابية المختلفة و استغلالها إبتداءً من عام 2010.

و بدون أي شك،فإن برنامج اجتثاث البعث الذي وضعته الإدارة الأمريكية عقب احتلال العراق عام 2003 ساهم بشكل كبير في لجوء العديد من البعثيين السنة إلى أحضان الجماعات الجهادية كجماعة التوحيد و الجهاد التي كانت تنشط في العراق تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي. لم تقتصر منافع التنظيمات الجهادية على ما جلبه انضمام هؤلاء المقاتلين من زيادة في كمية الأسلحة و نوعيتها فحسب، بل ساهم أعضاء حزب البعث السابقين في جلب مجموعة واسعة من المهارات كانت تفتقر إليها الجماعات الجهادية في السابق، كمكافحة التجسس و الشبكات و التهريب. هذا بالإضافة إلى قدرة البعثيين على تدريب المقاتلين بكفاءة أعلى مما اعتاده المقاتلون في صفوف التنظيمات الجهادية. ساهم ذلك بشكل واضح في صياغة أسلوب جديد لهذه التنظيمات و باتت المباغتة و الصدمات و الرعب المتبادل ملامح واضحة لاستراتيجية الجهاديين العسكرية.

و تشير العديد من المصادر أن العديد ممن انضم إلى صفوف التنظيمات الجهادية كانوا في الأساس ينشطون ضمن مجموعات فدائي صدام، و الذين اختصوا بشكل أساسي بالحرب غير النظامية و قتال الشوارع. عمل صدام على استحداث جهاز “فدائي صدام” بعد حرب الخليج الأولى. خضع أعضاء هذا الجهاز لتدريبات شاقة، اكسبتهم قلوباً حجرية باردة و جعلتهم متخصصين في التعذيب السادي و الإعدام الدراماتيكي. و لعل أساليب داعش التي تتبعها الآن في الإعدام كانت منتشرة بشكل كبير في خبايا السجون العراقية الخاضعة لهذه القوة، لكن مع تغطية إعلامية أقل، خاصة عمليات الإعدام بقطع الرأس أو بتفجير الصدر أو غيرها من الطرق التي صارت مألوفة لداعش وقت الإعدام.

و على الرغم من كل هذه الإشارات، إلا أنه من الخطأ الجسيم تصوير داعش كجزء من منظمة بعثية، أو الإيحاء بأن البعثيين يتحكمون في التنظيم بشكل خفي في سبيل تسيير أهداف التنظيم من وراء هذا الغطاء.

بعثيو العراق

في سعينا لدراسة الأدوار الحقيقية للبعثيين داخل داعش، علينا بلا شك المرور على طبيعة حزب البعث العربي الاشتراكي و فهم طبيعته و طريقة حكمه في العراق سابقاً و التي استمرت منذ 1968 حتى عام 2003. شكل حزب البعث جزءً مهماً من الحزب الاشتراكي الذي سعى إلى توحيد العالم العربي كله تحت حكم البعث، و آمن البعث أيضاً بالانتفاضة المسلحة و بالانقلابات كوسيلة ناجعة للحكم و هو ما فعله في سوريا و العراق و بشكل آخر في مصر. و خلال حكم البعث في العراق، أصحبت العراق لا تختلف كثيراً عن ألمانيا الشرقية الشيوعية أو ألبانيا أنور خواجا، حيث تنتشر أجهزة الدولة البوليسية و المخبرين في كل مرافق الحياة.

فور وصول صدام إلى السطلة عام 1979 قاد حملة تطهير ستالينية لتعزيز سيطرته على حزب البعث العراقي و العراق. و اشتهر صدام بعدم تسامحه مع أي معارضة و قتل الآلاف في سبيل بسط سيطرته الكاملة على البلاد. و بهذا حول صدم البعث من حركة ثورية اشتراكية تهتم بعموم العرب إلى حركة تهدف إلى عبادة الشخص و تركز على صدام فقط. و هذا ما أشار إليه العديد الكتاب باسم ” الصدامية ” في وصف فدائي صدام حيث تم وصفهم حرفياً ب:” المستعدين للموت من أجل صدام.”و لنا أن نتخيل شكل قوة قوامها 30 ألف رجل تؤمن بالتضحية في أرواحها من أجل زعيم واحد هو صدام.

و بدلاً من محاولة لتوحيد سياسي تجمع الدول التي يحكمها حزب البعث كسوريا مثلاً، قام صدام بغزو إيران و الكويت في سبيل توسيع دولته. هذه المشاريع جلبت العديد من الكوارث على العراق و العراقيين، و تسببت في قمع شديد للإنتفاضات التي قام بها الشيعة و الأكراد ضد نظام صدام في العراق. من جهتها عارضت سوريا محاولات التوسع العراقية تلك، و شاركت في التحالف الدولي الذي قاد عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من أيدي القوات العراقية.

و حظيت عضوية حزب البعث في العراق بأهمية موازيةً لتلك التي حظيت بها عضوية الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية سابقاً أو الصين الماوية أو الاتحاد السوفييتي، و كانت عضوية البعث هامة لأي شخص في العراق على أمل الحصول على أي وظيفة حكومية أو يتمكن من ممارسة نشاط تجاري أو غير ذلك من الأنشطة التي تتطلب تدخلاً من الدولة في المستقبل.

و رغم انتشاره الواسع في العراق، إلا أن حزب البعث لم يمثل مصدر جذب أيديولوجي بقدر ما كانت تحكم النفعية علاقته بالعراقيين، و اضطر كثيراً لاستخدام العنف بوحشية لإقناع العراقيين بما يحمله الحزب هذا. و بهذا انتشر حزب البعث في العراق بشكل كبير، كون المنضمين إليه يستفيدون من ذلك مادياً و ليس لكونهم مقتنعين بما يحمله من أفكار و أيديولوجيا حقيقية.

و بهذا لجأ معظم العراقيين إلى الانضمام لحزب البعث لكن لا يعني هذا بالضرورة كونهم “صداميين” كفدائيي صدام. و هذا يوجه سؤالاً آخر بطريقة معاكسة، فبدل أن نسأل عن إمكانية تستر كثير من البعثيين بداعش و التنظيمات الجهادية الأخرى لتنفيذ أجندة البعث نفسه، لماذا لا يكون العكس صحيحاً و نعتبر أن هناك الكثير من الإسلاميين المتشددين تستروا بالسابق تحت غطاء حزب البعث في العراق و انطلقوا الآن على حقيقتهم؟!.

حاول صدام خلال الفترة التي سبقت حرب الخليج حشد العرب وراءه من خلال توجيه أنظارهم نحو تهديد إيران الذي كان يواجهه مبكراً، لكن الواقع يقول أن صدام فشل في ذلك فشلاً ذريعاً. فالواقع يتحدث عن انضمام العديد من الدول العربية لقوات التحالف المحاربة للعراق فور غزو صدام للكويت. و ظهر للمتابعين تغير تكتيكي في أيديولوجية صدام بعد حرب الخليج، إذ بدى ميوله اتجاه الإسلام بشكل أكبر و لم تقتصر آثار هذه الميول على الخطابات و الرمزيات بل تعدى ذلك أيضاُ من خلال إعطاء الدعاة السلفيين حرية أكبر للعمل في العراق. و بكل تأكيد فإن هذه الحرية المعطاة للدعاة السلفيين في العراق فتحت الآفاق أمام العراقيين السلفيين للعمل مع الدولة و الانضمام لحزب البعث.

مر 13 عاماً على الغزو الأمريكي للعراق، أزيح صدام و رفاقه من السلطة، و ذهب تقديس صدام و عبادته بعد موته و حتى معظم البعثيين الآن لا يحلمون بإعادة تأسيس نظام صدام القديم مجدداً.

قيادة داعش

يصعب علينا قراءة عقول قادة داعش لتحديد طريقة تفكيرهم بشكل دقيق، و كيف ينظرون إلى الجماعة هذه، لكن يمكن لنا أن لنا دراسة بعضاً من سلوكياتهم الواضحة لتحديد انتمائهم الأيديولوجي بشكل دقيق.

المؤشر الأول الذي سيساعدنا على تحديد الإطار الأيديولوجي لقادة داعش، هو اصرارهم المستمر على مواصلة العمليات الهجومية، رغم خسائرهم الكبيرة. فهم أشبه بالحيوان المفترس الذي ما أن تمسك أنيابه بفريسه لا يفلتها مجدداً. و بدا هذا واضحاً في اصرارهم الكبير على السيطرة على مدينة كوباني السورية. على الرغم من كون المدينة ساحة غير حاسمة في المعركة و لا تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة مقارنة مع غيرها من المناطق. و مع ذلك فإن داعش لم توقف محاولاتها للسيطرة على المدينة و أرسلت العديد من التعزيزات هناك و خسرت كثيراً من مقاتليها هناك أيضاً. و لعل هذا يشير إلى اقتناع قادة داعش بكونهم مباركين و مدعومين إلهياً بشكل كبير في كل مسعى يحاولون الوصول إليه، و يدل أيضاً على عدم استناد قادة الجماعة على دلائل عسكرية واقعية في اتخاذ قراراتهم الميدانية على الأرض.

علاوة على ذلك، لم يتحلى قادة داعش بالواقعية الكافية بعد استخدامهم سياسات طائفية حادة و تكفيرية في وجه المخالفين لهم، حيث يعتبرون أن أي مخالف لهم حتى ولو كان مسلماً هو مرتد و بالتالي فهو عرضة للاستهداف بشكل أو بآخر. هذا الأمر خلق لهم الكثير من المعارك مع جماعات عرقية و دينية كثيرة خلال الفترة الماضية. و يختلف هذا التوجه مع التوجه الذي يتبعه تنظيم القاعدة، فالقاعدة تمتلك فلسفة تتمثل في عدم البدء بالهجوم و بالتركيز على عدو واحد في كل وقت. أما داعش فقد هاجمت الجميع بلا استثناء و حتى ما كان يعتبر استثناءً في الماضي بدا الآن في الدخول ضمن دائرة المستهدفين كتركيا و بعض قادة نظام الأسد. استراتيجية كهذه خلقت لداعش الكثير من جبهات القتال العنيفة و المتعددة في آن واحد.

و بنفس الطريقة، ظهرت عشوائية مسؤولي التنظيم بشكل واضح خاصة عندما يتعلق الأمر بخلقهم للأعداء الخارجيين، فعلى الرغم من مشاركة داعش في الكثير من الجبهات و المعارك الداخلية في العراق و سوريا، عمل التنظيم على استفزاز الولايات المتحدة و غيرها لجذبها نحو هذا الصراع و المعارك.

و رغم معرفة قادة التنظيم أن جذب هذه الدول ” الصليبية” للمعركة لن يساعد داعش بشكل كبير على المستوى الأيديولوجي، إلا أن داعش نجحت في تنظيم العديد من المقاتلين الأجانب من قلب هذه القوى “الخارجية” و جلعها طرفاً في الصراع. كان يجدر بقادة التنظيم الاهتمام بمراعاة الأعمال التجارية بشكل أكبر قبل استفزاز هذه القوى الخارجية و جلبها لساحة الصراع.

تروج داعش لفكرة نهاية العالم بشدة، فهي تتبنى فكرة معاناة ثلة قليلة من المؤمنين لفترة من الزمن حتى يأتي النبي عيسى عليه السلام و يهزم القوات “الصليبية” التي يقودها المسيح الدجال في المعركة الأخيرة في مرج دابق في سوريا. و بعد هذه المعركة يصبح بإمكان المؤمنين الحقيقيين توسيع رقعة سيطرتهم لتشمل كل العالم فيما بعد. و لعل ما تقوم به داعش الآن من استفزاز للقوى الأجنبية المختلفة و على رأسها أمريكا يهدف لجر هذه القوات لمهاجمة التنظيم و بالتالي جرهم إلى المعركة النهائية التي ينتصر فيها المؤمنون وفق اعتقاد داعش و مقاتليها. هذا كله لا يعني عدم وجود عدد كبير من الانتهازيين بين مقاتلي داعش و قادتهم لكن هذا التوصيف يعطي الملمح العام لطريقة تفكير و تشكل عقلية قيادة داعش.

تقع مدينة دابق داخل المنطقة الأمنة التي يسعى الأتراك لإقامتها شمال سوريا، و سيكون مثير للاهتمام طريقة دفاع داعش و قادتها عن هذه المدينة حال البدء بتنفيذ الخطة التركية بإقامة هذه المنطقة الأمنة. فبلدة دابق لا تمتلك أي أهمية تكتيكية أو استراتيجية حقيقية سوى كونها المدينة ذات القيمة العقائدية و الأيديولوجية لدى التنظيم و من يعتنق فكره، و بالتالي قد تشهد المعركة الفاصلة في هذه المدينة المحك الذي ينفصل فيه مقاتلي البعث المتسترين بتنظيم داعش عن المقاتلين الداعشيين المؤمنين حقيقة بأيديولوجية التنظيم.

ستراتفور

15 – 8 -2015

ضع تعليقاَ