رأي إدراك
في قلب الجدل العام حول مستقبل الدولة السورية، يبرز سؤال جوهري طالما شكّل معضلة فكرية وسياسية: هل يمكن الجمع بين مبدأ العدالة/المساواة في المواطنة، وبين الاعتراف بهوية وطنية ذات ملامح ثقافية أو حضارية محددة؟ وهي معضلة تواجه الدول الخارجة من النزاعات أو الأنظمة السلطوية، حيث غالباً ما يُطرح الحياد الهوياتي كبديل، لكنه قد يتحول إلى تعويم هوياتي يُفضي إلى فراغ رمزي خطير.
من الأخطاء الشائعة في هذا السياق اعتبار أن أي تعريف لهوية عامة للدولة – كأن تحمل طابعاً إسلامياً أو عربياً أو كليهما – يستتبع بالضرورة انتقاصاً من حقوق المكونات المختلفة، وهو ما يخالفه عدد من المفكرين الذين يذهبون إلى أنّ الهوية الجامعة، إذا ما صيغت ضمن إطار مدني عادل، لا تصطدم مع المساواة، بل قد تسهم في ترسيخها من خلال توفير مرجعية رمزية تعزز الانتماء دون محو الخصوصيات.
فالمفكر الكندي تشارلز تايلور يرى في “الاعتراف” مدخلاً لتحقيق العدالة، لأن إنكار الهويات الثقافية يُعيد إنتاج التهميش بطريقة غير مباشرة؛ فالديمقراطيات لا تُبنى على محو الاختلاف، بل على احتوائه في إطار المواطنة المتساوية.
أما طارق البشري، فيُميّز بين الدولة الدينية والدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، حيث ترتكز الأخيرة على الإرث الثقافي كمنظومة قيم، دون أن تتناقض مع القانون المدني العادل.
يورغن هابرماس، من جانبه، يطرح مفهوم “الوطنية الدستورية”، حيث تقوم الدولة على اتفاق جامع حول القيم الدستورية، لا على فرض ثقافة موحدة؛ لكنه لا يغفل أهمية الخلفية الثقافية في تشكيل المجال العام، بل يرى ضرورة إدماجها ما دامت لا تتعارض مع القيم الديمقراطية.
ويرى عبد الوهاب المسيري أن “الدولة المدنية ذات المرجعية الحضارية” تتيح مساحة للتعدد والتسامح، دون تحويل الدين إلى أداة قهر سياسي.
ويؤكد رضوان السيد أن تجاهل الأغلبية الثقافية يُفرغ الدولة من رموزها الجامعة، ويؤسس لانفصالها عن مجتمعها. أما برهان غليون، فيرى أن الدولة الحديثة بحاجة إلى هوية ثقافية تعزز الانتماء، دون أن تتحول إلى أداة إقصاء. ويؤكد عزمي بشارة بدوره أن الخصوصية الثقافية للأغلبية لا تتناقض مع المساواة، بل يمكن أن تُشكّل إطاراً جامعاً للهوية الوطنية.
وتُعد كتابات الدكتور مصطفى السباعي نموذجاً مبكراً لتلك المقاربات، إذ شدد في كتاباته، مثل “اشتراكية الإسلام”، على أن الدولة التي تنطلق من هويتها الحضارية الإسلامية قادرة على بناء عدالة اجتماعية شاملة، شريطة أن تستند إلى قيم العدل والمساواة والحرية، التي تُشكّل جوهر التصور الإسلامي للمعاش والعلاقات الاجتماعية.
في الحالة السورية، يبدو من غير الواقعي القفز فوق العمق ذي الطابع الإسلامي العربي. فمحاولة نزع البعد الهوياتي عن الدولة لا تعني الحياد، بل هو أقرب إلى نزع الجذور، ما قد يُنتج فراغاً هوياتياً يُهدد تماسك العقد الاجتماعي.
الطرح المهم هنا يتمثل في الفصل بين الهوية الثقافية للدولة ومرجعيتها القانونية؛ فالأولى تُستمد من واقع المجتمع وتاريخه، بينما الثانية تنظم الحقوق والواجبات بموجب مبدأ المواطنة.
أما التوازن العملي بين الهوية والمواطنة، فيتحقق من خلال آليات مثل: صياغة دستور يضمن الحقوق والرموز معاً، إطلاق حوارات وطنية، تطوير المناهج التعليمية، تنظيم حملات إعلامية، تقليص الفجوات الاجتماعية، والاستفادة من التجارب المقارنة.
كما تُظهر تجارب مثل تركيا وماليزيا إمكانية المزج بين الهوية الثقافية الغالبة ودستور مدني، دون الإضرار بالتعددية أو تفكيك الانتماء العام.
بمعنى آخر، فإن جوهر المشكلة لا يكمن في الهوية العامة بحد ذاتها، بل في الكيفية التي تُوظف بها سياسياً؛ فالخطر يبدأ حين تُستخدم لتبرير الاستبداد أو نفي الآخر، لا حين تُطرح كإطار جامع يحتضن التعدد، ويؤطره ضمن منظومة عادلة من الحقوق والواجبات.
إن الهوية الجامعة ليست تهديداً للمواطنة، بل ضمانة ضد انقسامها إلى ولاءات متنازعة أو فراغات متصارعة.