خالد تركاوي
مقدمة
تعتبر العلاقات الاقتصادية الخليجية مع إيران محل اهتمام بالغ كونها لا تعكس حجم التوتر السياسي بالضرورة بين الأطراف المتنازعة، فعلى الرغم من القطيعة التي تبديها بعض دول الخليج اتجاه إيران نجد أن لها استثمارات كبيرة في إيران كما في حالة المملكة العربية السعودية، فيما تسعى دول أخرى كالإمارات العربية المتحدة إلى تطوير هذه العلاقات مدفوعة برغبة تهدئة لضمان سلاسة عمليات تصدير النفط التي تعتمد عليها كمورد رئيسي في موازنتها، وفي ظل المقاطعة التي فرضت على قطر من قبل شركائها في مجلس التعاون الخليجي فقد توسعت قطر إلى دول الجوار لسد الخلل الحاصل في السلع الأساسية فرفعت من حجم تبادلها التجاري من إيران بشكل كبير، على جانب أخر نجد أن دولة كالبحرين تتخذ خطوات باتجاه المقاطعة الكاملة لإيران مثل التضييق على بنك المستقبل الذي يتخذ من المنامة مقراً له وتفكيكه قضائياً بتهمة ارتباطه بالحرس الثوري الإيراني.
بعد انتشار فايروس كورونا ( كوفيد 19) في دول الخليج بدا أن معظم حالات الإصابة قادمة من مصدر واحد وهو إيران، إذ انتقل الفيروس عبر مخالطة مواطنين خليجيين لآخرين إيرانيين وهذا مؤشر هام على وجود تعامل واختلاط كبير بين مواطني هذه الدول، لتسارع بعض الأطراف في دول الخليج بإعادة تشكيل صورة إيران في الرأي العام الخليجي بإضافة عامل تهديد جديد هو العامل الصحي، خاصة وأن انتشار الفيروس في إيران بدء من مدينة قم التي يشار إليها على أنها المركز الرئيسي للشيعة في العالم، وإمكانية توظيف هذا الأمر في الصراع الشيعي- السني في ظل عدم شفافية الحكومة الإيرانية التي ورطت عدداً كبيراً من مواطنيها في نقل العدوى لآخرين من خلال تأخرها بإغلاق المزارات والإعلان عن وجود الفيروس.
تحاول هذه الورقة استعراض الأوضاع الاقتصادية على الجانبين (الخليجي والإيراني) وتطوراتها خلال الأزمة الراهنة، التي شكلت خطراً مزدوجاً لكلا الطرفين، تمثل بانخفاض أسعار النفط وتهديد الاقتصادات المحلية عبر انتشار الفيروس وتعطل الجهاز الإنتاجي، كما تحاول هذه الورقة تحديد السيناريوهات المحتملة لفترة ما بعد الأزمة.
أولاً: من إيران إلى دول الخليج: انتشار الفيروس
في كانون الأول/ديسمبر 2019 أعلنت الصين عن انتشار فايروس كورونا (كوفيد 19) حيث اعتمدت الإجراءات الصينية في التعامل مع الخطر على حصار عدد من المدن وحجر مئات آلاف الأشخاص في سبيل تخفيف انتشار الفيروس، عدد كبير من الدول قيدت علاقاتها مع الصينعلى الفور، ولكن إيران حافظت حتى وقت متأخر نسبياً، على علاقات جيدة مع شريكها التجاري الأول، بل وجدت في الأزمة فرصة لتقوية علاقاتها الدبلوماسية، ولم تعلن طهران عن حالات إصابة بالفيروس حتى التاسع عشر من شهر شباط/فبراير 2020، عندما أعلنت وزارة الصحة عن وفاة شخصين في مدينة “قم” التي تضم ما يزيد عن 1.2 مليون نسمة، وتعتبر المدينة العلمية ووجهة الزيارات الأولى للشيعة من مختلف أنحاء العالم.
تبين لاحقاً أن إيران كان لديها تسجيل لإصابات في المدينة غير معلنة. حيث أن لقاءاً حصل في 15 شباط/فبراير 2020 بين معممين من رجال الدين من قم والمرشد الأعلى علي خامنئي ولكن لم يسمح لهم – للمرة الأولى- بتقبيل يد المرشد، فيما بعد قدمت إيران رواية رسمية قالت فيها أن طلاباً صينيين يدرسون في “قم” هم من نقل الوباء للمدينة وأن أول وفاة حصلت في إيران كانت في 13 شباط/فبراير 2020 – بعكس الإعلان الحكومي-
استمرت العلاقات الرسمية الإيرانية مع الصين رغم قرارات الحكومة الإيرانية بوقف الرحلات، إلا أن طيران ماهان الإيراني استمر حتى بداية أذار بتسيير رحلات جوية من وإلى الصين وكذلك إلى دول أخرى لنقل الزوار الشيعة، وذلك رغم إعلان الشركة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني عن إيقاف الرحلات رسمياً في بيان نشرته عبر موقعها. وهذا ما أعطى انطباعاً بأن إيران تعاملت مع الأمر باستهتار وتجاهل في سبيل تحسين العلاقات مع العالم الخارجي في مواجهة الحصار الذي يستهدفها، إضافة لرغبتها في تجنب إلغاء الانتخابات البرلمانية في 21 شباط و تجنب اغلاق المزارات الدينية -المصدر الأول لانتشار الفيروس- لأسباب ايدلوجية وأخرى تتعلق بكونها مصدر دخل كبير لإيران وأحد أهم وسائل اتصالها بالخارج، فلم يعلن عن الإغلاق حتى منتصف آذار/مارس 2020، وحتى بعد هذا التاريخ فقد جرى خرق الحظر أكثر من مرة من جموع غاضبة ترى في هذه الأضرحة والأماكن محل استشفاء وليس مرض، وخرجت أهازيج وأغاني لمجموعات كبيرة من المتعصبين في إيران والعراق تؤكد أن هذه الأماكن هي للشفاء ولا يجوز الإشارة إليها بأنها مصدر للمرض.
في 24 شباط/فبراير 2020 سجلت البحرين أول إصابة لمواطن قادم من إيران كما أعلنت الكويت في 25 شباط/فبراير 2020 عن إصابة ثلاث مواطنين قادمين من إيران من بين آخرين قامت بإجلائهم من مدينة مشهد الإيرانية، كذلك أعلنت الإمارات وقطر عن إصابات مصدرها إيران، وفي الثاني من اذار 2020 أعلنت المملكة العربية السعودية ظهور أول إصابة في البلاد لشخص قادم من إيران عبر البحرين لتصبح كل من الإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر والسعودية على قائمة الدول المسجلة لحالات انتشار الفيروس و لتعلن هذه الدول تباعاً عن حالات أخرى مخالطة لحالات قادمة من إيران ومن ثم مصادر أخرى.
لذا يمكن القول أن إيران صدرت الوباء لدول الخليج والعراق ولبنان عبر الزوار الشيعة نحو دول ذات أغلبية عربية سنية لديها مشاكل مع إيران لا تنفك تتفاقم، لقد حملت رواية انتشار المرض التي قدمتها إيران كل عناصر الاستثمار والتوظيف الممكنة من قبل من يريد ذلك، فسرعان ما صرح وزير الداخلية البحريني راشد بن عبد الله آل خليفة أن إيران تصدر عدواناً بيولوجيا يجرمه القانون كما هاجمت الخارجية السعودية تصرفات إيران واستهتارها، فيما هاجمت صحف خليجية تصرفات إيران وتجاهلها للأزمة وتصديرها للفيروس إلى مختلف دول المنطقة.
ثانياً: الأثر الاقتصادي لانتشار الفيروس على كل من إيران واقتصاديات دول الخليج
مع بدء الإعلان عن انتشار الفيروس في دول العالم بدت أسعار النفط أكثر تأثراً بسبب انخفاض الطلب الذي تسببه إغلاق المصانع في الصين ومن ثم دول أخرى وتعليق عدد كبير من الرحلات الجوية واتخاذ تدابير تخفض الحركة الكلية للسيارات وبالتالي انعكس ذلك كله على السعر للبرميل الذي انخفض من حوالي 65 دولاراً للبرميل مطلع العام الجاري إلى أقل من 30 دولاراً (الشكل رقم 1) الأمر الذي انعكس على الاقتصادات الخليجية المرتبطة بالنفط بشكل كبير. ومع انتشار الفيروس داخل دول الخليج بدى الوضع أكثر كارثية على الاقتصاد حيث بدأت مؤشرات البورصة تتلون بالأحمر معلنة بدء مرحلة خسائر لكبرى الشركات، فمؤشر السوق العام للكويت (الشكل رقم 2) انخفض من 5500 نقطة مطلع العام إلى قرابة 4500 نقطة في 24 أذار/مارس 2020 فيما خسر مؤشر السوق لأداء أكبر خمسين شركة في الكويت قرابة ألف نقطة. كذلك انخفض مؤشر سوق دبي للأوراق المالية ( الشكل رقم 3) من 2750 نقطة إلى قرابة 1820 نقطة خلال الربع الأول من العام الحالي.
ونلاحظ أن مؤشر البحرين العام (الشكل رقم 4) انخفض من قرابة 1600 نقطة إلى قرابة 1350 نقطة، ومؤشر سوق عمان المالي من 1800 نقطة إلى أقل من 1670 نقطة. أما المؤشر السعودي العام ( الشكل رقم 5) لبورصة الأوراق المالية فقد انخفض من حوالي 8300 نقطة إلى أقل من 6000 نقطة.
كما انخفض مؤشر بورصة قطر من 10500 تقريباً بداية العام إلى قرابة 8400 نقطة خلال الربع الأول من العام الجاري.
ويعتبر قطاع النفط والقطاعات المرتبطة من القطاعات الأكثر تأثراً في دول الخليج حيث يشكل النفط ما يقارب 50% من إيرادات دول مجلس التعاون الخليجي وتقترب حصة النفط من 80% من صادرات هذه الدول، ويضاف لهذا تأثر قطاع الطيران الذي قلص رحلاته إلى الصفر وهو ما مثّل خسائر هي الأكبر من نوعها في تاريخ هذه الدول، إضافة لقطاعات السياحة ومبيعات التجزئة، ورغم أن دول الخليج بدأت برامجاً تستهدف تحويلات هيكلية لتقليل اعتمادها على النفط إلا أن الوضع الراهن لا يزال مرتبطاً بشكل كبير بأسعار الطاقة ولم تتمكن هذه الدول بعد من الانتقال بعيداً عن الموارد الطبيعية، ولا شك أنّ سعر النفط قد يستمر في الانخفاض أو يبقى عند مستوى ثلاثين دولار للبرميل الواحد حتى نهاية العام على أقل تقدير مما يضعف الموارد العامة لهذه الدول إضافة لتأثر الموارد السياحية في كل من البحرين والإمارات والمملكة العربية السعودية التي يتوقع أن تلغي موسم الحج لهذا العام، وفوق كل هذا بدأت هذه الدول بتخصيص موازنات طوارئ لإنعاش اقتصاداتها وهذا يحملها كلفة إضافية علاوة على الحرمان من الموارد ويتوقع أن تنعكس هذه الظروف على انخفاض النمو في النواتج المحلية الاجمالية لهذه الدول للعام 2020.
يعتبر الاقتصاد الإيراني أحد الاقتصادات ذات الموارد الغنية فهو يمتلك احتياطات غاز و نفط تصنف ضمن الاحتياطات الأكبر دولياً، إلا أن العقوبات المفروضة على البلاد جعلت الوضع مختلفاً عما يجب أن يكون عليه، وحرمت إيران من الاستفادة من كثير من الموارد.
بلغ عدد سكان إيران حوالي 82 مليون نسمة في نهاية العام 2018 وبلغ متوسط دخل الفرد للعام نفسه حوالي 5000 دولار أميركي وصدّرت إيران ما قيمته 107 مليار دولار أميركي 60 ملياراً منها نفط، وقد بلغ متوسط الإنتاج اليومي من النفط 3.5 مليون برميل خلال 2018 ولكنه انخفض بشكل ملحوظ في وقت لاحق، ولدى إيران مصافي تعمل بطاقة 2 مليون برميل يومياً، كما تنتج إيران 248.5 مليار متر مكعب من الغاز تصدر منه 12.3 ملياراً ، هذه الأرقام تعتبر أرقاماً جيدة مقارنة بدول الجوار ولبلد يتعرض لعقوبات خارجية، وفي نفس السياق حقق مؤشر بورصة طهران مكاسباً كبيرة للشركات ونجح بجذب سيولة كبيرة العام الماضي 2019 رغم العقوبات.
ومع مطلع العام الجاري 2020 يواجه الاقتصاد الإيراني عدة مشاكل رئيسية:
- حرب الولايات المتحدة الأميركية ضد الميليشيات الإيرانية المنتشرة في العراق وسورية بدأت مع مقتل سليماني مطلع العام والتي لا يبدو أنها ستتوقف في المدى القصير ففي منتصف أذار الجاري قصفت الولايات المتحدة الأميركية مقرات للحشد الشعبي العراقي المدعوم من إيران.
- العقوبات ضد الاقتصاد الإيراني والتي تمنع إيران من الاستفادة من كامل مواردها الطبيعية، وقد طالبت الحكومة الإيرانية أن يتم الغائها لمواجهة الفيروس وذلك في رسالة لمجلس الأمن ولدول أخرى وأتى الرد الأميركي بوضع مزيد من الشركات على قائمة العقوبات.
- انخفاض الطلب على النفط وبالتالي انخفاض الأسعار إلى مستوى غير مسبوق مما يعني إيرادات أقل بل ربما إيرادات صفرية حيث تكلفة الإنتاج للبرميل تبلغ ما يزيد عن 12 دولاراً وتكلفة التحويل للأموال بسبب العقوبات إضافة للخصومات التي تمنحها إيران لمن يشتري، ربما يجعل السعر في السوق لا يساوي التكلفة.
- فيروس كورونا الذي يضعف النشاط الاقتصادي في إيران إضافة لإضعاف السياحة الدينية ويفرض تحديات على الحكومة لصرف المزيد من الأموال في سبيل تنشيط الاقتصاد ومساندة الفئات الضعيفة في المجتمع في ظل وجود احتجاجات واسعة شهدتها البلاد في فترات ليست بعيدة.
- تجميد العلاقات مع الشركاء الرئيسيين بمن فيهم الصين بسبب الظروف الراهنة، الناجمة عن مكافحة الفيروس ومع استمرار التهديد يبدو أن إيران يجب أن تبحث عن تنويع شراكاتها مع دول أخرى.
- ارتفاع الأسعار المتزايد الذي تشهده إيران في الداخل حيث وصل سعر الصرف إلى قريب من 160 ألف ريال لكل دولار مما يؤدي لتأكل القوة الشرائية وعدم استقرار التجارة بشكل عام، وهروب الناس من العملة المحلية نحو عملات أو وسائط أكثر استقراراً كالذهب.
ثالثاً: التبادل التجاري والاستثمارات
أكبر الشركاء التجاريين لإيران هم الصين والاتحاد الأوربي والإمارات العربية المتحدة (حيث كان الاتحاد الأوروبي هو الشريك الأول لإيران قبل فرض العقوبات عليها)، إضافة لتركيا والهند وباكستان وأفغانستان والعراق.
وفي قائمة الدول الخليجية التي لها علاقات تجارية قوية مع إيران لدينا:
- الإمارات: تعتبر الشريك الرئيسي لإيران بعد الصين، وتمتلك الإمارات استثمارات في إيران كشركة “راك إيران” لصناعة السيراميك التي تمتلكها شركة سيراميك رأس الخيمة الإماراتية وتبلغ صادرات الإمارات لإيران حوالي 9 مليار دولار (قرابة 20% من إجمالي واردات إيران) ويقيم في الإمارات قرابة نصف مليون إيراني يمتلكون أعمالهم الخاصة ومؤسساتهم باستثمارات تقدر 200 مليار دولار بحسب تقديرات مجلس الأعمال الإيراني وبأكثر من عشرة آلاف شركة في معظم مناطق الامارات.
- الكويت: تستثمر في حقول نفط إيرانية، وتاريخياً اعتمدت الكويت على عمالة إيرانية بشكل كبير وكذلك تستورد الكويت مواداً زراعية وغذائية من إيران بقيمة 150 مليون دولار سنوياً إلا أن العمليات تراجعت بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
- سلطنة عمان: يوجد فيها قرابة 400 شركة إيرانية عاملة على أراضيها إضافة لمئات الشركات الأخرى التي يساهم فيها ايرانين ويبلغ حجم التبادل التجاري قرابة مليار دولار أميركي سنوياً مع سعي لتطويره بشكل مستمر.
- السعودية: على عكس الشائع، حيث أنّ عدداً من الشركات السعودية تستثمر في إيران وأبرز هذه الشركات شركة العوجان القابضة للمواد الغذائية إضافة لشركة صافولا التي تمتلك استثمارات غذائية كبيرة في إيران والتي تبلغ حصتها من السوق الإيرانية للزيوت قرابة 40% وتبلغ التبادلات التجارية بين البلدين قرابة نصف مليار دولار سنوياً.
- البحرين: حيث يستثمر بنك المستقبل الإيراني في البحرين بأفرع عدة ولكن الوضع مع إيران متأزم لدرجة أن صدر قرار مطلع العام الجاري(2020) بتفكيك البنك بعد اتهامه بغسل أموال لصالح إيران.
- قطر: حيث توجد منطقة تجارة حرة ومجلس تنسيق اقتصادي مشترك بين البلدين إضافة لحقل غاز مشترك تمتلك قطر ثلثيه تقريباً مقابل الثلث لإيران وبعد المقاطعة الخليجية اعتمدت قطر على سلع إيرانية أكثر وصلت إلى 250 مليون دولار مستوردات سنوية عام 2018 مقابل 70 مليوناً قبل المقاطعة.
في 24 من شباط/فبراير 2020 أعلنت قطر عن اتخاذ إجراءات احترازية في موانئها البرية والبحرية وأكدت أنها ستطلب من القادمين من إيران البقاء في المنازل كما أعلنت بقية الدول الخليجية عن إجراءات تجاه البضائع والأفراد القادمين من إيران تباعاً.
وأعلنت هيئة الجمارك الإيرانية في 02 آذار/مارس 2020 عن أن دول الخليج قلصت بشكل كبير من وارداتها الإيرانية وقال مسؤول الجمارك: “الكويت قيدت التجارة والسفر إلى إيران، وقطر تقبل البضائع الإيرانية فقط عبر السفن التي تحمل مبردات، بينما خفضت الإمارات شراء البضائع الإيرانية، وبالتالي عمليات تصدير البضائع تراجعت أكثر مما كانت عليه في الأيام السابقة”.
ويتوقع أن يستمر انخفاض العلاقات التجارية الإيرانية مع دول الخليج بشكل كبير خلال فترة انتشار الفيروس طالت هذه الفترة أو قصرت.
رابعاً: عوامل التقارب والتنافر في العلاقات الاقتصادية بين دول الخليج وإيران في ظل أزمة كورونا
مع بدء انتشار الفيروس عاجلت الحكومات الخليجية وحكومة إيران لضخ أموال لتنشيط حركة الاقتصاد ولحماية الفئات الضعيفة في المجتمع وفي ظل مواجهة خطرين في عموم هذه الدول هما فيروس كورونا وانخفاض أسعار الطاقة، فإن عدة قضايا ترسم شكل العلاقة الحالية وكذلك المستقبلية بين دول الخليج وإيران على الجانب الاقتصادي بعضها عوامل تدفع بتقوية العلاقات وأخرى تدفع بإضعافها ، ومن أبرزها:
- الجغرافية والجوار: تفرض المسألة الجغرافية تعاوناً بين الدول المتجاورة خاصة من ناحية تكاليف النقل وسهولة التواصل والشحن، وتشترك إيران مع دول الخليج بحدود واسعة تمتد لعدة دول لتخلق أفق تعاون اقتصادي محتمل ولكن في ظل انتشار فيروس كورونا عبر إيران إلى دول الخليج بدت إيران أحد المصادر التجارية الغير مرغوب بها مما يعني أن السلع والخدمات المتبادلة مع إيران ستتعرض لضغوط أكبر في المرحلة المقبلة حتى ينجلي المشهد ويتم إعادة تقييم الوضع الصحي في كل من إيران ودول الخليج بشكل صحيح.
- التهديدات الإيرانية: في وقت سابق صرح الرئيس روحاني أنه في حال حرمت إيران من نفطها فستحرم دول المنطقة منه كذلك وبعدها بمدة تم استهداف نواقل نفط في الخليج كما قام الحرس الثوري باحتجاز سفينة بريطانية في 19 تموز 2019 ليتم تضييق العمل في مضيق هرمز وذلك يدفع لموازنة الضغوط على عمليات النقل النفطية في المضيق وبالتالي الأمر سيجعل دول الخليج العربي تفكر في تقارب اقتصادي من نوع ما ربما على شكل اتفاق لضمان تدفق الناقلات، ولعل هذا ما دفع الإمارات في الآونة الأخيرة لتحسين علاقاتها مع إيران وتوقيع عدة اتفاقيات بدافع الخوف أو الرغبة باستقرار الأوضاع، ولكن خطراً أخر أضيف إلى التهديدات الإيرانية وهو الخطر الصحي المتمثل بالتعامل مع الموظفين الإيرانيين أو العمال.
- تراجع الحماية الدولية لدول الخليج: فقد استهدفت المملكة العربية السعودية أكثر من مرة وفي أحد المرات تم استهداف شركة النفط أرامكو ولكن ردود الفعل الدولية إزاء الحدث كانت ضعيفة للغاية، الأمر الذي يجعل من أحداث كهذه عاملاً لتحديد شكل العلاقات في المستقبل. هذه التهديدات استمرت في زمن انتشار الفيروس فقد أعلنت جماعة الحوثي نهاية أذار الجاري استهداف نقاط داخل المملكة العربية السعودية وفي ظل انشغال الدول الكبرى لا يتوقع أن يكون هناك أي ردود فعل عملية على هذا العدوان أو غيره.
- ملف السياحة الدينية في كل من دول الخليج وإيران: و هو أحد المسائل الخلافية بين السعودية وبقية دول الخليج من جانب وإيران من جانب آخر ومع تحديد مصدر الفيروس الرئيسي في مدينة قم الشيعية ورفض إيران لإغلاق المزارات والاضرحة لوقت طويل بعد اكتشاف الحالات وفي نفس الوقت علقت السعودية العمرة ويتوقع أن تعلق الحج في حال استمرت الظروف كما هي عليه فإن حدة التوتر في هذا الملف سترتفع ولن يكون هناك إمكانية توافق في المدى القصير.
- الصراع السني الشيعي والصراع الفارسي العربي: هو أحد العوامل التي تمنع تطوير العلاقات التجارية البينية بين دول الخليج عموماً من طرف وإيران من طرف آخر، خاصة أن إيران تدعم بؤر التوتر وجماعات تستهدف أمن الدول الخليجية بشكل جوهري مما دفع عدد كبير من الدول لقطع العلاقات السياسية والتجارية أو منع تطويرها، ولكن في هذه الظروف بدت طهران كمصدر تهديد جديد لعدة دول، حيث نقلت العدوى إلى العراق ولبنان، مما دفع شركاء محليين لقوى حليفة لإيران بالتشكيك حول جدوى الانفتاح على إيران الذي تسبب بكارثة، على جانب أخر لم تستغل دول الخليج الفرصة لا في شكل سياسي لتقديم مساعدات ولا على شكل تطوير علاقات تجارية مع هذه الدول ولكن الأمر يبقى مبكراً للحكم على إمكانية حدوث مسائل كهذه.
- رغبة دول الخليج بالانتقال إلى مرحلة اقتصاد غير نفطي: تفرض عليها إيجاد فرص دولية وإقليمية للاستثمار ولعل إيران أحد تلك الدول الممكنة وهذا ما بدى واضحاً في سياسة كل من عمان والامارات وقطر ولكن الأمر سيعلق في ظل انتشار الفيروس إلى وقت أبعد.
- العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران: وملف الطاقة النووية الإيراني والخلاف الحاصل حوله يمنع من تطوير العلاقات الخليجية الإيرانية ولكن هناك رغبة حقيقة من إيران لتحسين العلاقة لتقليل الآثار السلبية المترتبة عن العقوبات اتجاهها وقد حاولت إيران أن تطلب أموالا ومساعدات من عدة جهات فطلبت من صندوق النقد الدولي -الذي تعتبر المملكة العربية السعودية وبعض الدول الخليجية من كبار المساهمين فيه- مبلغاً وقدره 5 مليار دولار أميركي وحاولت أن تطلب فك العقوبات عبر رسائل مباشرة لدول العالم وللأمم المتحدة لتنفتح أكثر على العالم والجوار ولكن سياسة الولايات المتحدة لا يبدو أنها مع إعطاء إيران مساحة للتنفس في الفترة الراهنة دون تقديم تنازلات من نوع ما.
- ضعف التحالف الخليجي في إطار مجلس التعاون الخليجي: عبر ظهور خلافات مع قطر التي اتجهت على الفور لكل من تركيا وإيران تجارياً ورفعت من علاقاتها هناك، وتوجه المملكة العربية السعودية لبناء حلف بداية العام الجاري لدول البحر الأحمر وخليج عدن ضم مصر والأردن والسودان واليمن وجيبوتي وإريتريا والصومال الأمر الذي يقرأ على أنه تقليل للاعتماد على دول الخليج ونزوح نحو مسارات أخرى، وكذلك تعزيز العلاقات الإسرائيلية الإماراتية بشكل واضح وللمرة الأولى بهذه العلنية، كل ذلك يجعل من القيود التي وضعت في إطار مجلس التعاون الخليجي أقل وبالتالي إمكانية تعاون مستقبلي مع إيران من قبل بعض الدول.
خامساً: السيناريوهات المحتملة للتعاون الاقتصادي الخليجي – الإيراني في ظل فيروس كورونا
انتشار فيروس كورونا عزل دول العالم عن بعضها جزئياً وأصبحت العلاقات التجارية أقل ما يمكن للمرة الأولى حتى بين شركاء تجاريين لسنوات طويلة، ولا تزال دول الخليج ترسم معالم خطة الخروج من مأزق انخفاض سعر النفط وضعف الأنشطة الاقتصادية عبر ضخ مبالغ ضخمة وتعليق الدراسة وأغلب الأنشطة الحكومية والخاصة بما فيها حركة الأسواق، حيث ضخت البحرين 1.5 مليار دولار كما خصصت الكويت 1.6 مليار دولار لدعم الحكومة اتجاه الأزمة وخصصت المملكة العربية السعودية 18 مليار دولار لمواجهة الازمة فيما خصصت قطر 20 مليار دولار لمواجهة الأزمة فيما ضخ المصرف المركزي الإيراني قرابة 1.5 مليار دولار للتدخل لوقف انهيار الريال الإيراني.
ومن خلال ما تم استعراضه سابقاً يمكن الحديث عن سيناريوهين رئيسيين، هما:
- قطع العلاقات مع إيران بالاستناد إلى أنها مصدر التهديد الجديد للصحة الخليجية واستخدام ما قامت به حكومتها من خداع في الإعلان عن الإصابات وفتح المزارات إضافة للوضع الكارثي الصحي داخلها وأعداد الوفيات كحجة في استمرار قطع هذه العلاقات، وفي ظل هذا السيناريو يمكن أن يتم استثمار رواية انتشار الفيروس في إيران ودول الخليج من قبل بعض الدول لإضفاء بعد جديد على الصراع عبر تحديث صورة إيران كمصدر خطر وتهديد مضافاً لها الخطر الصحي القادم من مزاراتها الدينية وسلعها ومواطنيها، وفرض مزيد من الحظر على الأفراد والتجارة ورؤوس الأموال في الوقت الراهن ثم تضييق العلاقات المستقبلية في إطار هذه الصورة التي من الممكن أن تعمم لدى شعوب المنطقة وبالتالي يقل الاعتماد على البضائع الإيرانية وتقل التعاملات المستقبلية حتى لو زال خطر الفيروس تحت دوافع الصورة الجديدة للشركات والأفراد وكذلك الحكومات.
وسيعزز الدفع بهذا الاتجاه، العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران وعدم شفافيتها في التعامل مع الأزمة، وفي ظل هذا السيناريو قد نشهد تعاوناً أكبر بين دول الخليج واعتماداً على العلاقات التجارية البينية في إطار الحاجة والضرورة التي من الممكن أن تشكل تعاوناً أكبر في المستقبل خاصة في حال استمرت الأزمة لوقت أطول، ونلاحظ أنه بالفعل هناك مؤشرات على مثل هذا التعاون، حيث تم عقد اجتماع بين وزراء المالية الخليجين بما فيهم وزير مالية قطر في الثالث والعشرين من آذار الجاري وتم التوافق على تسهيل حركة البضائع والسلع بين دول مجلس التعاون الخليج. كما نلاحظ تفعيل غرفة العمليات الصحية بين دول المجلس والتي تضم وزراء الصحة وتعطي توصيات للتعامل مع الوضع.
- تعليق العلاقات بشكل مؤقت مع العودة للتعاون بشكل أكبر من السابق لاحقاً: ستفرض الأزمة أثقالها على مختلف الدول بما فيها دول الخليج وفي ظل عدم قدرة هذه الدول على خلق تعاون جدي وتكاتف حقيقي لمواجهة مخاطر مشتركة فإنه و فور انجلاء الأزمة ستبدأ الدول الخليجية كل منها على حدا بالبحث عن فرص في إطار استعادة الخسائر والاحتياط للمستقبل والاستفادة من دروس الماضي، حيث من المتوقع في هذا السيناريو أن تتجه بعض الدول نحو إيران كجزء من استمرار العلاقة الاقتصادية الراهنة مع تطويرها في أول فرصة ممكنة وذلك لتخفيف الخسائر التي منيت بهذا هذه الدول في وقت الأزمة ورغبة منها في الاستفادة من الجوار الجغرافي وتقليل تكاليف النقل وسيزيد من فرص هذا السيناريو خروج إيران من الوضع الراهن بأقل أضرار ممكنة وقدرتها على استثمار الأزمة لخلق تعاطف إنساني معها.
خاتمة
لقد وصلت العلاقات الخليجية البينية إلى مرحلة متقدمة على سلم التكامل الاقتصادي, وبحسب نظرية التكامل فقد قطعت أشواطاً كبيرة وصلت لدرجة نقاش عملة مشتركة في محاولة لمحاكاة التجربة الأوروبية التي استمرت عدة عقود للتطور على شكل اتحاد أوروبي, ثم ما لبثت أن انهارت هذه العلاقات نتيجة خلافات بينية.
تشكل الأزمات فرصاً للتقارب في حال شكلت تهديداً موحداً لمجموعة دول متقاربة وبينها علاقات سابقة، وقد تشكل كذلك فرصاً للخلاف والتنافر بسبب الظروف والعقبات والتنافس الذي ينشأ خلال التعامل مع هذه الأزمات.
في حالة الخليج يوجد خلافات على عدة قضايا وملفات، وأحدها قضية العلاقة مع إيران والتعاون معها، ويحاول هذا البحث تقييم العوامل المشتركة و نقاط الخلاف بين دول الخليج باعتبارها طرفاً تجمعه نقاط تلاقي كثيرة وبين إيران التي تسعى لكسر عزلتها عن طريق تحقيق مزيد من التعاون في محيطها الإقليمي ولكنها في نفس الوقت لديها خلافات جوهرية مع معظم دول الخليج.
تمثل جائحة كورونا فرصة للتقارب الاقتصادي في إطار مجلس التعاون الخليجي, تقارب يتأثر بمعطى آخر بل ويتنافر معه بشكل واضح، وهو معطى العلاقة مع إيران.