مايو 2, 2024

توني بلير: التصدي للتهديد الإسلامي

هذا المقال منقول من موقع: project syndicate

توني بلير

تُـعَـد طالبان جزءا من حركة الإسلام الراديكالي العالمية. تضم الحركة العديد من المجموعات المختلفة، لكنها تشترك في ذات الإيديولوجية الأساسية. بعبارة بسيطة، بموجب هذه الإيديولوجية، لا وجود سوى لعقيدة إيمانية حقيقية واحدة ورؤية واحدة صحيحة لهذه العقيدة، ويجب أن يكون كل شيء ــ المجتمع والسياسة والثقافة ــ محكوما بهذا الرأي فقط. لا يكتفي الإسلام الراديكالي بالإيمان بالنزعة الإسلاموية ــ تحويل الدين الإسلامي إلى عقيدة سياسية ــ بل يبرر أيضا الصراع، بالوسائل المسلحة إذا لزم الأمر، لتحقيق هذه الغاية. يتفق إسلاميون آخرون مع الغايات لكنهم ينبذون العنف.

تتعارض هذه الإيديولوجية حتما مع المجتمعات المفتوحة الحديثة والمتسامحة ثقافيا. الواقع أن كل ما يحيط بهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية والعواقب التي ترتبت عليها، وخاصة الآن، غارق في الجدال والخلاف. لكن ما لا يقبل أي جدال جاد هو أن قوة الإسلام الراديكالي لم تنحسر منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، على الرغم من عدم وقوع أي هجوم إرهابي آخر بهذا الحجم، لحسن الحظ. الأمر المتنازع عليه حقا هو لماذا. 

هل الإسلام الراديكالي إيديولوجية متماسكة تمثل تهديدا من الدرجة الأولى لأمننا؟ أو أننا نواجه، على الرغم من بعض الموضوعات المشتركة، سلسلة من التحديات الأمنية المنفصلة، التي يستلزم الأمر التعامل مع كل منها وفقا لشروطه الخاصة، استنادا إلى الظروف المحلية؟ هل الإسلاموية في حد ذاتها مشكلة، أو تتمثل المشكلة في تجلياتها في التطرف العنيف؟ هل تشبه الشيوعية الثورية وبالتالي يمكن مواجهتها من خلال مجموعة من التدابير الأمنية والإيديولوجية في الأمد البعيد؟ أو أن المبالغة والمغالاة في تقدير الإسلاموية ترفع جاذبيتها ولا تقللها، كما يزعم بعض المراقبين حول التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق؟ 

هذا سؤال استراتيجي جوهري ويحتاج إلى إجابة واضحة. 

أرى أن الإسلام السياسي، بإيديولوجيته وعنفه، يفرض تهديدا أمنيا من الدرجة الأولى. وإذا تُـرِكَ دون رادع فسوف يأتي إلينا، حتى لو تمركز بعيدا عنا، كما أثبتت أحداث الحادي عشر من سبتمبر. 

يُـظـهِـر تحليل أجرته مؤخرا إيمان البدوي من مؤسستي كيف تمتد جذور الإسلاموية إلى الوراء على مدى عقود عديدة وكيف تنامت قوتها قبل فترة طويلة من الحادي عشر من سبتمبر، ويفحص الروابط بين الإيديولوجية والعنف. يُـستَـكـمَل هذا العمل بتحليل ممتاز أجراه أحمد كورو لمفهوم دولة العلماء وتقريرنا السنوي عن الجماعات الجهادية، والذي يوضح أن هذا يشكل تحديا عالميا يزداد سوءا.

الواقع أن هذه الإيديولوجية ــ سواء كانت شيعية تعلنها صراحة جمهورية إيران الإسلامية، أو سنية تروج لها جماعات على الطيف من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم القاعدة، أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو بوكو حرام، وجماعات أخرى عديدة ــ كانت السبب الرئيسي وراء زعزعة الاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. واليوم تشكل بؤرة أساسية لعدم الاستقرار في أفريقيا. 

مثلها كمثل الشيوعية الثورية، تعمل الإسلاموية في العديد من المجالات والأبعاد. وسوف تأتي هزيمتها في نهاية المطاف أيضا من خلال مواجهة العنف والإيديولوجية بمزيج من القوة الصارمة والقوة الناعمة. لكن إذا كان هذا التحليل صحيحا، فيتعين على القوى الرئيسية، وخاصة بعد سقوط أفغانستان، أن تتحد لتطوير استراتيجية متفق عليها. وحتى لو كانت المناقشات الأولية حول إقامة مركز موحد تتجمع حوله الدول الغربية، فإن الصين وروسيا أيضا لهما مصالح أمنية عميقة في مكافحة هذه الإيديولوجية. وأفضل حلفاء للغرب في صياغة استراتيجية ناجحة يمكن العثور عليها بين العديد من دول العالم ذات الأغلبية المسلمة، بما في ذلك تلك في الشرق الأوسط، والتي تسعى شعوبها جاهدة لاستعادة دينهم من التطرف. 

نحتاج أيضا إلى تقييم نقاط ضعفها بدقة. لقد تعلمنا جميعا من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الكثير عن مسببات الأمراض القاتلة. قد تبدو احتمالات الإرهاب البيولوجي أشبه بأفلام الخيال العلمي، ولكن من الحكمة الآن أن نستعد لاحتمال استخدامها من قِـبَـل جهات غير تابعة لدولة بعينها. 

إذا رفضنا هذا التحليل، فإن البديل في الواقع العملي يتمثل في الزعم بأن الإسلاموية مشكلة من الدرجة الثانية. عندما نتعرض لتهديد مباشر، فإننا نسارع إلى الرد من خلال تدابير مكافحة الإرهاب، التي تشمل شن غارات باستخدام طائرات بدون طيار، والمراقبة، والقوات الخاصة. وإلا فإننا نترك الأمور وشأنها. ولكن إذا كان هذا هو ما تقودنا إليه السياسة، فمن المؤكد أنها محدودة للغاية في فهمها للمشكلة. 

يتعين علينا أن نحدد ماذا نعني بالامتناع عن “إعادة تشكيل” الدول التي قد تنشأ منها التهديدات الإرهابية. أفهم أن ذلك يعني أن نتوقف عن محاولة ما جربناه في أفغانستان. ولكن ينبغي لنا أن نفهم شيئا واحدا: لم تفشل محاولات “إعادة تشكيل” أفغانستان لأن الشعب الأفغاني لم يكن راغبا في “إعادة تشكيل” بلاده. من المؤكد أننا كان بوسعنا “إعادة التشكيل” على نحو أفضل، لكن الأفغان لم يختاروا عودة طالبان إلى الاستيلاء على السلطة. لقد أعادت حركة طالبان احتلال البلاد بالعنف، وليس الإقناع. 

إن العائق الرئيسي الذي يحول دون “بناء الدولة” لا يكون عادة شعب البلد ذاته، بل ضعف قدرة المؤسسات والحوكمة، بما في ذلك الفساد، على مدار سنوات عديدة. وفوق كل هذا، هناك التحدي المتمثل في محاولة البناء بينما تسعى عناصر داخلية تحظى بدعم خارجي إلى التدمير. 

لكن تدابير مكافحة الإرهاب وحدها لن تزيل تهديدا راسخ الجذور. بدلا من ذلك، بوسعنا أن نبحث عن مسار وسط. على سبيل المثال، في منطقة الساحل، يمكننا اعتماد استراتيجية لمساعدة البلدان في توفير الأمن ولكن أيضا دعم جهود التنمية التي تبذلها الحكومات، لأن الفقر والتخلف يسهلان التطرف دون أدنى شك. بطريقة ما، هذا هو ما فعلناه في أفغانستان بعد عام 2014، عندما أصبحت مهمة حلف شمال الأطلسي مقتصرة على “التدريب، والمشورة، والمساعدة”. 

حتى هذا سيشمل أكثر من مجرد مكافحة الإرهاب بالسبل التقليدية. سوف نحتاج إلى بعض “الجنود على الأرض”. بطبيعة الحال، يجب أن يكون تفضيلنا للجنود المحليين. لكن هذا لن يكون في حكم الممكن دائما. 

مع ذلك، أصبحت المجتمعات الغربية على نحو مفهوم كارهة بشدة لوقوع خسائر في صفوق قواتها المسلحة. هذه ليست مشكلة تخص القوات المسلحة الغربية ذاتها، والتي تتألف من أناس شجعان وغير عاديين. لكنها أصبحت الآن تشكل قيدا سياسيا ساحقا على أي تعهد بإرسال جنود غربيين على الأرض، باستثناء القوات الخاصة. المشكلة التي يثيرها هذا الأمر واضحة: فإذا كان العدو الذي نقاتله يعلم أن إرادتنا السياسية للقتال ستتآكل كلما أوقع المزيد من الضحايا، يصبح هيكل الحوافز واضحا. 

ينطوي الأمر أيضا على تحد إضافي يواجه أوروبا وحلف شمال الأطلسي. من الواضح الآن ــ إن لم يكن من قبل ــ أن أميركا قررت أن شهيتها للمشاركة العسكرية في المستقبل المنظور باتت محدودة. بعد تدخل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو عام 1999، بدأت شخصيا الدفاع الأوروبي مع فرنسا. فعلت ذلك على وجه التحديد لأنني أدركت أننا لم يكن بوسعنا على الإطلاق أن نحل الأزمة في غياب الولايات المتحدة والالتزام من جانب الرئيس بِـل كلينتون. اليوم، تستطيع دول البلقان أن تتطلع إلى مستقبل سلمي نأمل أن يكون داخل أوروبا. مع ذلك، كانت الأزمة على أعتاب أوروبا، وليس أميركا. 

تواجه أوروبا الآن تحديا فوريا ناجما عن تزعزع الاستقرار في منطقة الساحل، وهي تواجه بالفعل التداعيات المترتبة على الفوضى في ليبيا، والحرب الأهلية في سوريا، وغير ذلك من التوترات في الشرق الأوسط. لهذه الأغراض، تشكل بريطانيا جزءا من أوروبا، سواء شاءت أو أبت، ويتعين عليها أن تعمل مع أوروبا لإيجاد حلول أمنية. 

لكن كيف تعمل أوروبا وحلف شمال الأطلسي على تطوير القدرة على التصرف عندما تُــحـجِـم أميركا عن ذلك؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة من الممكن أن تساعد في تنشيط قدرة صناع السياسة الغربيين على التفكير استراتيجيا. كان واحد من التطورات الأكثر إثارة للانزعاج في الآونة الأخيرة متمثلا في الشعور بأن الغرب يفتقر إلى القدرة على صياغة استراتيجية، وأن ضروراته السياسية في الأمد القريب تسببت في تقليص الحيز المتاح للـتفكير في الأمد البعيد. هذا الشعور، أكثر من أي شيء آخر، هو الذي يثير قلق حلفائنا ويجعل خصومنا يعتقدون أن وقتنا انتهى. 

أخيرا، كان من بين أكثر ما سمعته إحباطا، والذي يُـعَـبَّـر عنه بانتظام في الأسابيع الأخيرة، متمثلا في فكرة مفادها أننا حمقى عندما نتصور أن المفاهيم الغربية في الديمقراطية الليبرالية والحرية قابلة للتصدير، أو أنها لن تمد جذورها في الأرض أبدا إلا في تضاريس المجتمع الغربي. 

ربما كان جيلي من القادة ساذجا حين تصور إمكانية “إعادة صنع أو تشكيل” الدول. أو ربما كان من الواجب أن تستمر عملية “إعادة التشكيل” لفترة أطول. ولكن بينما نرى العديد من النساء الأفغانيات يحاولن الفرار خوفا على حياتهن، لا ينبغي لنا أن ننسى أبدا أن قيمنا هي تلك التي يختارها أشخاص أحرار. واستعادة الثقة في هذه القيم، وفي إمكانية تطبيقها بشكل شامل، جزء ضروري لضمان حرصنا الدائم على دعمها واستعدادنا للدفاع عنها.

ضع تعليقاَ