أبريل 27, 2024

“أزمة العملاء”.. أزمة مركّبة تعيشها هيئة تحرير الشام

تشهد مناطق شمال وشمال غربي سورية، منذ فبراير/شباط 2024، احتجاجات مستمرة ضد “هيئة تحرير الشام”، وقائدها أبو محمد الجولاني، على إثر ما بات يعرف بـ “أزمة العملاء” أو “عملاء التحالف”

في مشهد نادر، تشهد مناطق شمال غربي سورية، منذ فبراير/شباط 2024، احتجاجات مستمرة ضد “هيئة تحرير الشام”، وقائدها أبو محمد الجولاني، بما وصف بأوسع احتجاجات ضد “هيئة تحرير الشام” في منطقة إدلب وريف حلب، على إثر ما بات يعرف بقضية “عملاء التحالف” التي تسبّبت بأزمة داخلية وشعبية، تصاعدت حتى وصلت حدّ تهديد تماسك الهيئة واستمرار سيطرتها.

بدأت قضية “عملاء التحالف” -التي تحولت فيما بعد إلى أزمة داخلية وشعبية-، في منتصف 2023 عندما أقدمت الجهات الأمنية في هيئة تحرير الشام على اعتقال المئات من عناصر وقيادات هيئة تحرير الشام جلّهم من الجناح العسكري، بالإضافة إلى بعض المدنيين والعسكريين من جهات أخرى ووجهت إليهم تهمة العمالة أو التخابر مع “التحالف الدولي” أو مع نظام الأسد أو مع روسيا، واستمرت عمليات التحقيق والاعتقالات لشهور، وشملت قادة بارزين مثل الأمني العام لمنطقة إدلب الملقب بـ “أبو محجن الحسكاوي”، وأحد مؤسسي هيئة تحرير الشام وأبرز قياداتها الملقب بـ “أبو ماريا القحطاني”، -اللذين تم الإفراج عنهما بعد شهور من اعتقالهما كل على حدة، وسط أجواء احتفالية من قبل أتباعهم-.

بعد أشهر قليلة وبينما كانت التحقيقات والاعتقالات مستمرة، تم الإفراج عن عدد من المعتقلين ممن لم تثبت عليهم تهمة التخابر، وبمجرد الإفراج عنهم اشتكى هؤلاء من واقع التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون ما أشعر قادة الجناح العسكري بالخطر وأدى إلى تنامي مشاعر الغضب في أوساط الهيئة، وبدأت تتعالى أصوات بعض القيادات للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين العسكريين من سجون الأمن العام.

أسفرت هذه الضغوط في تحقيق عدة نتائج تم تنفيذها على شكل خطوات متدرجة أبرزها:

  • الإفراج عن معظم المعتقلين على دفعات، ممن تعرضوا للتعذيب ولم تثبت عليهم التهمة، وإغلاق قضية “عملاء التحالف” رسمياً في 26 كانون الثاني/يناير 2024
  • اعتقال الأمنيين المسؤولين عن التحقيق في قضية “عملاء التحالف”.
  • تشكيل لجنة قضائية لمتابعة تبعات القضية وتقدير حالة المتضررين وتعويضهم ومحاسبة مرتكبي التعديات والانتهاكات

وقد أكد على تنفيذ هذه الخطوات -إلى جانب خطوات أخرى- الشرعي العام في هيئة تحرير الشام “عبد الرحيم عطون”، عبر قناته في تطبيق “تلغرام”، في 1 مارس/آذار 2024.

ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فالصراع الداخلي بين أجنحة هيئة تحرير الشام والاتهامات والشهادات التي بدأ نشطاء وشخصيات كانت مقربة أو محسوبة على الهيئة بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي والخلافات التي طفت إلى العلن وقصص التعذيب والانتهاكات في معتقلات الهيئة، كل هذا تسبب في خروج مظاهرات شعبية بدأت في فبراير/شباط 2024 وتوسعت بشكل مضطرد إلى عشرات النقاط في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام وباقي مناطق سيطرة المعارضة، تضمنت أحياناً كلمات لوجهاء من أبناء المناطق التي تخرج فيها هذه المظاهرات أو شخصيات محسوبة أو كانت عاملة ضمن صفوف الهيئة، أما شعاراتها فتنادي بشكل رئيسي بالإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المتورطين من مرتكبي الانتهاكات والتعدي على الآخرين، وإصلاح منظومة الحكم، بحسب عشرات المقاطع التي تبثها معرفات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المحلية من هذه المظاهرات.

خليط من الأهداف و المحتجين

تتنوع مشارب وتوجهات المحتجين وتتباين أهدافهم بين من يركز على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإنهاء وجود الهيئة، ومن يطالب بتنحي الجولاني عن قيادة الهيئة وحلّ جهاز الأمن العام، ومن يكتفي بالمطالبة بإصلاحات في إدارة وتسيير شؤون المنطقة، ومن يتحدث عن دعاوى ومظالم شخصية ويدعو لرد الحقوق،

هذا التنوع أو التباين في سقف الخطاب والأهداف التي يرفعها المحتجون ما هو إلا انعكاس لتباين وتنوع الفئات المنخرطة في الاحتجاجات والتي تتضمن بشكل أساسي ثلاث فئات: 

  • الشباب الناشطون في الهيئات والمبادرات المدنية والإعلامية، والذين يشكون من تقييد الحريات و تغول المنطق الأمني والعسكري، ويمثلون الحراك المدني. 
  • أحزاب وجماعات تنشط في المنطقة ولديها رؤى وتوجهات منافسة لهيئة تحرير الشام، في مقدمتها حزب التحرير الذي يُظهر فاعلية واضحة في تنظيم المظاهرات والدعوة إليها،
  • العنصر الأهم والأكثر تنظيماً ربما، هو المحتجون الفصائليون وهم خليط من مجموعات وعناصر فصائلية منشقة أو في حالة خلاف مع الهيئة، و ينشطون في مناطق محددة ينتمون إليها، ويتظاهرون ضد الجولاني وهيئة تحرير الشام إلى جانب النشطاء المحليين.

مثلت المظاهرات نقطة تحول الأزمة من داخلية إلى عامة، إلا أنها لم تتحوّل إلى حالة شعبيّة واسعة، فبالرغم من أن مشاركة العناصر والمجموعات الفصائلية في الاحتجاجات كان لها أثرها في توسيع دائرة الاحتجاجات، ولكنها في نفس الوقت قد تكون أثارت المخاوف في الأوساط الشعبية بسبب الانطباع السلبي عن الحالة الفصائلية وخوف الحاضنة المجتمعية من أن يتم توظيفها في تصفية حسابات السلطة والنفوذ الفصائلية.

الأكثر خطورة

منذ تأسيس هيئة تحرير الشام في 2017، مرت الهيئة بالعديد من المحطات والأزمات وعانت من انسحاب أو انقلاب أطراف مهمة منها، في نهج أقرب ما يكون لعمليات تصفية مستمرة للصفوف في داخل الهيئة، ولكن هذه الهزات لم ترقَ إلى مستوى الأزمة الحالية التي تعتبر الأخطر كونها: 

  • فتحت المجال أمام التشكيك بشخص الجولاني وقيادته للهيئة واعتبرته جزءاً من المشكلة وليس الحل، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر، تلمس حالة التشكيك هذه في تغريدات عضو مكتب العلاقات العامة في هيئة تحرير الشام والمتحدث الإعلامي السابق باسمها، علي صابر (محمد العلي) الذي استقال من منصبه ونشر على المعرفات الخاصة به منشورات دعا فيها الجولاني إلى ترك دفة القيادة.
  • تسببت بهز ثقة عناصر الهيئة والمجتمع المحلي بشكل عام، بقيادة الهيئة ومفصلها الأمني، وقد برز هذا في الكلمات الملقاة في المظاهرات واللافتات المرفوعة فيها، والتي دعت لتنحية هيئة تحرير الشام والجولاني عن إدراة المحرر 
  • سلطت الضوء على حالات الاعتقال السياسي في المنطقة.
  • أنتجت حالة من الاستقطاب الحاد داخل الهيئة بين قيادة المفصل الأمني وقيادة المفصل العسكري.
  • انتقلت من الإطار الداخلي للهيئة إلى مظاهرات شعبية، واسعة نسبياً من حيث العدد أو نقاط التظاهر.

تعددت الأسباب…

تُرجع العديد من المصادر السبب الرئيسي في تصاعد أزمة “عملاء التحالف”، وتحولها إلى مظاهرات شعبية إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي في المنطقة، باعتباره عامل أساسي في تصاعد حدة الاستياء الشعبي، والانطباع لدى شريحة معينة بأن إدارة المنطقة من قبل هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب من ناحية، وإدارة الملف الاقتصادي باحتكار الموارد الاقتصادية لأشخاص محددين من ناحية أخرى، كل هذا يساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية.

بينما تعتبر مصادر أخرى أنّ السبب الفعلي للتوترات، هو محاولات هيئة تحرير الشام للتمدد وضم مناطق ومرافق حيوية إلى سيطرتها، هي في الأصل ضمن سيطرة الجيش الوطني والحكومة السورية المؤقتة، إذ شنت الهيئة خلال عامي 2022 و 2023 أربع حملات عسكرية، بهدف تعزيز نفوذها في مناطق المعارضة، و سيطرت خلالها على معبر “الحمران” الحيوي، الذي يربط مناطق المعارضة بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتوترت خلال ذلك علاقتها بتركيا، وبفصائل الجيش الوطني، والمجتمع المحلي في مناطق الاشتباك.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن الإشارة إلى جملة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تتداخل مع بعضها البعض وتقبع خلف تعقد “أزمة العمالة” وتوسعها إلى دائرة الحراك الشعبي، أبرزها:

  • تصاعد دور ونفوذ الجهاز الأمني وإقدامه على اعتقال وتعذيب قيادات عسكرية وميدانية ذات ثقل تنظيمي أو اجتماعي من داخل هيئة تحرير الشام وخارجها، وهو ما أقر به الجولاني في كلمته التي ألقاها في 1 فبراير/شباط 2024 وحاول فيها شرح تطورات الأزمة من وجهة نظره.
  • تجاوزات وانتهاكات عناصر وأجهزة الهيئة الأمنية والعسكرية بحق المدنيين أو التيارات والفصائل الأخرى، وهؤلاء عبروا عن مطالبهم في المظاهرات.
  • خلافات مستمرة نابعة من مواجهات داخلية بين قيادات وتيارات ومجموعات سابقة وحالية في الهيئة، للتنافس على السلطة أو الموارد أو التوجهات، انتهت في الغالب إلى انسحاب أطراف ومجموعات معينة من الهيئة وتحولها إلى خندق المعارضين لها، مثل ما حدث مع أحد أبرز قيادات هيئة تحرير الشام جهاد عيسى الشيخ (أبو احد زكور)، الذي انشق عنها في ديسمبر 2023، في بيان رسمي هاجم فيه هيئة تحرير الشام وأنها باتت تسعى للسيطرة والهيمنة وقضم الفصائل وتفكيكها.
  • المظالم والدعاوى المتراكمة عبر سنوات من سيطرة هيئة تحرير الشام، والتي وجدت في هذه الأزمة الفرصة للتعبير عن نفسها والمطالبة بالمحاسبة ورد الحقوق.
  • الرغبة في التحول من هيمنة الحالة الفصائلية والعسكرية، إلى إدارة مدنية لا تتبع للحالة الفصائلية، وهذا تكرر بشكل مستمر في الدعوات والمظاهرات التي نشطت على هامش أزمة “عملاء التحالف”، ونصت عليه مبادرات وبيانات الجهات التي تفاعلت مع المظاهرات في إدلب كان من أبرزها بيان المجلس الإسلامي السوري الذي دعا إلى اختيار قيادة كفؤة منبثقةٍ عن الإرادة الحرّة للشعب،

تداعيات الأزمة ومحاولات احتوائها

ساهمت هذه الأزمة في تسليط الضوء على العديد من الملفات والقضايا الحساسة في المنطقة التي يحكمها الجولاني عبر هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، وفي مقدمتها الملف الأمني والاقتصادي، كما أعطت الفرصة لمعارضي الهيئة للضغط عليها لإدخال تعديلات في نهجها الأمني أو الإداري، و أفسحت المجال لجهات وفصائل أخرى للتعبير عن رغبتها في المشاركة في القرار العسكري والحوكمة بالمنطقة.

وبالرغم من تصاعد وتيرة الاحتجاجات والخطاب التجريمي الذي ساد المظاهرات والشعارات المرفوعة فيها، إلا أن هيئة تحرير الشام حرصت على عدم الاصطدام مع المحتجين وتجنبت بشكل واضح استخدام القوة المفرطة، وأظهرت قيادتها توجهاً صريحاً لاحتواء الأزمة ومحاولة التجاوب مع مطالب المحتجين على الصعيد الداخلي أو الصعيد الشعبي العام، وبدا هذا واضحاً في كلمة قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني التي قدم فيها تصوره عن الأزمة وتطوراتها في 1 فبراير/شباط 2024.

لقد نجحت -حتى الآن- جهود الاحتواء التي بذلتها الهيئة في تحجيم الضرر الذي كان من الممكن أن يلحق بها، وما زالت تسعى لامتصاص غضب الشارع باتباع إجراءات حذرة تتضمن إدخال تعديلات هيكلية في حكومة الإنقاذ وجهاز الأمن والانفتاح أكثر على النشطاء والفاعلين والوجهاء المحليين، وتقديم الوعود بالإصلاح والمحاسبة، مع التحذير من تجاوز الخطوط الحمراء.

في هذه الأثناء تواصل كرة الاحتجاجات التدحرج، ولا زالت احتمالات التصعيد واردة، خصوصاً وأن الخطوات الفعلية التي قدمتها هيئة تحرير الشام على الصعيد الداخلي (الأمني والعسكري) أو على الصعيد الحوكمي والاقتصادي، تعتبر محدودة بالمقارنة مع سقف مطالب الاحتجاجات التي تبدو أعلى من قدرة أو استعداد الهيئة.

هذا التقرير منشور أيضاً على موقع الجزيرة نت

ضع تعليقاَ