مايو 15, 2024

توني بادرن: التراجع الأمريكي والتوسع الإيراني في الشرق الأوسط

لم تتوانى إدارة الرئيس الأمريكي  باراك أوباما في إظهار أن البديل عن الاتفاق النووي مع إيران كان الحرب معها، وهو الاحتمال الذي صار فعلاً بعيداً الآن. سكان الشرق الأوسط من اعداء إيران كانوا حظهم  سيءً بنجاح هذا الاتفاق، فالآن عليهم خوض حربهم لوحدهم مع إيران.

ولكشف موقف أمريكا من مسألة الحروب التي تأججها إيران في الشرق الأوسط، فالواقع يشير إلى انهيار سقف التوقعات من أمريكا  في ظل انعدام جمال الدبلوماسيات أو المواقف الدخانية التي عفا عليها الزمن. ولكن بكل تأكيد سيكون من الخطأ أن تتحول التصريحات الأمريكية تجاه حلفائها القدامى مثل السعودية وتركيا وإسرائيل الشكل الأسمي فقط. والواقع يقول أن أول شيء فعلته امريكا إبان الاعتداء على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران كان إطلاق حملة إعلامية فورية بهدف إلقاء اللوم على السعودية في الحادثة تلك، وتبرئة إيران منها، هو يوافق ما أشار له مسؤول في البيت الأبيض، رفض الكشف عن اسمه، ان الولايات المتحدة في طريقها لإعادة النظر بتحالفاتها القديمة في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم.

ولم يتوانى أوباما في إظهار كراهيته للسياسة الأمريكية السابقة في الشرق الأوسط، حيث قال أوباما في إحدى تجمعات الحزب الديمقراطي عام 2014 :” النظام القديم الذي عمل به في الشرق الأوسط خلال ال 50 أو 60 عاماً الماضية كان غير قابل للاحتمال، ولا بد من تغييره يوماً ما”. وأشار أيضاً إلى أن النظام الجديد في التعامل والسياسة الأمريكية بالشرق الأوسط لم يولد بعد.

وفي وقت سابق من العام نفسه، كان أوباما واضحاً في نيته بإعادة ترتيب تحالفات الولايات المتحدة القديمة حول العالم، وقال حينها:” اعتقد أن التغيير دائماً يكون مخيفاً، وبلا شك كان هناك راحة لاتباع نفس النظام في التحالفات والعداوة من قبل أمريكا، وهو ما سينطبق على إيران “العدو التقليدي لواشنطن” وشركائها في المنطقة كذلك”. وأوضح أوباما أيضاً أن على الأمريكيين إمتلاك القدرة للتكيف مع هذا التغيير.

وينطلق أساس الإطار الامني الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط من الاعتراف بما أشار إليه “أوباما” بالإسهامات الإقليمية الإيرانية، وهو ما يعني إضفاء شرعية على مجالات التأثير الإيرانية في المنطقة، وخاصة سوريا والعراق. وبالنسبة لأوباما، فإن هذا الإقرار يرفع من إيران إلى منزلة “الركيزة الإقليمية” لأمريكا على عدة مستويات، خاصة مع عزوف أوباما عن إقرار أي تدخل عسكري هناك. وهو ما يرفع مكانة ايران الاقليمية وفق ما يقدم أوباما إلى مسؤولية إنشاء هيكل أمني بديل، يحل محل القوة العسكرية الأمريكية لحفظ مصالحها، وهو ما يسعى إليه أوباما.

وأشار أوباما مراراً إلى أن الهدف الأساسي من إنشاء هذا الهيكل الجديد يتمثل في تأسيس “التوازن” بين الشيعة – الممثلين بإيران- و السنة الممثلين بالمقام الأول في السعودية. ولكن هذا لا يحمل أي معنى فعال وحقيقي في الواقع. فإدارة أوباما، كانت تبحث دوماً عن التعاون الإيراني حول القضايا الإقليمية الرئيسية وذلك بهدف تقليص التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة. ومع ذلك، فإن أوباما بحاجة إلى آلية حقيقية تتيح له تحقيق نجاحات مثمثلة في الحد من التوتر مع إيران وفتح أبواب التعاون في المجالات المختلفة معها، وهو باختصار الغرض من الخطة الشاملة المشتركة للعمل.

ويعد إنجاز الاتفاق النووي والتساهل الأمريكي فيه أهم عامل في توثيق التعاون في الشؤون الإقليمة مع إيران، ففق مقابلة أغسطس خلال العام الماضي، أكد جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، احتمال التعاون الإقليمي مع إيران على وجه التحديد، وقال:” إذا استطعنا اتمام هذا االاتفاق، فسنكون مستعدين للجلوس والتحدث حول القضايا الإقليمية المختلفة مع إيران، وسنكون بهذا قادرين على العمل على عدة أصعدة”.

وفي الوقت الذي يأمل فيه أوباما في التقارب مع إيران، تستغل إيران ذلك للاستفادة وتعزيز مصالحها الإقليمية. وهو ما يعني تضرر التحالف الإقليمي الأمريكي القديم، بل إن إيران تمثل النفس الثائر في المنطقة التي تهدف إلى إسقاط النظام الحالي واستبداله بآخر يحظى بهيمنة إيرانية.

وكعادتهم، استغل الإيرانيون مؤخراً استيلائهم على الزوارق الحربية الأمريكية وطواقمها في يوم خطاب الاتحاد للتأكيد على هذه النقطة،  إلى كل من الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في الإقليم. ولم تتوانى صحيفة إيرانية كصحيفة كيهان، في القول :” إذلال لعراب إمارات الخليج” في إشارة منها إلى قدرة ايران على تحريك قوتها ضد أمريكا وإفلاتها من العقاب، وهو ما يمثل إشارة قوية للولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في المنطقة.

الإفلات الإيراني من العقاب الأمريكي لم يأت لأن إيران قوية في مواجهة أمريكا، بل لأن إيران تفهم أن أوباما يريد انسحاباً امريكياً من المنطقة، وأمريكا لا تملك اي مصلحة في الحفاظ على النظام القديم وبالتالي فهي على استعداد للاعتراف بموقف إيران على رأس الإقليم.

ووفق هذه الاستراتيجية تصرفت أمريكا وكأنها محامي لإيران، فمراراً أعفتها من تبعات تصرفاتها و أضفت الشرعية على طموحاتها، وشنت هجوماً عنيفاً على من كانوا في يوم حلفاءً تقليديين لأمريكا في المنطقة.

هذه الديناميكية الجديدة التي أوجدتها الإدارة الأمريكية للتعامل مع إيران دونت بالكامل في الاتفاق النووي، والذي اعطى لإيران نفوذاً كبيراً في تحديد شروط علاقتها بأمريكا. وبقدر ما سعى اوباما لوضع أثره وبصمته من خلال هذا الاتفاق النووي، تعمل الولايات المتحدة كمسوق لسياسة ايران في المنطقة خوفاً من انهيار الاتفاق في أي لحظة.

إذاً، فالسياسة الأمريكية الحالية قائمة على الحفاظ على الاتفاق مع إيران وكسب تعاونها في المنطقة، وهو ما يتطلب من الولايات المتحدة تخفيف سقف تعاملها وتعاونها مع أعداء إيران التقليديين في المنطقة كإسرائيل والسعودية وتركيا،خاصة وأنهم في صراع مباشر مع إيران في جميع أنحاء المنطقة سواءً في العراق أو سوريا أو اليمن أو حتى لبنان.

ولكون الأمريكيين لا يجدون شيءً جاذباً لهم في تغيير السياسة الامريكية في المنطقة وتحول طرق التعامل مع إيران، استخدم أوباما غطاءً سياسياً لهذه العملية متمثلاً في محاربة داعش والتطرف. والفكرة الأساسية القائمة هنا هو أن حلفاء الولايات المتحدة عليهم أن يضعوا قلقهم من التوسع الإيراني جانباً ويتعاونوا معها في محاربة داعش والتطرف السني، الخطر الحقيقي في المنطقة وفق الإدارة الأمريكية.

وهو ما أكده أوباما في خطاباته حين قال:” الممكن أمامنا الآن أن نبدأ في تحقيق التوازن في المنطقة، بين اسنة والشيعة والسعودية وإيران، لنقنعهم بخفض التوترات البينية والتركيز على محاربة المتطرفين مثل داعش، التي ان توسعت فستشكل محرقة للمنطقة بأكملها”.  وكما كان متوقعاً، فهم الإيرانيون الآثار المترتبة على تصريح واستراتيجية اوباما وانضمت تحت لواء “محاربة التطرف والارهاب” وهو ما لن ينجح دون جهد إيران فيه وفق الإدارة الأمريكية.

ولكن الغطاء لحملة مكافحة داعش وفوائده تجاوز مجرد الدعاية الحقيقية لإيران في العراق وسوريا ولبنان. ففي العراق مثلاً، تدعم الولايات المتحدة الحكومة المركزية التي توغلت فيها إيران بعمق لمختلف دوائرها. وبالإضافة إلى ذلك تتعاون أمريكا مع الميليشيات الشيعية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني. وتساهم أمريكا في متابعة الميليشات الموجودة في لبنان كذلك، وإن كان على نطاق أصغر بكثير مما عليه الحال في العراق. حيث تقدم الولايات المتحدة الدعم للجيش اللبناني، الذي يتعاون بشكل كبير في مساندة حزب الله، والتعاون كانت الحجة الأساسية التي استخدمها الجيش اللبناني لتمرير معلومات أمريكية عن داعش لحزب الله بغرض محاربة التطرف والقضاء على داعش.

وفي سوريا، استخدم البيت الأبيض شعار مكافحة داعش لفرض تحويل في الأولويات تماشياً مع أهداف وتفضيلات إيران هناك. وبعد التراجع الأمريكي  عن موقفها بوجوب رحيل بشار الأسد، تعمل الإدارة الأمريكية الآن على إجبار حلفائها التقليدين وقوات المعارضة التي تدعمها في سوريا على الاستسلام بشكل فعال واعتماداً على جدول أعمالها المتمثل بوقف جميع العمليات ضد الأسد ونظامه والتركيز بدلاً من ذلك على قتال داعش . وهنا تحت نفس الذريعة بمكافحة الإرهاب، ضغط أمريكا على تركيا لإغلاق حدودها بما في ذلك القطاع الشمالي من حلب الذي كان يوفر مكان دعم لوجستي لقوات المعارضة السورية التي تحارب قوات الأسد وداعش والميليشيات الإيرانية. وفي الوقت نفسه، فإن أمريكا تستمر في دعمها المتميز لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل ضد تركيا.

وثبت أيضاً أن شعار “مكافحة داعش” مفيد للشريك الروسي أيضاً، حيث سخرت روسيا من الجميع مستخدمة هذا الشعار لتغطية استهدافها لقوات المعارضة والمدنين على حد سواء.

ونتيجة لهذه السياسة، سمح لإيران بحفظ “اسهاماتها” في سوريا وفق ما وصفها أوباما، في حين إضطر حلفاء واشنطن السابقين للاعتراف بالنصر الإيراني والتصالح معه على طاولة المفاوضات في جنيف.

قد تنجح مقامرة اوباما في حال أثبتت إيران نجاعة في حفظ النظام والاستقرار في المنطقة، وخففت من أعباء واشنطن فيها. ولكن لا يوجد حتى الآن دليل واحد على نجاح هذه السياسية أو احتمال ذلك، فلم يكن هناك سابقة في نجاح دمج قوة ثائرة وطموحة في الهيمنة ضمن هيكل قائم بالأصل دون صراع واضح وانقلاب كبير فيه بالاساس.

وعلاوة على ذلك، فإن مشروع إيران للهيمنة على المنطقة يعتمد هيكلياً على عوامل زعزعة الاستقرار مستخدماً في ذلك الميليشيات الطائفية التي تهيمن على الدول الضعيفة والمجتمعات المنقسمة. فمثلاً، يتطلب الحفاظ على جسر لإيران يصلها بالبحر الأبيض، تحكم دكتاتورية أقلية في سوريا. ويستند هذا إلى الاستمرار في إخضاع القوة العربية السنية صاحبة الأغلبية هناك. وبحكم التعريف فإن حماية “الاسهامات” الإيرانية في سوريا يقتضي استمرار الحرب واستمرار الدعم لحزب الله واستمرار تدفق اللاجئين إلى الدول المجاورة وإلى أوروبا.

بعبارة أخرى، سيواصل الشعب السوري المعاناة من الموت والقتل وسيستمر في الهرب والهجرة،طالما استمرت سياسة امريكا في التعاون مع المسؤول الأول عن المعاناة والبؤس والموت السوري الحالي.

ضع تعليقاَ